سوزان سونتاج.. الكتابة بوصفها ولادة ثانية

سوزان سونتاج.. الكتابة بوصفها ولادة ثانية

علي حسن الفواز
تكتب سوزان سونتاج العالم كماتراه، وكما يهجس به وعيها، وأية كتابة خارج هذه اللعبة الباهرة لاتعدو أن تكون نوعا من الخداع، فهي تؤمن بالصدق والنزاهة والذكاء، وأن الوجود تشرعنه هذه القيم وهذه الأفكار، وأن هذه الكتابة هي ولادة ثانية تماما...


في كتابها(ولادة ثانية/ اليوميات المبكرة 1947-1963) تحرير/ ديفيد ريف وترجمة عباس المفرجي، والصادر عن دار المدى/ 2014 تكشف عن صدق ماعاشته، وما آمنت به، لأن سيرة الإنسان في المكان، وفي علاقاته مع الآخرين تفترض وجود الإيمان بالذات أولا، وإتخاذ القرارات اللازمة وفي تعرية العالم الذي تحاول أن تعيشه بعمق..
هذا الكتاب الذي قام بتحريره ولدها(ديفيد رايف) ضمّ يومياتها المدونة في أوراقها خلال ست عشرة سنة، والتي تركتها دون وصية، لأنها كانت تؤمن بنوع من الخلود، وأن المرض الذي تفشى في جسدها لن ينال من هذا الإحساس المتدفق..
يقول رايف: هذه اليوميات هي بالكامل قضية أخرى، كانت مكتوبة لنفسها فقط، وعلى نحو متواصل، منذ فترة مراهقتها المبكرة الى آخر سنوات حياتها، عندما بدا لها أن حماسها للكومبيوتر والبريد الالكتروني يكبحان إهتمامها بحفظ اليوميات، إنها لم تسمح أبدا بنشر سطر منها، كما لن اقرأ منها، بخلاف بعض كتاب اليوميات)ص6
الصراحة في تدوين هذه اليوميات تكشف عن وعي سوزان سونتاج لذاتها، فبقدر ما كانت تضع هذه الكتابة وهي مسكونة ب(البوح الذاتي) فإنها تحمل معها هواجسها التي تلامس أدق خفايا حياتها وعلاقاتها وسرائرها، لاسيما مايتعلق ببعض جوانب غامضة عن مثليتها الجنسية، وعن طبيعة قلق هويتها اليهودية، وخصوصيتها الشخصية في مواجهة تحديات ومواقف تتبدى عبر كتاباتها، وعبر إصرارها على تدوين هذه الكتابة بوصفها جوهر وعيها الذاتي، وحتى عبر ما تحاول أن توحي به عن توصيف مزاجها، ذلك المزاج الأوربي الذي يتلبسها، بعيدا عن شخصيتها الأمريكية، والتي ليست مهيمنة بالمعنى الطاغي لهذه الشخصية..
تبدأ يوميات السيرة من يوم 23/11/ 1947 والتي تستهلها بجملة أنوية جدا(أنا اؤمن) ص13 وكأن هذا الايمان الشخصي هو عتبة للتوغل في الكثير من الإيمانات الشخصية التي تلامس طبيعتها، وخصوصية نظرتها للأشياء التي تخص(الظل والأخلاق والقوة والسيطرة والاعانات الحكومية) وكل مايتعلق بالجوانب المدنية التي تخص نزعتها الرومانسية المبكرة..
في هذه اليوميات تتضح رؤية سونتاج الفكرية، فهي تقول عام 1948 بأن(الأفكار تعكر سطحية العيشة)ص14 وهو مايعني أنها تكره العيش تحت أية طريقة بسيطة، وأنها تبحث دائما عن الإثارة، تلك التي تحفّزها على أن تكون مستيقظة في حياتها، وأن تعيش بما يناقض الطفولة، وأن تنحاز الى ماتراه، وما تحسّ به، وماتلتذ بسماعه، لاسيما الموسيقى، تلك تجعلها تستمع بالكثير من اللذة، والكثير من التفاصيل الأخرى..
هاجس البحث عن اللحظات الثقافية يشكل واحدا من أهم ملامح تلك اليوميات، لاسيما قراءة الكتب ومشاهدة المسرحيات، منها كُتب أندريه جيد، ووليم فوكنر وجورج ميريدث ورامبو وغيرهم، وكذلك مشاهدة مسرحيات أونيل وسينغ وهيلمان وغيرهم..
لاتضعنا هذه اليوميات أمام مفارقات حياتية، أو حتى صدمات كالتي يتصورها البعض في الكشف عن المسكوت عنه، لكن مايميز هذه اليوميات هي الصراحة والبساطة والصدق، بدءا من يومياتها في الجامعة، وفي علاقتها العاطفية، وحتى في زواجها وهي(لم تكد تبلغ السادسة عشرة)ص23
