لنتذكر متي عقراوي وعبد الجبار عبد الله المؤسسان لجامعة بغداد..هل كانت كلية الآداب نواة الجامعة الاول

لنتذكر متي عقراوي وعبد الجبار عبد الله المؤسسان لجامعة بغداد..هل كانت كلية الآداب نواة الجامعة الاول

شيرين رحيم الجابري
تعد جامعة بغداد واحدة من أعرق الجامعات ليس على مستوى العراق فحسب، بل على صعيد الوطن العربي والعالم، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1957، وبذلك تكون أول جامعة رسمية في العراق، وأما البداية الحقيقية للتعليم الجامعي في تاريخ العراق المعاصر، فتتمثل بتأسيس كلية الحقوق،تعد كلية الحقوق من أقدم الكليات والمعاهد في العراق، يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 1908

عندما فتحت مدرسة الحقوق وهي المدرسة التي أقترحتها الهيئة الاصلاحية العثمانية التي زارت العراق، وسميت آنذاك (مكتب الحقوق العثماني)، فصدرت الارادة السلطانية على تأسيسها على ان تشغل بناية المدرسة الحميدية، التي كانت تشغل مبنى متصرفية لواء بغداد مقابل ساعة القشلة، ولم يتحقق ذلك إلى ان تولى الوالي العثماني ناظم باشا ولاية العراق سنة 1908، فأمر بترميم المدرسة، وعين يوم الثلاثاء الأول من ايلول سنة 1908 موعداً لأفتتاحها، وقد عين أول رئيس لكلية الحقوق هو موفق الالوسي بإرادة ملكية من قبل الملك فيصل الأول بتاريخ 5 تموز 1930. في سنة 1908 والتي أعقبها تأسيس كليات ومعاهد عالية تحت ظروف مختلفة وفي حقب متفاوته حسب دواعي الحاجة إلى المهنيين والمختصين، فأسست كلية الطب في سنة 1927 وكلية الصيدلة في سنة 1936 وكلية الهندسة في سنة 1942 وكلية التحرير (للبنات) في سنة 1946 وكلية التجارة في سنة 1947، وقد كانت جميع هذه الكليات لاتعدو عن كونها مدارس مهنية غاياتها أعداد الموظفين أو المتخصصين بمهن معينة.

مراحل تأسيس جامعة بغداد:
لعل أول محاولة ظهرت لتأسيس جامعة في بغداد يعود إلى بداية الحكم الوطني عندما عاد إلى أرض الوطن لفيف من رجال الفكر والنخبة المثقفة من العراقيين والعرب ليساهموا في توطيد أركان الحكم الوطني الجديد في البلاد، وظلت فكرة الجامعة تراود عقول الكثيرين منهم، فجرت عدة محاولات منها: محاولة إصلاح مدرسة الامام الأعظم، فاستجاب الملك فيصل الأول لهذا الإصلاح والرغبة وشجعها ووجهها وعهد إلى فهمي المدرس، دراسة مقترح أنشاء الجامعة وتطوير مدرسة الامام الأعظم وجعلها كلية تعلو فوق جميع المدارس الدينية وجعلها شعبة من جامعة كبيرة، سميت فيما بعد بـ(جامعة آل البيت) وأطلق على الشعبة نفسها اسم (الشعبة الدينية العالية) على غرار الشعب الأخرى، ونتيجة لوجود معارضة قوية لهذا المشروع فقد أصدر الملك فيصل أوامره بإغلاق الجامعة في 4 /آيار/ 1930 قبل أن ينهي الطلاب امتحاناتهم، وبعد إلغاء الجامعة عادت الشعبة الدينية إلى مكانها السابق، حتى ألغيت سنة 1935، وأسس مكانها دار العلوم العربية على غرار دار العلوم في القاهرة.
تجددت المساعي لفكرة تأسيس الجامعة عندما كان صادق البصام، وزيراً

