لغة عبّاس بيضون

لغة عبّاس بيضون

كاظم جهاد
نشأ عبّاس بيضون في بيئة مثقّفة أفرادها مكتنزون بمعرفة معمّقة للتراث، عارفون بمسالكه الوعرة ومحيطون بمَداخله ومَخارجه. والده نفسه كان يكتب الشعر العموديّ وله فيه ديوان مطبوع. كان لنشأة كهذه أن تدفع شاعراً سواه إلى الوثوق ثقة مفرطة بإمكانات القول عنده وإلى اعتناق مسلكيّة شعريّة مبكّرة كمَنْ يعتنق الشّعر مثلَ مهْنة. بفعل فرادةٍ لديه ما برحت تميّزه،

عملَ هوَ باختيار معاكس تماماً. راح يرجئ موعد "ظهوره إلى النّور" كما يقول تعبير مكرَّس عن النّشر، وكأنّ مَن لم ينشر إنتاجه بقيَ منغمراً في الظلام. قَبِلَ بيضون ظلامَ البدايات وأطال منه وابتنى فيه نفقه الخاصّ، وشاء أن تكون بداياته عبوراً طويلاً للّغة وللعالَم. رفضَ النّشرَ طيلة سنوات، وكان هذا أوّل اختيار حاسم ستكون له نتائجه المعتبَرة. أنْ يمتنع عن الظهور قبل سنّ الثلاثين شاعرٌ لا صعوبة لديه في الكلام الشّعريّ ولا في غيره من الكلام، وخصوصاً لا تخلو جعبته من الشعر النّاجز المكتوب، ففي هذا آية بديعة. نتذكّر كم من السّنوات بقيتْ رائعته "صُور- قصيدة" حبيسة أدراجه،
لم يطلع بها على قرّائه إلاّ بعد ما انحفرَتْ في صدور العديدين صفحاتٌ منها كاملة، كان هو قد نشرَها هنا وهناك، فصار للقصيدة، قبل صدورها بأعوامٍ، صداها الكبير وأسطورتها الخاصّة. في فترة ينسخ فيها الشّعرُ الشّعرَ ويندر فيها الفريد والاستثنائيّ، ليس من اليسير، ولا بالعديم المفاجأة، أن يتحوّل نصّ إلى أسطورة، وأن تنقلب قصيدة إلى تميمة شافية يحملها في بواطن الذاكرة ودخيلاء القلب مُصابون بِداء الشِّعر كثيرون.
عندما نقارن الآن بين ما نعرفه عن التصوّر الشعريّ السّائد في بيئات تراثيّة أو تقليديّة كهذه التي نشأ فيها عبّاس بيضون وبين الحصاد الشعريّ الذي حقّقه هو في مسيرة يمتدّ الجزء الظاهر أو المعلَن منها وحده على ثلاثين عاماً، يُدهشنا ما قام هو به على اللّغة الشعريّة وبناء العبارة وسبل التّصوير الشعريّ من تصحيحات متوالية وانقلابات هي في الأوان ذاته معرفيّة وفنيّة. على صخب القول واحتفاليّته، هذه المهابة التي يسبح فيها تاريخ شعريّ كامل وتسري آثارها حتّى على شعراء تالين لجيل الرّواد، آثرَ بيضون شفافيّة القول و"افتضاحه"، وأبدى أكبر حرص ممكن على جلاء العبارة ونصاعتها. ولم يكن هذا صنيعاً سهلاً ولا ثمرة نزوة شخصيّة أو سليقة غير مفكَّر بها، بل هو نتيجة فعلٍ وتصميم وإرادة واختيار. مثلما يهوي النّحات بأزميله على الحجارة أو على كتلة الطين المتراصّة وغير المتشكّلة ويمارس عليهما تقليماً وتكويراً وتشذيباً ومعالجة، فمع كلّ قصيدة يبدأ شاعر كعبّاس بيضون عمله التّشذيبيّ على اللّغة، لا ليمنحها فحسبُ شكلاً، بل ليجرّدها من جميع الأشكال الموروثة والأفعال الآليّة والمعاني الجاهزة والانتحاءات الموجَّهة التي فرضها عليها تاريخ طويلة من الممارسة الشّعريّة. لا يصدر عمله عن اعتقادٍ ببراءة الكلمات