الملا عثمان الموصلي لقبته بلاد الشام (الضرير الجبار) ومصر (غريد الشرق)

الملا عثمان الموصلي لقبته بلاد الشام (الضرير الجبار) ومصر (غريد الشرق)

عادل الهاشمي
باحث راحل
الاذكار احتجاج على المحتلين الانكليز كان احد أوتار هز مشاعر الناس في ثورة العشرين عندما هيأ للمواليد والاذكار بأن تتسع لتصبح مناسبة احتجاج على المحتلين الانكليز، وقد وزع أفعاله الإبداعية في الموصل وبغداد والأستانة بتركيا والقاهرة وبلاد الشام، فأثر في مبدعيها ونقل لهم ابتكاراته في الموسيقى وقراءة الأنغام والألحان والموشحات، فكان ظاهرة تلك البلدان التي أقام ونزف فيها، فأطلقوا عليه ألقابا تليق بأهميته التاريخية مثلما لقبته بلاد الشام بلقب (الضرير الجبار)

لأنه كان أعمى يجترح معجزات الفن، أو مثلما لقبته مصر العربية (بغريد الشرق) لأنه امتلك صوتا ذهبيا تجاوز به أقطاب اللحن في مصر: عبده الحمولي وداود حسني، كما تجاوز به صوت شيخ قراء القرآن محمد رفعة... ولأنه تبحر في فنه واكتشافاته وامتلك مفتاح الشهرة السحري ووضِع في كتب المؤرخين كرمز من رموز التراث العربي وفي صف واحد مع إسحاق الموصلي والفراهيدي، وانحازوا إليه أكثر عندما وضعوه في مرتبة واحدة مع الفيلسوف العربي الكندي.. وكان عثمان يرى الابعاد على امتداد الابعاد... وما زال اسمه أو عبقريته مثار جدل باحثين ومستشرقين..! وعبقريته جماع ذاتيته وظروفه الموضوعية ومنها:- 1- ورث التنغيم الداخلي عن طريق التوارث الجيني أو السلالي... فقد كان والده وهو الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى آل الطحان العبيديين، سقّاءً يبيع الماء في أزقة الموصل (وفيها كانت ولادة عثمان وأسرته) وكل آبائه كانوا سقاءين، وينادون على الناس بأصواتهم الجميلة كأنها منسابة من أوتار موسيقية، وتأثر عثمان بوالده وهو ابن الرابعة واخذ يقلد أصوات أبناء أسرته وهو في الخامسة ويقلد أصوات الباعة في أزقة محلته وهو في السادسة، وتقليد الأصوات يرمز الى رهافة الحافظة او السمع عنده حتى تكونت في داخله حنجرة هي مصفاة لأصوات حروفه، كانت في ما بعد رصيد حنجرته الموسيقية، وأثرت هذه الملكة في اوتار ذاكرته فجعلتها ترهف السمع، فتكونت في ذاكرته حافظة ذكية متوترة الجرس ساعدته على الحفظ السريع والارتجال التلقائي، حتى لسانه ارتبط بأعصاب موسيقية حنجرته فصار يصدر أصواتا، بل صار آلة موسيقية قائمة بذاتها... وقرئت عليه قصائد طويلة وحفظها في الحال وأعاد قراءتها ونظم قصائد من قلبه في الحال، وذهب ابعد من ذلك عندما بدأ يقلد أصوات الطيور والحيوانات أو الذين يسمعهم في الحال. 2- توفي والده وكان عثمان في السابعة، فاكتأب بسيكولوجية اليتم ثم مرض بالجدري وبه أصيب بالعمى، وبه أيضا اكتأب بسيكولوجية العمى... وكان اكتئابه ذا تأثير نفسي في قدراته الطبيعية، فنمت وتآلفت وتوهجت عندما تبنى طفولته وجيه الموصل من جيرانه محمود العمري ورعاه وضمه إلى معلم يقرئه القرآن ومعلم آخر ينظم فيه ألحانه وأنغامه. 