التمفصلات الزمنية الكبرى والصغرى  في رواية  شرق الأحزان

التمفصلات الزمنية الكبرى والصغرى في رواية شرق الأحزان

أياد خضير
يعد العنصر الزمني في الفن الروائي عنصراً جوهرياً وفاعلاً بل انّه العنصر الحيوي الذي يستند عليه ويتشكل منه المتن الحكائي في الرواية على رأي الشكلانيين الروس لأن هذا العنصر هو الذي تدور في حيزه المتسلسل والمتداخل أو المنفصل أحداث الرواية وضمنه تتحرك شخوصها وتدب الحياة في أمكنتها ويتسارع هذا العنصر الجوهري عند الحوار و يتباطأ عند الوصف وتعدد تجليات الزمن في الرواية وتتنوع تمفصلاته ،

وما نقصده من الزمن في الرواية هو ليس الزمن الفيزيائي المتسلسل ( ماضي ، حاضر ، مستقبل ) وما يرتبط بهذا الزمن من سياقات لغوية نحوية بل هو الزمن الذي يكون ضمن المتن الحكائي ووحداته التي تختلف عن تراتبية الزمن الواقعي ، بل هو زمن متشكل وفق معطيات وحركية الحدث ورؤية الكاتب وهذا الزمن متعدد الأوجه في تنوعاته حتى أن الناقد ميشيل بوتور يقدم لنا الزمن في الرواية على أنه عدة وحدات تتعالق فيما بينها فيقسم الزمن إلى ثلاثة أقسام هي : زمن الكتابة ، وزمن المغامرة ، وزمن الكاتب وكثيراً ما يتداخل زمن الكتابة مع زمن المغامرة بواسطة زمن الكاتب *1 إنّ الزمن في الرواية الحديثة هو ليس ديكوراً أو قالباً رتيباً بقدر ما هو عنصر جوهري وحيز حيوي يقدم من خلاله الكاتب ما حدث في سنين مقروءاً بساعة زمنية من زمن القارئ وأن هذا الزمن يمتد في المتن الروائي ويتقلص وفق ما تقتضيه اشتراطات رؤية الكاتب في نقله للأحداث ورسمه للأمكنة وبنائه للشخصيات ، فيكون للزمن في الرواية الحديثة وجود محوري تتحرك فيه تفاصيل العمل الروائي وليس مطابقاً لزمن القصة فزمن القصة هو ما يقصد به زمن القصة في الواقع لكن زمنها ضمن المتن الروائي هو خاضع لمعطيات واشتراطات أخرى وتكون المؤشرات الزمنية في الرواية غير متطابقة مع الزمن الواقعي فهناك حذف لسنوات وتكثيف لساعات وسرد عن أيام وتركيز على حقب وهذا ما يكون تهشيم لزمن فيزيائي تمحورت فيه أحداث القصة الواقعية حتى أصبح الزمن في الرواية بمستويات طباقية تنفصل تمتزج كالزمن السيكولوجي وهو زمن بواطن الشخصيات ومنولوجاتها وزمن الحوار وتصارع الشخوص كزمن براني وزمن الوصف الذي يصف الكاتب فيه تفاصيل الأمكنة والأحداث والشخوص وهناك زمن الراوي وما يسرده من تفاصيل لتشكل هذه التمفصلات الزمنية المتعددة الكيان الروائي وتربط بناه اللغوية فيما بينها ،لنجد أن النقاد الغربيين أعطوا أهمية بالغة أيضاً لزمن الحكي في القصة كما ميزه الناقد الدكتور خليل الحمداني بقوله : ( ليس من الضروري من وجهة نظر البنائية أن يتطابق تتابع الأحداث في رواية ما ، أو قصة ، مع الترتيب الطبيعي لأحداثها – كما يفترض أنها جرت بالفعل – فحتى بالنسبة للروايات التي تحترم هذا الترتيب ، فإنّ الوقائع التي تحدث في زمن واحد لابدّ أن ترتب في البناء الروائي تتابعياً ... إن زمن القصة يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي للأحداث ، بينما لا يتقيد زمن السرد بهذا التتابع )*2 .
لقد كان عنصر الزمن وتجلياته في رواية ( شرق الأحزان ) للروائي عباس لطيف عنصراً محورياً وحيّزاً تتفاعل في مجاله الحيوي كل عناصر الرواية فلم يكن الزمن قالباً مجوفاً بقدر ما كان جوهراً متوهجاً وآصرة ترابط بما في هذا الزمن من مؤشرات زمنية متعددة ووحدات متنوعة من خلال التمفصلات الزمنية الكبرى والصغرى وما بينها من روابط ووشائج ، وهذا ما نحن قراءته نقدياً في رواية شرق الأحزان لعباس لطيف من خلال منهجية قرائية نقدية تستعرض أولاً ( التمفصلات الزمنية الكبرى ) في الرواية وتحللها لتنتقل إلى ما فيها من روابط ومؤشرات زمنية وتجليات تكون كواشف في زمن القارئ الذي سيتفاعل معه وتمنحه إشارات ودلالات متعددة من خلال قراءتنا المنتجة الواعية للرواية والتي ستتصدى قرائياً في محاور دراستنا إلى :
التمفصلات الزمنية الكبرى والصغرى :
ونقصد بالتمفصلات الزمنية الوحدات الزمنية الموجودة داخل زمن السرد وفق معمارية الهندسة الزمنية في زمن السرد والذي ليس بالضرورة أن يكون مطابقاً لزمن القصة الواقعي ، فلقد كانت هذه التمفصلات الزمنية الكبرى في رواية شرق الأحزان ذات ثلاثة أجزاء تتفاوت في شغل المساحة الورقية وأيضاً من حيث السعة والامتداد في مقاطع الرواية فكان الجزء الأول يبدأ من المقطع الأول للرواية وينتهي في المقطع الثالث وهو كان بمثابة تجليات استهلالية تكشف وتوضح ماهية القصة وطبائع وهيئات شخوصها وملامح تخطيطية أولى للبيئة التي تحيا فيها الشخصيات وتجري فيها الأحداث كما كان لافتاً إن هذه الوحدة الزمنية ذات الثلاثة مقاطع في بنية الرواية الشكلية كان فيها مؤشرات زمنية تشير إلى زمن كامن وليس ظاهراً من زمن القصة وكان بمثابة نصٍ محيط نستدل عليه من خلال تلك المؤشرات عن ماضي الأب وقدومه من مدينة العمارة إلى بغداد وتطوعه في سلك الشرطة وقضائه سنوات في شمال العراق بين الجبال وموت شروق الطفلة التي تكشف عن حقبة سجن الابن الكبير محسن وجذور العائلة وسكنها القديم في الشاكرية إنّ هذه الإشارات كانت تحيلنا لتخيل الزمن الكامن في هذه الوحدة التي كانت أصغر حجماً شكلياً لكنها كانت ذات كتلة دلالية كبيرة لما فيها من إشارات متوهجة :
(ارتسمت في ذاكرته صورة أبيه الذي لم يره منذ سنين إلا بإجازاته القصيرة فقد أفنى عمره في سلك الشرطة متنقلاً بين مدن وربايا وجبال الشمال ، وكان يصطحب العائلة معه أحياناً ، حيث أسكنها في كركوك والعمادية وسنجار ...) ص 10

