حمامة زوسكيند

حمامة زوسكيند

طالب رفاعي
كنا جلوساً،الروائي الراحل هاني الراهب وأنا نحتسي كوب شاي, وكان حديثنا يدور عن رواية (الرجع البعيد) لمؤلفها الروائي فؤاد التكرلي, حين تنهد هاني قائلاً:
- يكفي أي روائي أن يكتب عملاً واحداً كرواية (الرجع البعيد), ليبقى خالداً الى الأبد!

إن الأعمال الروائية العظيمة إنسانية النكهة, تحفر مكانتها في لحم ذاكرتنا, مما يصعب معه انتزاعها منه, بل ربما تصبح عقبة في وجه تذوق أعمال أخرى مقارنة بها, والأمر يأخذ بعداً آخر بالنسبة لكاتب الرواية نفسه.
هناك أعمال روائية تبقى بحضورها الباهر تلاحق كاتبها, لا يجد لنفسه فكاكاً منها, حتى وإن أراد ذلك! وأكاد أكون واثقاً ان رواية (العطر... قصة قاتل) لكاتبها الألماني (باتريك زوسكيند) هي بالتأكيد رواية من هذا النوع, ستبقى تلاحق مؤلفها طوال حياته. وربما كان من الصعب عليه تجاوزها.

(زوسكيند) المولود في عام 1949, في احدى قرى (بافاريا) جنوب ميونيخ, درس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا والمانيا, وكان قد جاوز الثلاثين من عمره عندما طبقت شهرته الآفاق, بعد نشر روايته الأولى (العطر), التي صدرت العام 1984, وظلت أكثر من ثمانية أعوام تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي ترجمت اليها, وهو نجاح لم يتحقق من قبل لأي عمل أدبي في المانيا منذ صدور رواية (طبلة الصفيح) لصاحب نوبل الكاتب الألماني (غونتر غراس).
حين وقعت عيني على رواية (الحمامة), ولحظة قرأت اسم مؤلفها (زوسكيند), أسرعت يدي اليها, ودار ببالي السؤال: هل ستكون مثل رواية (العطر)? والتي أصبحت احدى العلامات المنعطف في تاريخ الرواية العالمية.
رواية (الحمامة), هي الرواية الثانية لزوسكيند, وتُعد رواية صغيرة جداً.
وتروي (الحمامة) قصة حارس في أحد البنوك (جوناثان نوبل) تنقلب حياته رأساً على عقب بسبب حمامة صغيرة, وقفت له بباب غرفته, ومن دون ان يصدر منها أي عمل عدواني تجاهه, وما تراه يمكن ان يصدر عن حمامة?!
الرواية تأتي على لسان الراوي الكلي العليم بكل شيء, سواء عن البطل أو عن غيره, وإذا كان الراوي استطاع ان يبقى مختبئاً خلف صوته, فإن صوت المؤلف الحقيقي (زوسكيند), ربما أطل بقناعاته الحياتية, وفي أكثر من موضع. الرواية بطريقة سردها التقليدية ولغتها السلسة, تبدو سهلة الفهم, لكنها في الوقت نفسه, عميقة وبعيدة في مستواها الرمزي والفلسفي. فهي ترصد يوماً في حياة الحارس (جوناثان), لكنه ليس باليوم العادي, كما ان (جوناثان) نفسه ليس بالشخص العادي, فلقد أمضى العشرين سنة الأخيرة من حياته حارساً ملازماً أمام بوابة أحد البنوك خلال النهار, ومسرعاً كان يعود ليختبئ في غرفته بمجرد ان يهبط المساء. غرفته, أو جحره, أو عالمه الخاص, الذي يحتمي به في وحدته, متحصناً ببعده عن أي بشر, وعن أي علاقة تربطه بأي مخلوق! الرواية تصف حال الرعب التي تجتاح (جوناثان), لحظة يفتح باب غرفته قاصداً الحمام ليرى تلك الحمامة متسمرة تنظر نحوه. أي خوف ذلك الذي زلزل عالم الرجل? ولماذا يرتجف رجل, حارس بنك مسلح بمسدس, من رؤية حمامة? وهل الى هذه الدرجة تدجن المجتمعات الغربية بقسوتها ولا انسانيتها وماديتها روح الإنسان كي يغدو كائناً ترتجف فرائصه لمنظر حمامة? وأيهما الحمامة هنا ورمز السلام? هل هي تلك المخلوقة الصغيرة منتوفة الريش? أم هو ذاك (الجوناثان) الخائف المبتعد عن العالم? الذي يسرع لحشر أغراضه الصغيرة في حقيبة يده, تاركاً غرفته ومستأجراً غرفة في فندق مجاور, هرباً من نظرة تلك الحمامة الطارئة!