3- كان يمتلك قدرات بيولوجية خارقة استعان بها على فرزنة الناس بوساطة حاسة الشم، فيشم رائحة الإنسان وبها يعرف اسمه أو اسم أبيه، او بوساطة الاذن اذ كانت اذنه عدسة روحية في داخله يرى بها الناس من خلال حركات أقدامهم... هكذا خلق الملا عثمان حنجرة فيزياوية الحركة، واذنا تميزية تلتقط ما بطن من ظواهر المكان، وعقل يجمع المعلومة ويحللها بقدرة استقرائية... كان يمتد في كل أفق معرفي ليختصر زمانه. وفي الخامسة عشرة لبس عمامة الدين وبدأ يدرس العلوم التي تؤدي به إلى شهرة الدين أو الموسيقى وكان من أساتذته في كل مراحله الدراسية : عمر الاربيلي وعبد الله الفيضي وداود أفندي وبهاء الحق ومحمد بن جرجيس ومحمود شكري الألوسي، وهؤلاء الشيوخ منحوه إجازات في اللغة والفقه، ثم درس الموسيقى على (شلتاغ) وعبد الله الكركوكلي وهما من أساتذة بغداد في المقام، وفي عام 1886 تعرض في خطبة لأعمال الولاة.. فنفوه الى الاستانة...! ونصف حياته العبقرية أنتجها في الاستانة والقاهرة وبلاد الشام، والنصف الاخر في الموصل بلدته الاولى وفي بغداد وهي أعز ما أحب من مدن العلم.. ففي الأستانة درس التركية وأتقنها في البحث والتنقيب فغدا من أعلامها الكبار، وعين فيها مديرا لمدرسة الموسيقى ومستشارا في مؤسساتها الثقافية، ومنشدا ومرتلا وقارئا في طرقها الصوفية... حتى وصل الى قصر السلطان عبد الحميد العثماني وجعله مستشارا روحيا له، لما حرك فيه الملا عثمان غرور الإمبراطورية التي بدأت تنهش فيها أمراض الزمان وأكرمه السلطان ذهبا كثيرا ورتبا، وكان باحثون من الأتراك يحسبونه مؤلفا تركيا... بعد أن قرأوا له أدبا وفكرا بالتركية. وفي عام 1895، رحل إلى القاهرة وخلال خمس سنوات سمعت به مصر: عبقرية في الموسيقى وعبقرية في الانشاد ووزع في وادي النيل الوتر البغدادي والمقام فتأثر به عبده الحمولي آية غناء النيل، كما تلمذ له سيد درويش آية اللحن المصري، وكبار آخرون وجدوا على يديه نبع مواهبهم، وتعجب به جمهور مصر لما رأوه يغني لهم الأدوار المصرية بنهجه وغنائه الخاص، وفي مصر أيضا طبع مؤلفاته ونشرياته في الموشحات والألحان، وأصدر مجلة (المعارف (وكتب فيها أعلام مصر وكان يتهادى بمشية العلماء وبزي المولوية: جبة عريضة وعمامة خضراء..! ثم رحل إلى بلاد الشام.. وبين بيروت ودمشق ثلاث سنوات منذ عام 1906، يقرأ في محافل الأدب شعرا وتخميسا وتشطيرا، ثم يقرأ القرآن، وينشر قوانين في الموسيقى في مجلات الشام، ويباري ويتنافس ويجادل بالفقه.. وكأن العراق كله يحضر في قامته..! وعاد في أخرياته إلى وكره الأول ــ الموصل 1913 ينشر فيها الطريقة المولوية، ويصبح هو الزعيم الروحي لمئات من مريديه، ثم نزح بشوق إلى بغداد ليؤسس مجلسا أدبيا، اجتمعت فيه معارف بغداد جميعها، وما أن أعلن الانكليز عن احتلال بغداد حتى أنبرى الضرير الجبار يثير الحمية الوطنية في النفوس، وينتقل من جامع الحيدر خانة إلى جامع الكيلاني إلى جامع الخلاني يقرأ المولد النبوي ويحشد فيه نبرات المقاومة ويدعو إلى الخلاص، وإذا منقبته النبوية تغدو منشورا يحرك الكوامن ويلهب أعماق الثائرين.. أو يغدو مولده النبوي شعارا يحرض الناس على قتال الغزاة، وأجتمع الانكليز وقرروا إسكات صوته، وقرر قائدهم في بغداد (ساندرز) أن يكتب اسم الملا عثمان في قائمة المخربين.. ولم يصمت..! وأتسع له التاريخ وأبدع في صياغة مساراته، فكان أن طور الموسيقى العربية ومنحها أسساً في البناء الهارموني، وكان أن تخرج على يده جيل معرفي، وكانت قراءته للقرآن فنا استحال الى علم بل مدرسة في القراءات، وكان فيضه في علم الفلك فيض علماء الحساب.. بل كانت كتبه ومؤلفاته مدرسة في العبقرية العراقية ذات الجذر الإنساني..!

عن مجلة الف باء 1984