حوار مع عبد الله العروي: في كتبي أنطلق من سؤال عام، هو نفسه ناتج عن تحليلات تمهيدية طويلة

حوار مع عبد الله العروي: في كتبي أنطلق من سؤال عام، هو نفسه ناتج عن تحليلات تمهيدية طويلة

أجـراه: عبد اللَّـه سـاعـف

* أول شيء يثير اهتمام القارئ لكم، هو تنوع حقول المعرفة والإبداع التي تشتغلون بها وتنتجون في سياقها.
كيف تعيشون تجربة التعدد المعرفي هذه في ذاتكم؟ وأين تجدون ذاتكم بشكل أقوى وأكثر حميمية وتوافقاً مع ما هو من خصائص أناكم الشخصية؟

عبد اللَّه العروي: أنا أقول إني أمارس القصة أو الرواية من جهة ومن جهة ثانية نقد المفاهيم. ننطلق من واقع بدون تحديد أو تعريف، وإلاّ طال بنا الكلام، أسميه أحياناً موصوفاً. هذا الموصوف أتناوله من زاويتين: الأولى هي الوصف الأدبي والثانية هي التحليل. نترك مؤقتاً الجانب الأدبي ونتطرق للتحليل. بمجرد ما نحاول تحليل الموصوف (مشكل العنونة في كتابي الأخير حول مفهوم التاريخ) نواجه مشكلة المفاهيم المستعملة. يسوقنا منطق البحث إلى سبر المفاهيم ذاتها قبل التعرض لنتائج استعمالها. من الإيديولوجيا العربية المعاصرة إلى مفهوم التاريخ، وأنا أقوم بهذا التوضيح المفهومي، تفكيك الآليات المعرفية التي يمكن استخدامها في ما بعد للعرض والتقرير. فأنا أقوم بعمل تمهيدي ضروري، لا يمكن الفهم والتفاهم بدونه. والكتابة التاريخية هي، في مرحلة لاحقة، توظيف المفاهيم المذكورة بعد تحليلها وتوضيحها لفهم الواقع، الواقع الاجتماعي الذي هو في الحقيقة واقع تاريخي، خاصة في مجتمع تقليدي كالمجتمع المغربي حيث الماضي حاضر في قلب الحاضر القائم. لذلك يتداخل البحث التاريخي والتحليل السياسي والاجتماعي والتوضيح الإيديولوجي. منذ ثلاثين سنة وأنا أحاول أن أُفْهِمَ القارئ العربي أن الإيديولوجيا كمضمون ليست هي الإيديولوجيا كمادّة بحثية. الأولى مضمون يعرض ويقرر، أما الثانية فهي بحث ونقاش وجدل. وإلى الآن ما زال البعض يرفض هذا الفرق ويناقش كلامي على أساس أنه مجرد إيديولوجيا لا تختلف عن تلك التي آخذها مادة لبحثي. ونصل حسب هذا المنطق إلى موقف عجيب حقاً. إذا قلت سأصف طيور المغرب، يُقال: هذه دعوة إيديولوجية لأن قائلها يتكلم عن الطيور تحاشياً للكلام عن بني آدم. في هذه الحال يمتنع الحوار الهادف.
الإيديولوجيا بالمعنى الأصلي، اللغوي، هي البحث في منشأ الأفكار، وهذا ما أقوم به. هذا لا يمنعني من التعبير عن رغائب خاصة بي، وحينذاك أعبر عن إيديولوجيا بالمعنى الأول، ولكني أميز باستمرار بين الموقفين. أما من يرفض التمييز فقد يُقال له إن كلامه أيضاً إيديولوجيا، وكلام الغير عليه إيديولوجيا أيضاً، إلى ما لا نهاية.