وخلوّها من المعنى، بل بالعكس من كونها كلمات منخرطة في تاريخٍ وممتلئة بإفراط بمناطق من المعنى مكرورة، بل متهافتة، عليه هو أن يقوّضها كلّها ليضخّ لغته، أي لغتنا بعامّة، بمعنى آخَر ويُكسبها عاداتٍ جديدة. هكذا يمكن القول إنّ بيضون شاعر يعمل مستنداً إلى فلسفة شخصيّة كاملة في القصيدة واللّغة، وإلى فنّ شعريّ مؤسَّس ومكتمل. ولن يفيدكَ في شيء أن تبحث عن عناصر هذين الفلسفة والفنّ الشعريّين في ما يكتبه بيضون من نقد ومراجعات فكريّة لها هي أيضاً عمقها الخاصّ وفرادتها. ذلك أنّ تواضعه الجمّ واحترامه الكبير لتجارب الآخرين مهما صغرتْ يمنعانه من أن يفرض تصوّره الشعريّ الشخصيّ على سواه. ولمّا كنتُ، فضلاً عن كوني قارئاً مواظباً لكتابات عبّاس بيضون، واحداً ممّن نالوا شرف معرفته عن قرب، فأنا لا أتذكّر أنني رأيتُ كثيرين ممّن يضارعون بيضون في إصغائه العميق للآخَر- كلاماً وكتابة. هذان الفلسفة والفنّ إنّما ينبغي استجلاؤها في كتابته الشعريّة. هما ضرب من التصّور اللغويّ والوجوديّ والنقد الضمنيّ عليه تتأسّس أعماله وعنها تصدر. ولئن كان من شأن دراسة شاملة لشعره أن تبين عن محاور انعقاد هذا التصوّر وانخراطه في العمل واستحالته إلى سلوك، فلن أتمكّن في هذه العجالة من أن أقوم بأكثر من الإشارة إلى بعض هذه المَحاور وإلى اثنتين أو ثلاث من هذه اللمسات التحويليّة التي يُجريها بيضون على لغة القصيدة، ومن خلالها على اللّغة.
أوّل ما يلفت الانتباه في شعر بيضون خلوّه المتعمّد من كلّ عدّة بلاغيّة أو يكاد. ولمّا كان من المتعذّر أن تخلو كتابة من بلاغة، ما دام معنى "البلاغة" بالأصل، على ما يرى الجاحظ، مرتبطاً ببلوغ المعنى وإبلاغه، فينبغي الكلام في حالة بيضون على بلاغة مضادّة أو ضدّ – بلاغة. متانة كلمات الشاعر وقوّة أفكاره ومنطقه الشعريّ وما تشي به مقالاته من معرفة معمّقة بالتراث العربيّ وليس بالأدب الغربيّ وحده، هذا كلّه يمنعنا من التفكير بأنّه يتنكّب سبُل البلاغة أو يتجنّبها لاغترابه عنها. بل هو رفض لمحسنّات الكلام نابع من اعتقاد حاسم ونهائيّ بأنّ حُسن الكلام إنّما يتأتّى من "فقره"، فقر مكتسَب بفضل صراع عنيد وشبه مهووس ضدّ نوافل الكلام. كانت العرب تدعو المرأة المجرّدة من الحليّ "عاطلاً"، وعليه فما يمارسه عبّاس هو نوع من "تعطيل" اللّغة لتمارس أثرها بلا زوائد ولا عكّازات، ما يدعوه هو، باستعاراته المتواترة من لغات الغرب، "إكسسوارات". كانت العرب أيضاً تقول إنّ المحسّنات اللغوية وأدوات البلاغة هي كالملح والتوابل لا غنى عنها ليطيب الطّعام ولكنّ كثرتها مُفسِدة له. بيضون يبدو بالعكس عاملاً بمنطق متطرّف يجد روعة المآكل في تقشّفها. عندما تتخلّص اللّغة من أفاويهها لا يبقى سوى الأساسيّ. وفي جرّ الكلام الشعريّ إلى مستوى المائدة ما يثير حذر الشّاعر ويستفزّ باصرته الشعريّة المثقّفة التي ترفع خطاب القصيدة إلى مستوى غذاء آخَر، مختلف تماماً، بل حتّى إلى مصاف "سمّ" ضروريّ. من هنا هذه الصّوَر الصّادمة، والانحياز إلى تصوير "عفن" الجسد والعالَم، ما يدعوه جورج باتاي "الشطر الملعون" من الوجود، جانبه الأسوَد الذي توقّف نقّاد عديدون أمام سريانه في شعر بيضون. لقد استغرقَ هذا الجانب كلام غيرِ ناقد وناقدة، وكان هؤلاء محقّين تماماً في وقفاتهم هذه لأنّ إبراز بيضون للشطر الملعون هذا جاء لافتاً وشديد التواتر والتركيز، ولا شكّ أنّه يشكّل إحدى أهمّ المَعالِم الجديدة التي بها وسمَ هو لغتنا الشعريّة وذائقتنا. ينبغي مع ذلك، في اعتقادي، عدم نسيان أنّ هناك جوانب أُخرى في شعره، وأنّ انشغاله بتصوير "عفن" الواقع وفهمه يجد رديفه ومعادله الموضوعيّ في فلسفة للجَمال مؤسَّسة هي الأخرى وناطقة بقوّة في سائر قصائده.
هذا الاستبعاد للبلاغة في مفهومها التقليديّ يجرّ معه، لدى بيضون، تبنّياً جريئاً ومُنعشاً لأواليّات الجملة التقريريّة أو الرّوائيّة بصورة مفارقة لا تغرّبنا عن الشِّعر بل تسوقنا إلى صميمه. أفتح على هوى المصادفة صفحة من "نقد الألم" وأقرأ: "شبح رجل وامرأة. صنعا من نظرة جسراً. من ابتسامة سريراً. تركا ناراً على السّرير، وحدها تبقى حين يقترن الوجهان" (ص 44). يقدر هواة النقد التّطبيقيّ والبلاغيّ أن يستأنسوا طويلاً بتحليل التكسيرات الدالّة التي يمارسها الشّاعر هنا على الأواليّات المتعارَف عليها والمعمول بها للأداء اللغويّ. فالعبارة الأولى مبتدأ بلا خبر. الخبر يأتي في الفعل الذي يتصدّر العبارة الثانية المفصولة عن الأولى بنقطة لا تخطئها عين. العبارة الثالثة معطوفة على الثانية إضماراً، أي بلا أداة عطف. العبارة الأخيرة متماسكة بالعكس ولا تكسير ممارَساً فيها على منطق اللغة والنّحو. للمروق على أعراف اللّغة في الشطر الأوّل من المقطع مبرّراته وآثاره في تلقّينا الشعريّ، وللوفاء للمنطق القاعديّ في اللّغة في الشطر الثاني من المقطع مبرّراته الفنيّة ونتائجه أيضاً. في البدء قطّعَ الشّاعر أفعال العاشقَين ليُبرز كلاًّ منها بمقتضى ثقله الخاصّ وحمولته الخاصّة. وفي الختام حرصَ على مراعاة تكافل شطرَي العبارة لأنّ النّار التي تركها العاشقان على السّرير لا تنال معنى ولا وزناً ما لم يُسارع الشّاعر إلى التأكيد على ما يصنع فرادتها: بقائها علامة على اقترانهما. وعندما تُراجع المقطع وترى أنّ الأمر يتعلّق بجسر مصنوع من "نظرة" وبسرير منحوت من "ابتسامة" وأنّنا لا نرى من العاشقين سوى "شبحهما"، تُدرك أنّ منطق المعنى وليس منطق البناء اللغويّ وحده يتلقّى هو الآخر انزياحاتٍ دالّة هي وحدها الكفيلة بتجسيد معجزة اللّقاء العشقيّ خارجَ كلّ مقاربة غزليّة معروفة. ولا يفوت القارئ المدرَّب أن يلاحظ ما يدين به فنّ التقطيع هذا، الذي يعمل تارةً بالفصل وبالوصل طوراً، أقول ما يدين به لحنكة سينمائيّة (و"السّينما هي، اشتقاقيّاً، "رسم الحرَكة") ولثقافة بصريّة تقفان هما أيضاً ضمنَ عناصر تفرّد بيضون بين أقرانه من الشعراء العرب.