( تلك الهجرة القسرية التي تصاعدت في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات ، وكان أبطالها الفلاحين ، الذين كابدوا ظلم الاقطاع والشيوخ وطقوسهم الغريبة في إهانة الفلاحين والأتباع ووجد نفسه كما يروي ذلك مراراً أزاء مدينة كبيرة الكل يعدو صوب عمله الناس فيها وعلاقاتهم ليس كما هي في أرياف مدينة العمارة ) ص 10
لقد كان لهذه المؤشرات الزمنية دور محوري في كشف الكامن من زمن القصة ليشكل نصاً محيطاً مع زمن السرد ‘ فالوحدة الزمنية الأولى كشفت عن مؤشرات تهيأ القارى للتفاعل مع التمفصلات الكبرى التالية والملاحظ فيها أن زمن السرد فيها كان أسرع وتيرة من الوحدات التالية لأن فيها كان الزمن مكثفاً وليس تفصيلياً كان يتكون من مؤشرات زمنية دالة ولا يستغرق في التفاصيل كثيراً وكان فيه الحوار أقل لأن زمن الحكي فيه كان يعتمد على الراوي العليم من ثمة دخول الراوي المعروض ( الممسرح ) (وهو كل شخصية مهما بدت متخفية وتتداول الحكي وتعرض نفسها بمجرد ما أن تتحدث بالضمير المتكلم المفرد أو المثنى أو الجمع أو باسم الكاتب وضمن هذا النوع نجد انواعاً منها الراوي الراصد والراوي المشاهد والراوي المشارك ) *3 وبدأت هذه التقنية مع شخصية محسن في سرد بعض الأحداث ليهيئ للوحدة الزمنية الكبرى التالية :
( استدار وقرّر تأجيل زيارة وزارة الدفاع إلى يوم آخر " لقد سلخ السجن مني سبعة أعوامٍ عجافٍ مرّت علي وعلى عائلتي وها أنا ذا أخرج عاطلاً عن العمل وكأني غريب لا أعرف ماذا أفعل ؟ . قد يكون الرفيق البرجوازي ، كما وصفه رشاد وحقل الدواجن هو طوق النجاة . لكي أغسل ذاكرتي من لعنة السجن وحكاياته الحزينة والمؤلمة" ...) ص22
إن الوحدة الزمنية الأولى في الرواية كانت ممهدة للوحدة الزمنية الثانية والتي كان فيها زمن السرد أكثر سعة من الوحدة الزمنية الأولى مقارنة بزمن القصة الحقيقي ، فالوحدة الزمنية الثانية بدأت من المقطع الرابع في الرواية وانتهت في المقطع العاشر من زمن السرد لكن آثارها وتجلياتها بقيت تتراءى في الوحدة الزمنية الثالثة وتكون أحداثها المفصلية أسبابا تؤدي إلى نتائج في الوحدة الزمنية الثالثة على سبيل المثال لا الحصر قصة الحب بين كامل وسراب والتي انتهت بزواج سراب وانتحارها وما شكلت هذه الحادثة من نقاط تأزم وصراع ومأساة في الوحدة الثالثة كذلك الحدث المفصلي والمحوري والذي استمر بتداعياته في الوحدة الثالثة ألا وهو (حامد ) الابن الثاني بعد ( محسن ) الذي اصبح دوره في الوحدة الثانية أقل أهمية من الوحدة الأولى وظهور الابن الثالث وهو (كامل ) والذي أصبح شخصية فاعلة في هذه الوحدة والذي سيكون الشخصية المحورية والمركزية في الوحدة الزمنية الثالثة ، لقد كان دور حامد المحوري في الوحدة الثانية ونشاطه السياسي وتطوعه في الجيش أخذ حيزاً كبيراً من الزمن السردي وكذلك ما حصل له من حادثة في الوحدة الزمنية الثالثة استمرت تجلياتها في مجمل مقاطع الوحدة الثالثة وكانت مؤشرات سببية تؤدي إلى نتائج وتأثيرات على الشخوص.