آفاق: هناك انطباع لدى القارئ المغربي والعربي أن رواياتك قلما تستطيع أن تجتذب إليها المتلقي ليواصل القراءة أو إعادتها. ترى هل السبب يعود إلى القارئ، أم هل يعود إلى ما أسميه عادة في مجال الكتابة الإبداعية أحياناً بحضور قدر من الجدية وقدر من الرصانة يفتقد فيها المؤلف إلى السخرية وإلى الدعابة والضحك، بالمعنى الذي تهتم به الشعرية الاجتماعية لدى باختين أو لدى غيره. فكيف تنظرون أنتم إلى هذا الوضع تجاه القارئ؟
عبد اللَّه العروي: قال بعض النقاد إن من الروائيين من يكتب للقُرّاء، ومنهم من يكتب للروائيين أنفسهم، إذا قرأني النقاد والقصاصون، فهذا يجزيني، بيد أنني لا أتصور كيف يعجز القارئ، أي قارئ، عن إتمام قراءة اليتيم، على قصرها وبيانها؟
آفاق: اليتيم هي الوضع الاستثنائي بالنسبة للروايات الثلاث، لكن قصدي أن عنايتكم باللغة وعنايتكم بالشخصية تفوق عنايتكم بطرائق أخرى أو مستويات أخرى في التأليف لخلق علاقات مع القارئ من قبيل السخرية مثلاً.
عبد اللَّه العروي: في رواية الفريق قدر غير قليل من السخرية.
نستطيع أن نتكلم هنا في مسألة الموضوع، لأنني طرحتها في الفريق، ثمّ عدت إليها في أوراق. فصلت بين الموصوف وبين الموضوع. أنت تتكلم الآن على الموصوف، هو المقطّع في كتاباتي، وتجري عليه عملية تركيب، عملية تجعل من الموصوف موضوعاً. لكي يكون الموصوف متصلاً، لا فجوة فيه ولا انقطاع، بحيث يقرأ القارئ بعينه وليس بذهنه، فلا بدّ من انسجام سابق في المجتمع، هو الذي يستوحي منه الكاتب تلك السماكة التي نستلذ بها عند قراءة كبار كتاب القرن الماضي. إذا لم يكن المجتمع منسجماً، كما هو الحال في المغرب، لا في المظهر ولا في العقلية، ولا في التعبير ولا في الشعور، كيف تعطى صورة التكامل والانسجام لمجتمع يفتقد كل هذا؟. فالانسجام الملاحظ عند بعض كتابنا هو خادع، مستوحى إما من انسجام اللغة الفصحى المنفصلة عن الواقع، وإما من الموروث القصصي، أي أسلوب ألف ليلة وليلة، وإما من الرواية الواقعية الأوروبية. عندئذ تكون الرواية العربية نسخاً لرواية أجنبية، هذه عملية يقوم بها كثير من الكُتّاب المصريين. لكنها تستلزم قدراً من الجهل أو من التجاهل والتناسي. إذا كان الكاتب مطلعاً، أميناً، عارفاً بقواعد السرد، فإنه يعي باستمرار هذا الوضع، فهو مضطر إلى تقطيع المادة الموصوفة وإعادة تركيبها. بعبارة أخرى إنه ينفي باستمرار ما يكتب لكي ينفي عنه الاستشهاد والاستظهار.
لا زلنا إذن نبحث عن موضوع خاص بنا. وهذا أمر طبيعي إلى حدّ، إذا عرفنا أن الأمريكان رغم إنجازاتهم العظيمة، لا يزالون يشعرون أنهم لم يستقلوا بعد الاستقلال التام الضروري عن المثل الأوروبي، وأنهم لم يعطوا بعد الرواية التي تكون في مستوى القارة الأمريكية.
آفاق: أتذكر، وأنا في السبعينات حينما كنا طلاباً، كانت المرة الأولى التي نسمع فيها داخل خلايا طلبة اليسار أطروحات العروي، عن الماركسية والعالم الثالث، وعن مفهوم الإيديولوجيا، ونقد الإيديولوجيا العربية. كانت هذه الأطروحات تبدو كأنها أطروحات سياسية فارهة وجذابة تستعمل في العمليات الاستدلالية وفي الخطابات لدى كل طرف تقريباً، تستعمل لتفسير مواقف معينة. كانت هذه لحظة أو صيغة أولى لاستعمال كتابات العروي وتحليلاته; وسنوات بعد ذلك، ولكن دائماً خلال السبعينات، ظهرت صيغة أخرى في استعمال أطروحات العروي، ويتعلق الأمر هذه المرة بموضوع التأخر التاريخي أو الثقافي، كانت فصائل اليسار أو ما عرف باليسار الجديد بالمغرب آنذاك تبدي اتفاقاً وتوافقاً مع ما ذهب إليه العروي من أننا متأخرون ثقافياً، ولذلك فالأولوية الآن هي للعمل الثقافي وليست للعمل السياسي المباشر. والسؤال عندي يتعلق بالكيفية التي تنظرون بها إلى هذه الاستعمالات المختلفة وغيرها لأطروحاتك ومدى تأثيرها في أفكارها وفي الساحة السياسية؟
عبد اللَّه العروي: لا علم لي بهذا النقاش. كنت آنذاك بعيداً عن الساحة المغربية.