من هنا كانت القراءة الأولى خادعة أبداً لدى التعاطي وهذا الشّعر. في أغلب صوَره الشعريّة إن لم يكن فيها كلّها، يمارس بيضون هذا الترّحيل للصّفات والمحمولات، ورثه عن كبار شعراء الغرب والشرق وأضاف إليه من عنده وصيّر منه فنّاً شخصيّاً. أطرح كمثال صورة واحدة في أربع كلمات: "تذرفينهم ويعودون في دموعك" ("الخطيبة"، "نقد الألم"، ص 45): الدّموع هي في العادة ما يُذرَف. لكنّ العشّاق السّابقين أو الخُطّاب الرّاحلين هم مَن يعودون عبر دموع المرأة رغم ما تبذله من جهد في "ذرفهم" وإخراجهم من دواخلها. لا حاجة بالشّاعر لكلمات وفيرة لتصوير وفاء العاشقة وارتسام صورة المعشوقين الأبديّ في ذاكرتها الوفيّة أو العاجزة عن النّسيان. يكفي لهذا صورة مقتضبة وترحيل بارع لمكان المسمّيات والمنعوتات. هكذا تنشأ علائق جديدة لعناصر اللّغة هي في الأوان ذاته، بل قبل ذاك، حوامل لنمط من الرؤية الشّعرية مُغاير. وعلى أثر هذه اللمسة الأولى المبارَكة تندفع بقيّة الصّور: "لا ترتجفي يا حبّي... لن يعرف أحدٌ كيف خرجتِ شمعةً من العاصفة. كيف تعود نسمتكِ امرأة" (الصّفحة نفسها). لن تبكي الخطيبة المهجورة أو التي ربّما كانت الحرب التهمتْ خُطّابها المتتالين أمام شمعة، بل تصبح هي نفسها الشمعة السّائرة التي يدعوها المتكلّم في القصيدة إلى عدم الارتجاف. ولن تصير هي بمثْلِ نعومة النّسيم كما اعتاد الشعراء العرب القول، بل إنّ نسمتها، أو روحها، أو المرأة نفسها بما هي نسمة، ستصير حياة. هذه وسواها تشكّل مخزوناً ثريّاً وواسعاً من صوَر عادلة وصائبة بالقدر ذاته لأنّها وفيّة لمنطق المُغايَرة نفسه. منطق تعوّده بيضون وأتقن بلورته حتّى صار ديدناً له وطبيعة. تطير ألباب الرّجال أحياناً ولهاً بنساء لأعينهنّ حوَلٌ خاصّ يمنح نظراتهنّ غوايةً وعُمقاً. في لغة عبّاس بيضون الشعريّة "زوغان" أو "تزييغ" بالغ الخصوصيّة قادر على ترحيل اللّغة المألوفة إلى منقلبات للمعنى خطيرة، وعلى إعادة صوغ المواطئ اللغويّة والإدراكيّة المشتركة بحيث تتخلّص من "كليشيّتها" وتكتسب أدائيّة جديدة. سبقَ أن كتبَ دريدا أنّنا إذْ نعمل خارج الموروث تماماً نجرّد مبادرتنا من كلّ إمكان للتأثير عليه. يخرج الشّاعر من التراث جارّاً معه بعض أدواته ومعانيه التي استحالت حجارة هامدة ويُعيد إنعاشها بضربات مطلقة الجدّة من أزميله، هذه الكناية السّائرة عن وعيه الشعريّ وبراعته الأسلوبيّة.