ان الرواية المعاصرة كجنس أدبي أثبتت انها الفن الأكثر ملاءمة للقرن الذي نحيا, ولقد دان لها ذلك كونها تحمل في جزء منها تفسيراً للحظات معيشتنا, وتساعدنا على فهم ما يدور حولنا وتفسيره, وبالتالي تمد لنا يد العون لنعيش متوازنين على عارضة يومنا. ومن هنا تأخذ مكانها ومكانتها.
الحارس في رواية (الحمامة) هو إنسان القرن العشرين, فلقد عاش طفلاً مختبئاً في مزرعة عمه أثناء الحرب العالمية الثانية, بعدها أمضى ثلاث سنوات في أداء الخدمة العسكرية, ومع حلول عام 1954, بدأ بممارسة حياته الاعتيادية, وبطلب من عمه, تزوج فتاةً ما سبق له أن رآها, لتهرب منه بعد أقل من سنة مع تاجر فاكهة, ولتترك في نفس (جوناثان) ندبة ربما ستبقى تلازمه الى الأبد, كونها حفرت قناعته: (انه لا يمكن الاعتماد على الناس, وأنك تستطيع ان تعيش في سلام فقط بالابتعاد عنهم). لقد ترك (جوناثان) القرية, ليشد رحاله الى باريس, وهناك (وبضربة حظ) عثر على وظيفة حارس بنك, ليبقى يحتضن تلك الدرجات, أمام بوابة البنك الرئيسية, لمدة تزيد على العشرين سنة, مبتعداً عن أي تماس انساني, ولائذاً بوحدته وهدوئه وسلامه في غرفته الصغيرة, النائية عن أي حياة بشرية باستثناء أنفاسه.

هل سلام انسان القرن العشرين وربما الواحد والعشرين, بات مرهوناً بعزلته، وهل الناس هم الشر الأعم، وأي خوف ترسَّب في نفسية (جوناثان) ليورثه هذا الرعب القاتل؟! حيث يصبح منظر حمامة قادراً على هزِّ أوصاله! وأي معنى لحياة الإنسان حين يقضي ثلث عمره واقفاً أمام مدخل بنك مع الحد الأدنى من الاجازات, والحد الأدنى من الأجر الذي كان معظمه يضيع في الضرائب والايجار وأقساط التأمينات الاجتماعية؟
(جوناثان) بعد هروب زوجته ونظرات أهل القرية اليه, رفض الدخول والتواصل مع أي علاقة انسانية, فعاش متصالحاً ومتسالماً مع نفسه, ولم يكن شيئاً ليعكر عليه رتابة يومه ونمطيته. وربما فسر ذلك هشاشة مشاعره وعواطفه حين لاذ ببصره وروحه وهربه, لحظة رأى ذلك المتشرد يعري مؤخرته ليبول في الطريق العام. (جوناثان), أحسَّ أن فعلة ذلك المتشرد تمس شيئاً في كينونته الانسانية.
(جوناثان) ذلك النوع من البشر, الذي لا يطيق أن يرى منظراً بشرياً قاسياً أو شاذاً أو ارهابياً, لأن شيئاً من ذلك سيقع عليه, كونه يشترك مع الآخر بإنسانيته. وبهذا حدّث نفسه: (في المدينة لا شيء سوى القفل والمفتاح يمكن ان يجعلاك تبعد نفسك عن الآخرين, ومن لا يملك ذلك, من ليس لديه ذلك الملجأ الأكيد من أجل نداء الطبيعة... لا شك أنه أكثر البشر تعاسة وأحقهم بالرثاء... إذا كنت لا تستطيع أن تغلق باباً خلفك لتقضي حاجتك في المدينة - ولو كان باب حمام مشترك - إذا كانت تلك الحرية الضرورية الوحيدة قد انتزعت منك, حرية أن تنسحب بعيداً من الناس عندما تلح عليك الضرورة... فإن الحريات الأخرى كافة تصبح لا قيمة لها, وتكون الحياة بلا معنى. ويكون من الأفضل أن تموت.

عن القبس الكويتية