كل ما يمكن لي أن أقول هو أن السؤال الذي طرحته في الإيديولوجيا العربية المعاصرة ناتج عن أمرين: الأول هو اطلاعي على ما كُتب، في مصر خاصة، بين 1930 و1950 عن المسألة الاجتماعية، إذ كنت أنوي تحرير رسالة دكتوراه في هذا الموضوع، والثاني هو ما لاحظته في مصر من تقهقر ثقافي سنة 1961 عندما كنت مستشاراً ثقافياً في سفارة المغرب في القاهرة.
وهذا الانحطاط كان يعترف به كبار المثقفين المصريين من طه حسين إلى محمد مندور إلى نعمان عاشور. كنت تشبّعت وأنا طالب في معهد العلوم السياسية بباريس بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية حول مشكلة التخلّف، وعندما عاينت المسألة في بلد كنا نعتبره متقدماً نسبياً اتضح لي أن المسألة هي ثقافية في الأساس، خاصة وأن السلطة كانت آنذاك في مصر بيد عناصر وطنية تقدمية.
لاحظت عن كثب أنه لا يكفي أن تكون السلطة بيد جماعة تريد الصلاح والإصلاح، تحارب الاستغلال وتستهدف التقدم والرقي، إذا كانت ذات ثقافية ضعيفة، غير مستوعبة للأفكار المؤسسة للمجتمع العصري. من هنا جاءت الدعوة إلى الانفتاح على العالم العصري الممثّل في العالم الغربي. كان البعض يظن آنذاك أن العالم الشرقي الشيوعي يمثّل أيضاً الحداثة وربما بكيفية أقوى. اتضح الآن للجميع أن ذلك لم يكن صحيحاً. لكن هذه حقيقة سجلتها في كتابي الذي كتب في بداية الستينات. قلت صراحة إن العالم الشيوعي يستطيع أن يستدرك، لا أن يسبق، مواطن الحداثة، أي الغرب.
لهذا قام ضدي الشيوعيون التقليديون أمثال جورج لابيكا، الذي لم يدرك مغزى الكتاب، لسبب بسيط وهو أنه لم يشارك الهمّ القومي العربي، كما كان يتعامى عن الهمّ القومي في كل شيوعية، شرقية كانت أو غربية.
كان الكثيرون يستشهدون بماركس، ولكن لأهداف سياسية فقط، فقلت إن ماركس النافع هو ملخّص ومؤول ومنظَّر الفكر الأوروبي العامّ، الذي يمثّل الحداثة بكل مظاهرها. الأفضل لنا، نحن العرب، في وضعنا الثقافي الحالي، أن نأخذ من ماركس معلماً ومرشداً نحو العلم والثقافة من أن نأخذة كزعيم سياسي. لم أدع إذن إلى قراءة ماركس، إذ كان مقروءاً وعلى طول العالم العربي، بل دعوت إلى حسن استعمال ماركس لأغراض قومية تحررية. ولهذا استعملت عليه عبارة الماركسية الموضوعية، بمعنيين الوضعية والهادفة.
لا زلت أعتقد إلى الآن أن هذه دعوة بديهية يدركها كل من له معرفة بالثقافة الغربية، ولا يخطئ فهمها إلاّ من كانت بضاعته الثقافية مأخوذة من الصحف والمجلات أو من الملخصات التعليمية. ومن سوء حظنا أن هذه الثقافة الأوروبية الكلاسيكية أضحت مجهولة حتى في أوطانها لأسباب خارجة عن موضوعنا، فأثّر ذلك تأثيراً سلبياً على مسيرتنا الثقافية. لم نعد نفهم الوطنية على وجهها ولا الليبرالية ولا الماركسية.