حركة الخروج من اللّغة وعلى اللّغة، ما دعوناه بكلمة دولوزيّة (نسبة إلى الفيلسوف جيل دولوز) ترحيل المعاني والكلمات، يرافقها إذَن دخول في مناطق "عذراء" وغير سالكة من اللّغة ومن المعنى وكذلك بانتباه وفيّ وصارم إلى تجدّدات اللّغة نفسها وارتباطها الحميم بمعيشنا اليوميّ الأكثر حرارة. وهنا أيضاً يعرب بيضون عن جرأة كبيرة ويسبح ضدّ التيّار. شعره مخترَق بكلمات عاميّة، لبنانيّة تحديداً، بعضها مستعار من الفرنسيّة كما هو شائع في "محكيّة" أهل لبنان. لن أُكثر هنا من الأمثلة ولن أقدّم لهذه الكلمات جرْداً، لأنّها مألوفة لدى قرّاء الشّاعر. لا على التعيين أفتح الصفحة 27 من "شجرة تصبح حطّاباً"، في قلب إحدى أهمّ المراثي التي جادت بها العربيّة: "لا أحد في بيت السيكلوب". على مدى سبعة أسطر تجد العبارة التالية: "للدقّة نقول إنّ العمليّة مرتّبة كتيوريم هندسيّ" والعبارة: "لا بدّ من إخراج أشياء كثيرة قبل أن يصلوا: السّوتيان الذي تلبّد وانتفش كقطّة ميتة". قد تكون المفردة "تيوريم" بمعنى نظرية في الرياضيّات أو الفيزياء شائعة لدى أغلب من اجتازوا المرحلة الثانوية أو الإعداديّة في الدراسة في سائر البلاد العربيّة، إلاّ أنّ المفردة "سوتيان" ليست كذلك لدى مَن يجهل الفرنسية أو المحكيّة اللبنانية التي استعارت المفردة منها. لنتخيّل الشّاعر وهو يُحلّ "نظريّة هندسيّة" محلّ "تيوريم" و"منْهَدة" محلّ "سوتيان". لا شكّ أنّ الصّفحة ستفقد الكثير من أثرها الشعريّ. هذه المرثيّة الواسعة بصفحاتها الأربعين تستمدّ قوّتها من التّصميم المهووس شبْه المدروس في مرافقة الفقيد المنتحِر عبرَ أشيائه الأليفة ومكوِّنات عالَمه اليوميّ ومخلّفات عشقه، يعيد الشاعر قراءتها بصحوٍ مفجوع باعتبارها حوامل أو مرايا لمدرَكات صاحبها، أي الرّاحل المبكيّ نفسه. هي شعريّة باذخة وتفصيليّة للأثر، تستقرئه كما كان الشّاعر الباكي على الأطلال يستقرئ آثار الحبيبة الظاعنة باحثاً عن علاقة أثريّة أو كنائيّة للحبيبة بما كان يشكّل متنفَّساً لها وإطارَ حياة. إنّنا لا نخرج من الطلليّة أبداً، ولا ينفكّ الأثر يداهمنا بوجوده القويّ. سوى أنّ الشّاعر يبرع في تجديد أدواته ويكبّ على إنشاء طلليّة جديدة. وعندما يقول في أوّل الصّفحة، بتقريريّة متعمَّدة: "للدقّة نقول..."، فينبغي أن نصدّقه على القول: جاء ليصبح هو "مسّاح" الألم وخرائطيّ الذّكرى. لا تطويب الميت ولا تقنيع انتحاره الفادح هو ما يهمّه، بل مزيد من التعرية ودقّة في الاستكناه فيهما يقوم شرف رثائه للرّاحل ومغزى رحلته الشعريّة في حضرة فقيده. وإذْ يجرّنا إلى التماهي وبحثَه الممضّ هذا، فسرعان ما يصبح فقيده فقيدنا نحن وفقيد اللّغة وخسارة الحياة. هكذا تصبح القراءة هي أيضاً علاقة كنائيّة وتبادليّة وعدوى مقبولة.