للمعارف في وزارة ياسين الهاشمي الثانية (1935-1936) إذ تقدم البصام مع عقراوي الذي كان عميداً لدار المعلمين العالية بمذكرة إلى مجلس الوزراء يستهدف فيها تحويل دار المعلمين العالية إلى كليتين الأولى للآداب والثانية للعلوم، وقد
دعى بعض الشخصيات للاجتماع مناقشة موضوع تأسيس الجامعة، ومن
بينهم وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني، ورئيس مجلس النواب محمد أمين زكي، وعميد كلية الطب العراقية حنا خياط، وساطع الحصري
(مدير التدريس والتربية العام في وزارة المعارف) وعبد الرزاق
السنهوري، عميد كلية الحقوق، وذلك للاجتماع في ديوان وزارة المعارف، للمذاكرة حول موضوع تأسيس جامعة عراقية، وكان ذلك في شهر شباط سنة 1936.
وفقاً لما ورد في التقرير الذي رفعه البصام إلى مجلس الوزراء في 15 /شباط 1936، أرسل مجلس الوزراء إلى وزارة المعارف استفساراً عن مقدار النفقات المتوقعة لتأسيس جامعة عراقية، فأجاب وزير المعارف بتقرير أرسله إلى مجلس الوزراء في 10 آذار من السنة نفسها، بأن النفقات المتوقعة لتأسيس الجامعة لاتتجاوز (2000) دينار سنوياً، وذلك على اعتبار ان كليتي الطب والحقوق باقيتان على نفقاتهما، اما فرعا العلوم والآداب المزمع تحويلها إلى كليتين فأن النفقات المخصصة لهما، بالإضافة إلى المبالغ التي ستنفق عليهما، والتي لا تتجاوز المبلغ المذكور اعلاه، سوف يسد احتياجهما من الانفاق، وبذلك يكون مقدار الإنفاق المتوقع لتلك الجامعة لا يتعدى ألفي دينار على أكثر تقدير. غير انه تم تأجيل البت في مشروع الجامعة إلى اجل غير مسمى.
تجددت المساعي مرة أخرى لإنشاء جامعة عراقية خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) عندما ظهرت المحاولة الثالثة، وهي المحاولة الثانية لصادق البصام وزير المعارف، الذي وجه مذكرة إلى مجلس الوزراء بشأن تأسيس جامعة في بغداد، أوضح فيها الأسباب الموجبة، وأقترح المكان المناسب لها في منطقة باب المعظم لانه يجمع معظم الكليات والمعاهد القائمة آنذاك، فوضعت دراسات ومذكرات كثيرة حول الموضوع، فضلاً عن الاستعانة بعدد من الخبراء والمختصين بشؤون التعليم العالي، وبتاريخ 19/ آذار/ 1940 وافق مجلس الوزراء على تشكيل لجنة لدراسة"تأسيس جامعة للدراسات العليا في العراق".
قرر مجلس الوزراء في آب /1942 تشكيل لجنة مؤلفة من عمداء كليات الطب والحقوق ودار المعلمين العالية الذي كان متي عقراوي عميدها آنذاك ومديرية الري العامة ورئاسة ديوان التدوين القانوني، غرضها دراسة مشروع الجامعة، ووضع التقارير التي ترشد الحكومة إلى كيفية العمل من أجل تنفيذ المشروع، وكان يرأس تلك اللجنة هاملي، وهو خبير تربوي بريطاني.
كان إلى جانب عقراوي في تلك اللجنة كل من، عميد الكلية الطبية سندرسن وحسن جاد (ممثلاً عن عميد كلية الحقوق) وحامد زكي وأنطوان شماس مدير التدوين العام ورئيس اللجنة المستشار في وزارة المعارف هاملي، فقدمت اللجنة تقريرها في شهر شباط سنة 1943، فأوضحت للحكومة العراقية بصورة جلية أهمية الجامعة والفائدة المرجوة منها للعراق خاصة، ولهذا الجزء من العالم بصورة عامة.
كان متي عقراوي من أكثر المناصرين لمشروع الجامعة ,في الوقت الذي كان فيه عميداً لدار المعلمين العالية، إذ وجه كتاباً إلى وزارة المعارف بتاريخ 22 /آذار /1945 أشار فيه إلى"ان الوقت قد حان لأخراج مشروع الجامعة إلى حيز التنفيذ"وأقترح تأليف لجنة من عمداء الكليات ومن ذوي الخبرة في هذه الشؤون لدراسة تفاصيل المشروع.
التقت رغبة عقراوي مع الرغبة الكبيرة لبعض القادة لتأسيس جامعة حديثة في بغداد، فأخذ قادة الرأي يعملون على أخراج مشروع الجامعة من نطاق الدراسة والبحث إلى حيز التطبيق والتأسيس، لاسيما بعد ان توسع التعليم وتوقف إرسال البعثات الدراسية إلى البلدان الغربية بسبب نشوب الحرب وظروفها الرهيبة في أوربا، فتشكلت لجان لهذا الغرض، توصلت إلى وضع أسس لائحة الجامعة، وصدر قرار مجلس الوزراء، بجلسته المنعقدة في 25 /أيار /1946، يقضي بتأسيس الجامعة التي ضمت تحت لوائها كليات الحقوق والآداب والعلوم والصيدلة والهندسة والطب، وعملاً بتوصيات عقراوي ولجنة هاملي فقد أستثنيت دار المعلمين العالية، ويعد هذا القرار أول قرار بهذا الخصوص، لكنه لم يوضع حينذاك موضع التطبيق.

