في مكتبة سلفية وجدت كتاب رأس المال!

في مكتبة سلفية وجدت كتاب رأس المال!

رشيد الخيون
كان الوقت بمدينة الرِّياض يتبدل بين شتاء وربيع، والسُّحب توهم بالغيوث، لكنها قطرات وتحتجب، مع أن الأنواء الجوية تتنبأ بانهمار لا برذاذ فقط، وعاد إلى ذاكرتي مشهد لم أره منذ أكثر مِن ثلاثين عاماً، وهو ارتداء الستر (الجاكيتات أو البالطوات) على الدشاديش مع العِقال الشماغ، فهو زي أهلنا بجنوب العِراق، وزينا في المدارس الابتدائية،

فمن المدرسة المتوسطة فما فوق يُلتزم بالجاكيت والبنطلون. حتى التقطت صورة مع أحد الأصدقاء وهو يرتدي هذا الزّي تذكاراً.

عدا ذلك فهناك فئة مِن سكان الرِّياض لي أن أُطلق عليهم عبارة:”نجديون بالعراق وعراقيون بنجد”، وهم لم يلتزموا ما تبقى فيهم مِن العِراق بهذا الزّي فقط، إنما في اللهجة وأنواع الطَّعام، وهم سُكان منطقة الخميسية، التي خُطت العام 1881 على مقربة مِن مدينة سوق الشّيوخ، ولم يبق منها الآن سوى الآثار، وتلك قصة أخرى سنأتي عليها في مدونة خاصة، فهذا ليس شاهد الكلام مثلما يُقال.

عندما يزور الكاتب أو الباحث، أو هاوي القراءة، مدينة عربية، لا بد أنه يتوجه بالسؤال عن مكتباتها، وعلى وجه الخصوص تلك التي تبيع الكتاب المحلي أو القديم، أما الكتب الجديدة فهي مبذولة في المعارض أو على الانترنت، فالشِّراء يتم عبره بكلِّ يُسر، وشراء القديم منها أيضاً، لكن ليست كلُّ المكتبات فرشت عناوين كتبها على صفحات الشَّبكة الالكترونية. لهذا الغرض طلبت مِن الأصدقاء الذِّهاب إلى مكتبة مِن هذا النَّوع، فنصحوني بمكتبة سلفية في طرف الرِّياض الغربي، على ما أظن، وهي والمكتبة التَّدمرية متحاذيتان، ومثلما قيل لي وما رأيته مِن كتب، مكتبتان سلفيتان، وتقعان مقابل مسجد الرَّاجحي الجديد، وخلفهما مسجد الرَّاجحي القديم، قيل لي: إن السَّاحة التي أمام المسجد القديم كانت مكان ضجيج في أيام حرب الخليج الثَّانية (1991)، والخطباء يصعدون وينزلون طول الوقت على المنابر. لكن الزَّمن تغير وتغير الخطباء والآراء، وصاروا كلاً في طريق، ومَن ولد في تلك الأيام عمره الآن أكثر مِن عشرين عاماً.

وضعت الكتب في هذه المكتبة السلفية بلا تنظيم ولا ترتيب، حتى إذا سألت البائع فسيقول لك فتش بنفسك، على الرَّغم مِن أن الرَّجل يحاول تقديم خدمة أو مشورة، لكن صفوف الكتب والفوضى في نضدها لا تسمح، سوى أن الأسعار مسجلة في دفتر خاص، فعندما تأتي بكتاب ينظر البائع في الدَّفتر، وما سُجل فيه مِن قِبل صاحب المكتبة غير قابل للمساومة في أي حال مِن الأحوال.

ومن المفارقة أن تقع عيني في مكتبة السلفية على كتاب كارل ماركس (ت 1882)”رأس المال”، بخمسة مجلدات، ولونه أحمر فاقع، وهو بترجمة محمد عيتاني، وعلى ما أتذكر أن تاريخ النَّشر كان العام 1956، لكن السِّعر كان يربو على ألفي ريال سعودي، وهو مبلغ باهظ جداً، والبائع لا يقبل أية مساومة في ما يخص الكتب القديمة، فصاحب المكتبة عندما وضع الأسعار المبالغ فيها أخذ بالحسبان أنها قديمة وأسعارها تتضاعف مع مرِّ الأيام، لا يريد الكلام في السِّعر، وقد اصطحبني إليها الصَّديق مشاري الذَّايدي، وحاول مِن جانبه مع صاحب المكتبة عبر التَّلفون، على سعر كتاب يخص تاريخ الشَّام، وهو من الطبعات القديمة، لكنه لم يشجع على مس السَّعر المثبت، فاضطر إلى شرائه. وجدتُ فيها كتباً عراقية متنوعة، ومِن الطَّبعات القديمة أيضاً، لكن الرَّغبة شيء وأسعار المكتبة وحمل الكتب في السَّفر شيء آخر.