هذه الملاحظات تستكمل أثرها لدى التفكير بتعامل الشّاعر وبناءَ الأبيات والعبارات داخل المقطع، وبناء المقاطع داخل العمل كلّه، ما يمكن تسميته "نحو القصيدة". مع عبّاس بيضون فرضتْ نفسها على العربيّة، وبقوّة، هذه الكتابة التي يمكن دعوتها "الكتابة الشّذريّة"، التي تُدعى في الفرنسيّة: « aphoristique » عندما يتعلّق الأمر بعبارات منفصلة و: « fragmentaire » لدى الإشارة إلى كتابة مُقطَّعة أو مَقاطعيّة. هذه الكتابة كان للعرب عِلم بها وممارسة لها، ثمّ نسيتها الذاكرة الثقافية إلى حدّ ما، وأعادَها إليها بيضون بعد انعطافة قادتْه إلى مَطارح هنري ميشو ورنيه شار. تقوم هذه الكتابة على تغليب العبارة على المقطع، والمقطع أو الفقرة المستقلّة على النصّ الطويل المتسلسل المزعوم التّكامل والانغلاق. كانت العرب تدعو الجمَل المكتفية بذاتها مع إمكان انخراطها في كلّ دالّ ومتكافل: "توقيعات"، والفقرات المكتفية بذاتها شعراً أو نثراً: "مُقطََّعات". تنطبق تسمية "التّوقيعات" أو "كتابة الشذّرات" هذه، بين نصوص أُخرى كثيرة، على عبارات تجدها معزولة أو منفصلة وسطَ متنٍ متضامِن في "نهج البلاغة" لعليّ بن أبي طالب، وعلى الحكَم المتناثرة في أحاديث الأنبياء وأقوال المتصوّفة والبُلغاء. المثل السّائر والحكمة الشعبيّة والعارفة والمفارَقة البليغة وسواها، هذا كلّه ينضوي تحت لواء هذه الكتابة. الّشعر العربيّ القديم نفسه، بقاعدته المعروفة بوحدة البيت، يتبع المنحى البنائيّ ذاته. ولعلّ الكثيرين ينسون قانون التمفصل المزدوج الذي يتحكّم بوحدة البيت هذه: يتمتّع البيت بأدائيّة مستقلّة ويكفي معناه أو شحنته الشعريّة بحيث يمكن عزله واقتباسه أو ترديده وحده، ولكنّه ينخرط في عمل بقيّة الأبيات، إليها يستند ومنها يستمدّ أثره في المجموع، مجموع متكامل على انتثار، ومتفاعل مهما تكن العزلة الظاهريّة التي تكتنف كلّ بيت. مع الموشّحات والشّعر الرّومنطيقيّ وقصيدة التفعيلة، وبتأثير، في ما يتعلّق بالشعر الحديث، من فنون الشعر الغربيّة، صير إلى تبنّي وحدة المقطع الشعريّ أو وحدة القصيدة. اليوم، بتأثير من تطوّر الشعر العربيّ نفسه ومن الانفتاح على جديد الشّعر الغربيّ، يُصار إلى اعتماد "الشذريّة" من جديدٍ صيغةَ إدراكٍ وجوديّ وبناءٍ لغويّ في آنٍ معاً.