وجهت وزارة المعارف في مطلع سنة 1948 دعوة إلى الخبيرين البريطانيين مورغان ودارون، وفور وصولهما إلى بغداد، أنضم إليهما متي عقراوي الذي كان يشغل منصب المدير العام للتعليم العالي آنذاك فتشكلت منهم لجنة عرفت بـ(لجنة مورغان).
كان ذلك في الوقت الذي رأت فيه وزارة المعارف ان الطريقة العملية لتأسيس الجامعة هي الشروع بتأسيسها قبل تشريع نظامها، انسجاما مع توصيات لجنة مورغان، فأنشأت سنة 1949 (كلية العلوم والآداب) التي أصبحت نواة لكليتي (العلوم والآداب) والكلية التوجيهية.
يعد تأسيس كلية العلوم والآداب هو بمثابة غرس البذرة الأولى للتعليم الجامعي الصحيح في البلاد، وحسب رؤية عبد الجبار عبد الله، ان هذه الكلية هي النواة الحقيقية لجامعة بغداد.
أنشأت وزارة المعارف في مطلع سنة 1951 مجلساً للتعليم العالي، برئاسة مدير الآثار العامة ناجي الأصيل، بموجب نظام أصدرته برقم (16) لسنة 1951، تكون مهامه الأساسية التنسيق بين الكليات وأعداد الوسائل اللازمة لرفع المستوى العلمي للكليات القائمة، بهدف التمهيد لتأسيس الجامعة المرتقبة.
استمر عقراوي في مسعاه لتأسيس جامعة بغداد لمدة عشر سنوات ما بين سنتي 1943و1953، فقدم الدراسات ومناقشاتها مع اللجان وبعد تلك الدراسات أصبح تأسيس الجامعة قضية أساسية، إذ ايده في مسعاه وزير المعارف حينذاك عبد المجيد القصاب، الذي اعد اللائحة الخاصة بها في سنة 1953، وقد نشر مشروع لائحة قانون جامعة بغداد، الذي رفعته الوزارة المشار اليها إلى ديوان مجلس الوزراء، وأيدت رأيها في ضرورة الإسراع بتحقيق مشروع جامعة بغداد، الذي وجد عقراوي فيها أعداد دراسة ثقافية حرة والأعانة على البحث والتقدم العلمي، ونشر الثقافة والفضائل الخلقية الجامعية والنهوض بها، وان فكرة انشاء تلك الجامعة تقوم على اساس جمع الكليات القائمة، وتوحيد انظمتها على اسس سليمة، وجعلها منظمة حكمية مستقلة عن ادارة وزارة المعارف مالياً وادارياً.
تجددت المناقشات في مجلس النواب والأعيان، وأخيراً تم أصدر قانون جامعة بغداد ذو الرقم (60) لسنة 1956، وبذلك ظهرت الجامعة إلى حيز الوجود من الناحية القانونية، وليس الفعلية، وأعرب وزير المعارف وقتذاك منير القاضي، عن أمله في تنفيذ هذا القانون، وأختيار رئيس للجامعة وتعيين مجلسها، واتخاذ الاجراءات اللازمة لاقامة مدينة جامعية أختارها عقراوي في ان تكون بمنطقة الجادرية تعيد أمجاد العراق العلمية.
بقي قانون جامعة بغداد لسنة 1956 معطلاً أكثر من سنة كاملة، ولم يشرع في تنفيذه حتى أواخر سنة 1957، حينما تم تعيين متي عقراوي أول رئيس لجامعة بغداد، بموجب الارادة الملكية رقم (50) والصادرة بتاريخ 21/ آب /1957، براتب شهري قدره (240) ديناراً مع مخصصات شهرية قدرها (100) دينار، ثم عين أربعة من الأساتذة العراقيين أعضاء في المجلس التأسيسي للجامعة، ثم أضيف إليهم عضو خامس.