السؤال المخيف هو: أَوَلَمْ يفت الأوان على كل نوع من أنواع الترشيد والتوضيح بعد أن دخلنا عهداً من الفوضى الفكرية لا نرى له نهاية؟ نقرأ اليوم كتباً تنقد فكرة الحداثة ونعتمد عليها لنقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة. هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا تجاوزنا الحداثة مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، تزيد أو تنقص حسب البلدان؟
يعيش المثقف عندنا في عالمين منفصلين. يواجه يومياً مظاهر التخلّف واللاّ معقول وهي كلها مظاهر تدلّ على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألّم منها ويتشكّى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين المرويات والمقروءات، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم. كنا نلاحظ ذلك في بلاد الشرق، في مصر ولبنان، ونتعجب منه، فإذا بنا نلاحظه اليوم في المغرب كذلك.
يجوز لألان توران (Alain Touraine) أن ينتقد مفهوم الحداثة، هل يجوز لأستاذ مغربي أن يردّد كلامه بدون التِفَاتة إلى ما يحيط به من سلوك سابق على عهد الحداثة؟ أحاول دائماً، في ما يخصني، أن انطلق مما يحيط بي، وإن انتهيت إلى عبارات وتحليلات بالغة التجريد، لأن هذا هو أسلوبي في الكتابة، ولكن الدافع عندي هو دائماً تجربة أعيشها في الشارع المغربي. فمساءلتي الأولى للواقع الاجتماعي، ثم للمفاهيم في أعلى مستويات التجريد، ثم أخيراً في تطبيق الثانية على الأولى للوصول إلى حكم هادف. وإذا بقي لي بعد ذلك من شعور بالغموض أو بالندم أو بالأسى فأحيله على التعبير الأدبي. لا أخلط أبداً الشعر بالفلسفة.
آفاق: نفهم من ملاحظاتك ومن مؤلفاتك أنه عربياً يفضل ماركس الصحفي على ماركس الكاتب، مؤلف رأس المال أو نقد الاقتصاد السياسي أو غيرها. إنها مسألة لاحظتها كذلك عندما كنت في باريس بالنسبة لـ ريمون أرون. فمقالات أرون في مجلتي «إكسبريس» أو «الفيغارو» تفضل على مؤلفاته نفسها. وبالنسبة إلي، فالعروي الذي يكتب مقالاً موجزاً في لا مليف أو في غيرها هو نفسه مؤلف جذور الحركة الوطنية أو الإيديولوجيا العربية المعاصرة أو تاريخ المغرب، وهو نفسه عندما يكتب مقالاً في كتاب: Edification d’un Etat moderne أو حول الدستور في مؤلف جماعي كذلك. لأن العروي ليس باحثاً كباقي الباحثين. إن وراءه إنتاجاً فكرياً ضخماً، وتراكماً معرفياً مميّزاً، وله معرفة عميقة بتاريخ المغرب، لذلك فحتى ذلك المقال أو المساهمة الموجزة أفهمها في سياق هذا الإنتاج ككل. وآخذ بعين الاعتبار هذا التراكم.
عبد اللَّه العروي: لا تكون الأسئلة في نفس المستوى. في كتبي أنطلق من سؤال عام، هو نفسه ناتج عن تحليلات تمهيدية طويلة، فيكون ملائماً، فحوىً وشكلاً، لمضمون الكتاب. أما عند الاستكتاب أو الاستجواب، فإن السؤال داخل في سياق آخر، وهو مفروض علي. وأحياناً لا يوافقني لا في مرماه ولا في صيغته. أحاول أن أحوّره، ولكن لا أوفَّق تماماً، لأن السؤال غالباً ما يتحكم في الجواب بفرض حدود. إذا تجاوزتُها أبدو وكأنني أتَهرَّبُ من الإجابة.