للشذرة في الكتابة سِمات وخصائص ينبغي الانتباه إليها بدقّة. في أولّها يقف "الاقتضاب"، وكانت العرب ترى أنّه لا ينحصر في القول الموجز، بل هو القول المقتصِد الذي يفي غرضه. فهو القول المبتسر والغنيّ، الذي يتيح لكَ أن تقول الكثير بكلمات قليلة. مثْل هذين الابتسار في القول والخصوبة في المعنى يتطلّبان قدرة على التكثيف والضغط والإلماح لا تتأتّى لكلّ كاتب. وعندما تتوفّر هذه الصّفات للقول فهي تطبعه بشيء من التوتّر يُبعِد عنه كلّ سكونيّة، ويتطلّب من القراءة قدرة على التكثيف واللّمح مماثلة. وفي أغلب الأحايين يمنع هذا "الانضغاط" من أن يبين المعنى فوراً، ولذا فإنّ نيتشه، وهو أكبر مَن مارسوا كتابة الشّذرات والمقطّعات والتّوقيعات بين فلاسفة الغرب، كتبَ في "ما وراء الخير والشرّ"، شارحاً منهجه "الشذريّ" ومفتخراً به، أنّنا، لكي نُحسن قراءة "الشّذرات"، ينبغي "أن نكتسب خاصيّة لا يعرفها المُحدثون وتمتلكها الأبقار والجِمال، ألا وهي خاصيّة الاجترار". طويلاً يحتفظ القارئ الفطِن في ذاكرته بكلمات "الشّذرة"، يفهمها دون أن يفهمها حقّاً، ثم" تفرض دلالتها أو "لسعتها" الكاملة نفسها عليه في ما يشبه الومض. عن نيتشه وعن فلاسفة الأخلاق الفرنسيّين في القرن السّابع عشر أخذ رنيه شار "الشّذرة" وفرضها في شطر من شعره كبير. سوى أن شذرة الشّاعر ليست كشذرة الفليسوف، وقد لا يجمعهما سوى قانون الاقتضاب والقدرة على إحداث تأمُّل صاحٍ، أي مجرَّد من الأوهام، لظواهر الوجود. الحكمة في شذرات الشّاعر مصحوبة بعاطفة، قد تكون مريرة أحياناً، وخطاب الفِكر مجدولٌ لديه بعمل الصّورة أبداً. أضفْ عمل الإيقاع، الذي قد يغيب لدى الفيلسوف ويسود لدى الشاعر مهما يكن من وجازة صياغاته. كما قد تكون معاينات الشّاعر الشّذريّة منغرسة في تاريخ أو في هنيهة مخصوصة، وإن كانت تنزع إلى اجتيازهما لتشكّل حقيقة مبرمة، أمّا شذرات الفيلسوف فتتوخّى اللاّ-زمنيّة وتنشد انعتاقها من كلّ سياق.
من "معاقرة" شعر رنيه شار ومن معرفة وثيقة بموروث العرب جاء بيضون إلى "الشّذريّة" ليفجّر لها في العربيّة، وليفجّر بها للعربيّة، إمكاناتِ خصب وأفقَ وعد. تارةً تقابل معاينة فكريّة معزولة ومحاطة ببياض ضروريّ: "الموتى دائماً أشباهنا. لذا يُفسدون مخيّلتنا"، وطوراً ترى صورة تتمخّض عن فكرة: "الحبل على عقدة الزّهرة: معنى ما لعصفور"، وطوراً آخر مفارقة أو التفاتة مريرة: "امرأة تدفن العائلة، في مَنام ضرّتها" (القبسات الثلاث من "دخان القطب"، "زوّار الشتوة الأولى"، ص 156). وكما أسلفتُ في القول، فانتثار هذه الشذرات في أفق الكتابة لا يمنع، بل بالعكس يستدعي قيام أواصر محكمة بين مجموع الشّذرات في عمل بذاته أو داخل العمل الكليّ للشّاعر. وكما أثبتتْه الجماليّات الحديثة، فالتجاور يصنع هو أيضاً إمكان علاقة، والعناصر المتعايشة في نصّ أو لوحة لا تفتأ تقيم بعضها مع البعض الآخر حواراً وتنافذاً وإشعاعاً مشتركاً وفيضاً من الجزء على الكلّ ومن الكلّ على الجزء، أي من الكلّ على الكلّ.