أخذت أُقلب في كتاب رأس المال، فلا أدعي أنني فهمت ما كتبه ماركس”رأس المال”أو غيره، مع محاولات قراءته لعدة مرات في السَّبعينيات، مِن القرن الماضي، فما كنا نفعله هو حفظ عبارات نخوض بها النِّقاشات مع الخصوم، ولو علم الخصوم أننا لم نفهمه لتركوا النِّقاش، فالفريقان كانوا مِن الشَّباب، فمن جانبهم كانوا يختصرون كارل ماركس بعبارة”الدِّين أفيون الشُّعوب”.

مع أن الحقيقة لا هم قرأوها في الكتاب ولا نحن قرأناها، إنما القراءة لمَن كتب عنها، فماركس كتب رأس المال بالألمانية ثم تُرجم إلى اللغات الأوروبية والعربية أيضاً، وكثر اللغط حول ترجمته بالعربية، وأخيراً انجز ترجمته الباحث العراقي الدّكتور فالح عبد الجبار، وأصدره بثلاثة أجزاء، لم أره حتى هذه اللحظة، لكن حضرت محاضرتين للصديق فالح واحدة عن ترجمته للكتاب والثَّانية عن النصوص الأدبية التي وردت في الكتاب.

سألت مترجم الكتاب عبد الجبار، بعد المحاضرة عن فحوى تلك العبارة، هل هي حقيقة أم أنها استخدمت في الصِّراعات السِّياسية والحزبية، وعلى وجه الخصوص بين الإسلاميين واليساريين، وهل بالفعل وردت في رأس المال؟ فقبل هذا وردت العبارة بالإنكليزية وترجمتها إلى العربية على أنها لا تعني الإساءة للدِّين بشكل مِن الأشكال، وأن ترجمتها ليست مثلما وردت، وإنما ملفقة مِن قِبل الآخرين على إنها ضد الدِّين، وكانت موجهة إلى أوروبا في ذلك الوقت، وهي في ترجمتها الصحيحة تقصد رجال الدِّين لا الدِّين نفسه.

تلك العبارة، حسب ما قرأت لم ترد في رأس المال، إنما وردت في كتابه”فلسفة الحق الهيغلية”، وتعني أن الدِّين يُريح المتعبين. وسمعت مِن فالح عبد الجبار أنه ليس في رأس المال ما هو ضد الدِّين قطعاً، وأن الأفيون المقصود في العبارة آنذاك، كان مادة طبية تستخدم في التخدير لإجراء العمليات الجراحية، قبل اكتشاف طرق التَّخدير الحديثة.

على أية حال، وجدتها مفارقة عميقة أن يُعرض كتاب”رأس المال”في مكتبة تصنّف بالسلفية، بينما قلبت أكوام الكتب المتناثرة على الأرض والمصفوفة على الرفوف بلا نظام، باحثاً عن كتاب”الإبانة عن أُصول الدِّيانة”لأبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ) ولم أجده، فسألت البائع السُّوداني مازحاً: كيف لا يوجد كتاب الأشعري في مكتبكم ويوجد كتاب”رأس المال”؟! في المكتبة التَّدمرية وجدت الإبانة، لكنه كان مثقلاً بالردود ضده، وتضخم أضعاف حجمه، فعزفت عن شرائه. وعندما أبديت استغرابي لوجود كتاب رأس المال وسواه مِن الكتب المنبوذة في مثل هذه الأمكنة قال لي: في عقد السِّتينيات، مِن القرن الماضي، كانت هناك مكتبة تبيع مثله.

في زمن الاتصال أو التَّواصل الرهيبة لم تتباعد المدن عبر الكتب، ولم تبق الكتب منبوذة، إذا لم تدخل عبر المكتبة تدخل عبر الانترنت، وهنا أعيد التَّذكير بنباهة محمد مهدي الجواهري (ت 1997) عندما قال لأهل مصر معاتباً مِن اغفال ما لأهل العِراق مِن تفوق آنذاك:
يا مصرُ لاءمت البسيطةُ شملها
فالكون أصغرُ والمسافةُ أقصرُ
وتلاقت الدُّنيا فكاد مشرقٌ
مِن أهلــــها بمغرِّبٍ يتعثرُ

لكن لم أخرج مِن المكتبة بخفي حُنين، إنما اشتريت كتاب”حكاية أبي القاسم البغدادي”لأبي حيان التَّوحيدي (ت 414 هـ)، طبعة 1902 وهو”الرِّسالة البغدادية”نفسها، والتي حققها المحقق العِراقي عبود الشَّاجي (ت 1996)، وكُتب ضده وكتب ضد مَن كتب في أكثر مِن مكان، لأنني وجدته على حق، وكان أحد الرَّادين، لا يعلم بوفاة الشَّالجي، قبل رده بعدة سنوات، فطلب محاكمته ومحاكمتي. وكتاب مفيد آخر هو”الرسائل بين الرضي والصَّابي، وهو مِن طبعات السِّتينيات.

عن صحيفة الشرق الاوسط