مع ذلك لا أظن أن في الإسهامات التي ذكرتَ تناقضات صارخة مع ما كتبت سابقاً. مثلاً في كتاب Edification d’un Etat moderne، قلت إن السلطان محمد الرابع كانت له الرغبة في تجهيز البلاد ولم يستطع، لأسباب كثيرة، منها قلّة الإمكانات المالية، واستطاع أن يحقق ذلك الملك الحسن الثاني، بسبب طول ولايته وبسبب توفره على الشروط اللازمة لذلك. لا يمكن لأي مؤرخ أن ينكر أن الملك الحسن الثاني استطاع أن يجعل من المخزن تلك الدولة التي حاول ملوك القرن الماضي أن يشيدوها ولم يجدوا لذلك سبيلاً.
آفاق: عندما قرأت المقالات لم أقرأها خارج هذا الإطار، ويحضرني مثال ماكس فيبر عندما كان يكتب مقالاته السياسية المباشرة حول القومية...
عبد اللَّه العروي: ماكس فيبر كان أيضاً يريد أن يدفع الألمان إلى العقلانية الاجتماعية والسياسية عن طريق احتضان الليبرالية الأنجلوساكسونية.
آفاق: لكن العصرنة وهي مرادفة للديموقراطية في سياق هذا الحوار ليس لها جانب واحد، جانب المواطن الغارق في التقليد أو غياب النخبة المستحدثة; للمسألة جانب آخر يرتبط بدور الدولة وتحديداً بالمسؤولية. هناك خلل ما في مستوى الفصل بين السلطات أي بين المسؤوليات. فالدولة وبخاصة في مستواها التاريخي، مستوى من تؤول إليه الأمور ومستوى التوافق الوطني، الدولة من هذا الجانب لا تزال مثار توتر وتنازع بالرغم من الانفتاح النّسْبي خلال السنوات الأخيرة. فكيف يمكن عصرنة المجتمع دون تجاوز هذا التوتر وفي غياب فصل فعلي في مستوى الواقع اليومي بين السلطات والمسؤوليات؟.
عبد اللَّه العروي: هذا هو لبّ المسألة. لو كان الأمر خاصاً بالمغرب، قد يرتاب المرء إذن، ولكن الاتجاه في العالم كله هو نحو ترسيخ فصل بين مستويين من المسؤولية: المسؤولية التاريخية وحولها يتمّ الوفاق الوطني، والمسؤولية السياسية والإدارية والمحلية. ماذا جرى أثناء العشرين سنة الماضية؟ حصل تركيز الفصل بين المسؤوليتين رغم كل ظواهر العكس، إلاّ أنه لم تسر التجربة على خط مستقيم. كان الفصل يظهر مرة جلياً ومرة يختفي فيظن الملاحظ أنه لا يوجد. حان الآن الوقت أن تتضح الأمور. ولنقل بصراحة: لا أتصور أن تقوم في المغرب الحالي دولة على نمط عصري في شكل غير برلماني، أي بدون أن يكون رئيس الحكومة مسؤولاً مسؤولية تامّة وكاملة أمام البرلمان.
هذا كلام يجب أن يصدر عن أساتذة القانون الدستوري، ولكنهم في غالب الأحيان يتحاشون هذه النقطة، حتى عندما يطلب منهم الإبداء عن رأيهم بكيفية صريحة.
آفاق: لقد أجبت عن دور المثقف ولكنك مع ذلك تركت هامشاً، إذ ألاحظ أنك لا تسجل تعثر المجتمع فقط، بل إن المثقفين غارقون في تناقضات المجتمع أيضاً. أنا أسجل الواقع وأحاول فهمه، فهل أكتفي بهذا الدور، وهو دور تعليمي؟. عندما أحاور التراثيين مثلاً، فهل يكفي أن نقول لهم إن الواقع تجاوزكم؟ وإن هناك معطيات أخرى، دولية أو غيرها، وإن هناك اتجاهاً عاماً للتاريخ. مع أنهم في الساحة كخصوم. أي إنهم من ضمن البنيات التي أنا مضطر لمواجهتها. بعبارة أخرى: هل بمقدرو النخبة المستحدثة، الغارقة في بنيات التأخر، أن تتبنى الإصلاح ثم أو بالأحرى أن تنجزه؟
عبد اللَّه العروي: تتعلّق المسألة بموقفي من نخبتين: نخبة ممثلة في الجهاز الإداري بمعنى عام، بما فيه الدولة بكل مكوناتها، ونخبة تعمل على الساحة الثقافية وهي في غالب الأحيان في حالة مواجهة مع الجهاز السابق. فهؤلاء المثقفون يتخذون أسماء تتغيّر مع الظروف. هم اليوم ماركسيون متطرفون وغداً يكونون إصلاحيين دينيين إلخ.. المتغير هو مجموع الشعارات، المرجع الفكري، ولكن الثابت هو الموقع الاجتماعي، بدليل أن بعض العناصر انقلبوا بسرعة البرق من جانب إلى آخر. علينا إذن أن نبقى على مستوى التاريخ والاجتماع.