بعد أن صدرت موافقة مجلس الوزراء بتاريخ 5 آب 1957 بصورة مبدئية على تعيين عقراوي رئيساً لجامعة بغداد، وبالنظر لكون الرئيس المرتقب يتمتع بصلاحيات حسب القانون, منها انتخاب بقية أعضاء المجلس التأسيسي للجامعة، فقد باشر عقراوي اثر ذلك استشاراته لاختيار أولئك الأعضاء، وخلال مدة رئاسته للمجلس المذكور أبتداءاً من 5 تشرين الأول 1957 ولغاية 19 حزيران 1958 , فقد تحمل الثقل الأكبر من المسؤولية الكبرى الملقاة على كاهله وبمساعدة زملائه من أعضاء المجلس التأسيسي للنهوض بمشروع الجامعة العراقية وجعلها تضاهي في مستوياتها العلمية، أرقى الجامعات على المستويين العربي والدولي على حد سواء.
وبعد قيام ثورة 14/ تموز/ 1958 وسقوط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية، تشكلت لجنة لدراسة أوضاع التعليم العالي في ضوء ظروف البلاد الجديدة، فأحيل متي عقراوي رئيس جامعة بغداد على التقاعد، وتم تعيين محمد ناصر الحاني، العميد السابق لكلية التربية رئيساً لجامعة بغداد، ولكن القرار الأخير لم ينفذ، لأن عبد الجبار عبد الله الذي كان يشغل منصب نائباً لرئيس الجامعة، هو الذي اصبح الرئيس الجديد للجامعة، فضلاً عن كونه أول رئيس لها في العهد الجمهوري كما كان عقراوي أول رئيس وآخر رئيس لها في العهد الملكي، وفي الوقت نفسه شكلت في الجامعة لجنة لإعادة النظر في القانون رقم (60) لسنة 1956، فأوصت اللجنة بالغائه، وبتاريخ 15/ أيلول /1958 صدر القانون ذي الرقم(28) لسنة 1958 بتأسيس جامعة بغداد.
كان عقراوي في ذلك الوقت مقيماً في ليبيا وكتب من هناك رسالة شخصية، تضمنتها تهنئة حارة لرئيس الجامعة الجديد، جاء فيها:"أنا مطمئن ان جامعة بغداد الآن في ايدٍ أمينة تسهر عليها، لقد وجدت الحكومة الشخص المناسب والأحسن في العراق الذي يستطيع المضي بمشروع الجامعة على أسس علمية سليمة، ولكن العمل التربوي في العراق يحتاج إلى الاستقرار، كما تحتاج الجامعة إلى الاستقلال، وطبيعة الأوضاع في العراق لم تكن في النظام السابق على استقرار السياسة التعليمية، ولا ادري ان كانت تساعد على ذلك اليوم، وما كان تركي للعراق وأنضمامي إلى اليونسكو سنة 1949، الا احتجاجا صامتاً على كثرة تقلب الأوضاع وتلاعب السياسيين بالتعليم، بحيث لم يعد بالإمكان وضع خطة سليمة له، وما يصدق على التعليم بصورة عامة، يصدق على الجامعة بصورة أعظم".

عن رسالة (متي عقراوي ودوره الفكري و...)