في بداية السّبعينات أقام عبّاس بيضون لفترة بباريس، وهناك قرأ كتّيباً للفيلسوف جيل دولوز والمحلّل النفسيّ فيليكس غاتاري. عنوان الكتّيب هو: Rhizome، وقد ضمّه المؤلّفان بعد سنوات إلى كتابهما المشترك الضّخم "ألف هضبة"Mille plateaux . مفردة العنوان آتية من اليونانيّة، وتعني "حزمة جذور" أو "جُذَيرات"، وهو ما سمّاه العرب "جذروماً"، ثم" قلبوا التسمية، كما كانوا يفعلون غالباً لضرورات إيقاعيّة، إلى "جذمور". ينمو "الجذمور" أفقيّاً، ويشكّل امتداداً هو في الأوان ذاته الجذر والسّاق، كما في نبتة الزّنجيل، أو يتحوّل إلى عصيّات، كما في البطاطس. ولأنّه يتكاثر بغزارة وينتشر بروعة وينْعقد حول نفسه ويبدو مبروماً ويتنامى في جميع الاّتجاهات، فقد اتّخذه المفكّران صورة لنصّ أو كتاب لا يعرف بداية ولا نهاية ويتوالد من نفسه وينمو من وسطه ويسلك في كلّ مرّة مساراً مختلفاً، أي ما يخالف الكتاب الكلاسيكيّ المعهود، المعروف بانغراسه وتصلّبه، والذي يدعوانه "الكتاب-الشّجرة". أُعجب بيضون بالكتّيب، وبالفكرة، وكتب في الموضوع مقالة شيّقة. للفيلسوف باسكال مقولة ينسبها جان جينيه سهواً في كتابه "أسير عاشق" Un Captif amoureux إلى السيّد المسيح: "هل كنتَ ستبحث عنّي لو لم تكنْ مِن قبلُ وجدتَني؟". أحسَب أنّ بيضون أُعجب بفكرة الفيلسوفين عن الكتاب-الجذمور لأنّه كان يحمل من قبلُ إرهاصها في داخله. أو فلنقلْ إنّ الفكرة جاءت لتجسّد بنصاعة حلماً جماليّاً أو بنية شعوريّة وذهنيّة خاصّين به هو نفسه. ذلك أنّني، وهنا أعود إلى فكرة "المقْطعيّة"، أجد في قصائد بيضون الطّويلة جذامرَ سائرة في كلّ اتّجاه، نامية من الوسط، ومتوالدة من مركز خفيّ تشير هي إليه بحذق فيما تغذّ في النأي عنه. قصيدته "لا أحد في عين السيكلوب" هي سلسلة من رقصات جنائزيّة تبتعد في حلقات وتعود كلّ مرّة لتلمس نابض الوجود اللهّام والملتهَم ذاته. "الجسد بلا معلّم" هي جملة انعطافات حاذقة تبدأ بأشياء غير ذات بالٍ من العالَم الحميم للمتكلّم في القصيدة (والذي يخاطب ذاته)، لتسمّي جغرافية جسدٍ وحواره المضطرد مع محيطه ومكوّناته هو نفسه. وهكذا هو شأن أغلب دفاتر بيضون، التي تتجاور في مجموعاته، وتتألّف من جذامر أو عصيّات تحفر كلّ واحدة منها، ضمن قانون التمفصل المزدوج المشار إليه، في اتّجاهها الخاصّ وفي الأوان ذاته في سبيل تضافرات سريّة ومؤكَّدة. في هذا كلّه تبرز هندسة بارعة ونزعة أوركستراليّة لم يُتَحْ لي في هذا المجال سوى أن ألمّح إليها من بعيد.

* مترجم وناقد عراقي مقيم في باريس
جريدة النهار حزيران 2006