أنطلق من ضرورة التحديث، الخروج من التخلّف والتهميش العالمي، لذا أضطر إلى أن اعترف أن الجهاز الإداري، مهما كانت ميوله الشخصية، مضطر بسبب علاقاته بالخارج، المتجسّد في الصديق وفي العدو، إلى أن يحافظ على قدر من السياسة التحديثية، ولو كان ذلك فقط لأغراض دفاعية. في حين أن النخبة المثقفة، أكانت في مواقع اليسار أو في مواقع اليمين، وهي تدافع في كلتا الحالتين على التقاليد (لا حاجة إلى التذكير بمقولة الطبقة ـ القبيلة التي انتشرت في فترة ثم تنوسيت)، تنتهي برفض الحداثة ومعارضتها، اعتماداً على حجج ملفقة كتلك التي مرّت بنا. فهذا الأمر هو الذي دعاني إلى التركيز على الدولة كجهاز التحديث، لأني يئست من أن يكون المثقفون وسيلة تحديث. وكلمة مثقف مأخوذة هنا في مضمونها السوسيولوجي، الذي لا يشير بالضرورة إلى ثقافة عميقة ومتكاملة.
أشير إشارة خفيفة بهذا المناسبة، وهي أن هذه الوضعية ليست خاصة بنا. بل عرفتها أوروبا أثناء فترتها التحديثية. أغلبية المثقفين الأوروبيين كانوا ضد الحداثة وطالبوا بالعودة إلى السنّة والتقليد. هناك أقطاب الحركة الرومانسية في ألمانيا وفرنسا، هناك كارلايل وراسكن (Ruskin) في إنجلترا، هناك دوستويفسكي في روسيا، إلخ...
أتحدى أياً كان وأطالبه بأن يشير عليّ بفكرة واحدة عند أعداء الحضارة الغربية المادية الحديثة اللا دينية الإلحادية إلى آخر النعوت المعروفة بين العرب والمسلمين، فريدة لا مثيل لها عند من ذكرت من كبار الكُتّاب الأوروبيين المعارضين للتطور الحديث.
هذا الموقف يدفعني أنا المثقف إلى مهاجمة المثقفين إلى حدّ أني طالبت بالقيام بسوسيولوجيا المثقف العربي، لكي نعرف الدوافع الخفية لمواقفه الإنتحارية. يرى أن العالم العربي مزدرى ومهمّش ويعمل كل ما في وسعه ليزيده تهميشاً بما يدعو إليه من انكماش وانعزال.
لقد صورت في أعمالي الأدبية تعاسة المثقف، ولكني لم أجوّز أبداً اليأس. إدريس تبخّر في الهواء ولم ينتحر. هذه هي قناعتي، الثقافة تؤلم وتؤذي ولكنها تُشْفي أيضاً، بل هي الطريق الوحيد للشفاء.

آفاق: ألا ترون ان هناك من مظاهر إخفاق الحداثة أو العصرنة في العالم العربي والإسلامي؟
عبد اللَّه العروي: لا يجب الخلط بين تحديث جهاز الدولة، وهو أمر لا يتوقف ولا يمكن أن يتوقف بسبب التأثيرات الأجنبية كما رأينا سابقاً، وبين ضمور الدعوة إلى التحديث. فالسؤال ينصبّ على الظاهرة الثانية. أي أن أعداداً كبيرة من المثقفين (بالمعنى السوسيولوجي الذي أوضحناه) أصبحوا ينظرون إلى الحداثة وكأنها كارثة على الالتحام القومي والتوازن النفسي والتواصل التاريخي.