فضلا عن التفاصيل العادية التي تخص طبيعة شخصيتها الثقافية، تلك التي برصد لحظات عابرة، إذ يثير لديها شراء كتاب الدوس هكسلي، هاجسا لتوليد قراءة فائقة تستدعي الكثير من الإنطباعات، ومايمكن أن تحسّ به- خلال القراءة- من مظاهر للقبح أو للجمال، او الإذلال في التفكير بعلاقة جسدية مع رجل ما.. كل هذه الأفكار لاتخضع لتخطيط في التدوين، ولا حتى لقصدية بقدر ما أن تبوح به يعكس من إحاسيس مرهقة وموحية، لاسيما في إعترافها بعلاقتها مع صديقتها(إتش) وهي تتكشف عن لذة إيروسية مثلية غريبة ومتوترة، إذ تتقصى كل تفاصيلها، وكأن في هذه التفاصيل مسكونة بنوع من الفيتشية التي تجعلها تحس بالرهافة التدفق والألم والإنشداد الى فمها ويديها..
اليوميات وسرائر التحول..
هذه اليوميات- بقدر واقعيتها كسيرة ذاتية- تحمل معها الكثير من الإلمعات السردية، إذ هي تستفز مخيلتها، ودوافعها العميقة لكي تسبغ على ماهو يومي وواقعي أشياء باهرة، أو توصيفات أو حتى مواقف لها مرجعيات دينية أو شعرية أو فلسفية أو نفسية، وربما هناك نوع من الصوفية التي يبدو أن معرفتها ببورخس قد وهبتها الكثير من الإفراط بهذه في الكتابة العميقة والموحية..
الكشوفات في هذه اليوميات تضع التحول الحسي والثقافي بوصفه سؤالا حاضرا، ومثيرا، وباعثا على إستنطاق مايمور في وعيها القلق واللجوج، فهي تنحاز الى أنويتها، بما فيها الأنوية المثلية التي تتجوهر حول فكرة اللذة، تلك التي تعني العيش مع صديقتها(إتش) دونما إعتبار أخلاقي، وكذلك الأنوية الثقافية والإنفتاح على وقائع ثقافية مثيرة ومحفزّة للذتها المعرفية، منها مايتعلق بخواطرها وشعورها بالرهبة، ومنها مايخص نظرتها لتدوين اليوميات ذاتها، والتي تقول عنها: من السطحي فهم اليوميات كمجرد وعاء لخصوصية المرء، لأفكاره السرية- مثل صديق حميم مؤتمن، لكنه أصم وأمي. في اليوميات أنا لا أعبّر عن نفسي بصراحة أكثر مما أفعله مع أي شخص آخر، أنا أبدع نفسي) ص190
هذه النظرة الى اليوميات تعكس التلازم مابين ماتراه وماتدونه وماتعيشه، لأنها تؤمن بصدقية الإنسان، وأن أخلاقه هي الصورة الحقيقية لثقافته، وأن الفساد في الأخلاق سيكون أيضا فسادا في الثقافة، وهي نظرة(كانطية) تلك التي تضع الأخلاق/ الصدق بوصفها جوهرا أمام فعل الكتابة، وحتى وإن كان في هذه الكتابة نوع من الأنانية(أناي هي ضئيلة، حذرة، سليمة العقل جدا، الكتّاب الجيدون هم أنانيون صاخبون، حتى الى درجة الحماقة، سلامة عقلي أنا، أيها النقاد، تصححهم- لكن سلامة عقلهم هي طفيلية على القدرات الإبداعية للعبقري) ص191
وبقدر ماتعني سونتاج بالوصف الذي يُعني بسفراتها وتجوالها في الأمكنة المتعددة، فإنها أيضا معنية بوصف التفاصيل الإجتماعية، لأنها تجد فيها تعبيرا عن خصوصية الأمكنة، وربما تعبيرا عن حريتها، وحتى مايتعلق بحريتها في الإختيار، وفي طرح بعض الآراء والأفكار ومتابعة بعض الأخبار السياسية البسيطة والعابرة، لكنها تعني هاجسها بشيء ما
كتابة تعلّم....
مايمكن أن يثيره هذا الكتاب/ اليوميات هو التعلّم من التجربة والقراءة، ومن رصد مايجري في الحياة، لكن عبر عيون ترى جيدا، وترصد جيدا، لأن الكاتب يظل كما ترى سونتاج مشغولا بالتفاصيل، وأن الاشياء التي تتشكل لايمكن أن تكون الاّ عبر ما تتحسسها(الأنا) تلك المهووسة والمتدفقة والصاخبة، والتي لا تطمئن بسهولة. وأحسب أن جرأة سونتاج في تدوين يومياتها الحسية تعبّر أيضا عن قوتها الشخصية، وعن خيارها الأخلاقي للكتابة التي تعبّر عن هذه القوة، وعن إنحيازها لفكرة الصورة، حيث تكون الصورة الفوتوغرافية هنا هي الوثيقة وهي الأثر، وهي جوهر فكرة الخلود عبر التعبير، وهو ماظل يشغلها حتى نهاية حياتها.
إنها يوميات تعلّم، ويوميات تعرّف أيضا، ولعلي وجدت أنا القارىء لها، إحساسا مفرطا بضرورة أن ينحاز الكاتب الى ذاته، وأن يجعل من فكرة الكتابة هي ولادة اخرى، لكنها أكثر حرية وخصوصية لحياته التي يريد والتي يتشيأ فيها ويكون أكثر قربا من الأفكار التي تشغله، واللذات التي ينحاز للتعبير عن لواعجها مهما كانت خارجة عن السياق الإجتماعي والثقافي الذي يكبله الواقع والمقدس والنقاد...