هذه ظاهرة ثقافية اجتماعية تخص المثقفين، ولها بالطبع تعبير سياسي يظهر اليوم ظهوراً قوياً. لكن الأسباب والدوافع تبقى ثقافية في الأساس.
أحد الأسباب هو التعريب الذي حصل. كان تعريباً لغوياً فقط. ولكي تتضح هذه النقطة يجب المقارنة مع ما حصل في تركيا. إذ لم يتعلق الأمر هناك بإبدال حرف بآخر بل بخلق لغة تركية حديثة تختلف عن القديمة لكي يحصل تتريك ذهني فعلي.
أما نحن فإننا أحيينا اللغة القديمة بكل مفاهيمها وزاد من قوة هذا الاتجاه اتباع سياسة الازدواج. العلوم تدرس بالفرنسية والآداب بالعربية، فالمثقف بالعربية عندنا عاد رغماً عنه إلى الجو الثقافي القديم. انظر ذلك في الدراسات اللغوية تجد أسماء إفرنجية ولكن المفاهيم هي مفاهيم النحاة القدامى.
هناك ظاهرة ثانية تهم التأثير الخارجي والتشجيع من طرف عناصر سياسية لا علاقة لها في البداية بهذه الحركة وبأهدافها. تدل الدراسات على أن الحركة الخمينية شُجِّعت منذ البداية لإضعاف الحركات السياسية الليبرالية الديمقراطية. ثم بعد ذلك استقلّت وانقلبت ضد من رعاها في المهد. ونرى من حين إلى آخر بوادر العودة إلى التحالف القديم.
لا يمكن أن يقال إن الدين عندنا يتّجه بطبيعته إلى السياسة، بل السياسة هي التي تبحث عن الدين لإدخاله في حلبة الصراع. ثم يحصل بعد ذلك ما يحصل.
أود أن أنبه إلى عامل ثالث وهو الإعلام الغربي الذي يريد أن يسجن الإسلام في الحركة الأصولية كما يسميها. فهو لا يلتفت إلى الحركات المشابهة الموجودة منذ زمن طويل عند النصارى واليهود والهندوس إلخ. ولا يلخص أبداً فيها الظاهرة الدينية. وعندما يُقال للصحفيين الغربيين: قارنوا بين هذه وتلك، لا يعجبهم هذا الكلام.
وأريد في الختام أن أذكر بما سبق لي أن صرحت به وهو أن العقيدة الإسلامية تستحق أن تقدم إلى غير المسلمين وحتى إلى المسلمين بشكل آخر، غير الذي تعوّدنا عليه. وهذا التقديم الجديد يستلزم الاطلاع على العقائد الأخرى من نصرانية ويهودية وبوذية إلخ، في صيغتها الحالية.. الاطلاع على النصرانية الحالية بشتى اتجاهاتها وتأويلاتها لا كما فهمها الشهرستاني وابن حزم، اليهودية كما تدرس في الجامعات الأمريكية وكما يعبِّر عنها كبار الفلاسفة والكُتّاب اليهود المعاصرون. وذلك لنكون في مستوى المطلوب منا.
ويستحق الإسلام أن نقوم بذلك الجهد لأنه وحده يرغم الخصوم على العودة إلى نوع من النزاهة والاتزان، يجب أن نواجه من يجهل حقيقة الإسلام أو يتجاهله في مستواه الفلسفي العميق. ولكن للأسف الشديد لا نلاحظ هذا الاطلاع الواسع الضروري عند من يتكلم اليوم باسم الإسلام. وهو يضر من حيث لا يشعر ويصبح، كما قال الشيخ محمد عبده، حجّة على دينه. لذا أتخوف من أن يصبح الإسلام السياسي خطراً على الإسلام كعقيدة وكدين وكأخلاق، لا بالنسبة للخارج فقط ولكن حتى بالنسبة للداخل.
هذا هو رأيي وأعبر عنه بكل صراحة ولا أبغي من قولي هذا إلاّ وجه الحق ومصلحة الجميع.

مجلة آفاق (الرباط)
عدد 4/3، 1992، ص 147 إلى 190