مفهوم الثورة  الفرنسية  بعيون المؤرّخ والفيلسوف إيريك هوبزباوم

مفهوم الثورة الفرنسية بعيون المؤرّخ والفيلسوف إيريك هوبزباوم

عبد الرحيم العلام
كثُر الحديث مؤخرا عن الثورات، وتناسَلت العديد من التأويلت والتحليلات، ورامت العديد من الأقلام محاولة إقامة تحديدات مفاهيمية من أجل الاستجابة إلى التحدّيات المعرفية الراهنة، كما تصدّى بعض الفكر إلى إعطاء رأيه في ما إذا كانت الحِراكات التي عرفتها بعض دول الشرق الأوسط تتّصف بمفهوم الثورة. وفي هذا السياق طُرحت العديد من الأسئلة من قبيل:

هل ما تعيشه هذه الدول يعتبر حدثا ثوريا، أم أن الثورة خاصية غربية؟ وهل توافرت شروط قيام ثورة في البلدان ذات الأغلبيات المسلمة، أم ان هذه البلاد تفقتد إلى الخصائص الثورية؟ وهل نجح »الربيع الثوري”أم أن النتيجة صِفرية؟ ألا ينبغي منح الحِراكات مسافة زمنية حتى يُمكن تقييم نتائجها؟
ولكن وفي المقابل، هل كان يَعتقِد من قاموا بالثورات في الغرب بأنهم بصدد فعل ثوري؟ وهل أثمرت الثورات الغربية نتائجها ليلة قيامها، أم كان على الشعوب انتظار أجيال متعددة لكي تحصد النتائج؟ وهل تختلف شروط الثورات الغربية عن تلك التي تحققت للثورات الشرق أوسطية؟ وهل كان للثورات في الغرب زعماءٌ يتمتّعون بالكاريزما المطلوبة، أم أنها كانت ثورات شعبية؟ وهل ساهمت الثقافة السياسية في الثورة، أم أن الثورة هي من أسهمت في تطوير الثقافة؟
في كتابه العميق والمُمتع »عصر الثورة”يعود بنا المؤرّخ إيريك هوبزباوم إلى أجواء الثورة الفرنسية، إذ استطاع بأسلوبه السّردي المتميز أن يُسجِّل ضمن مؤلّفه تاريخاً مليئاً بالأحداث والمفاهيم والتصورات المرتبطة بفكرة »الثورة«. والواقع أن هوبزباوم لا يكتب فقط من أجل معرفة التاريخ، وإنما كما يقول عن نفسه - من خلال المقدمة التي صدّر بها الترجمة العربية لكتاب عصر الثورة - »للقارئ الذكي المتعلِّم الذي لا يسعى إلى إشباع فضوله لمعرفة الماضي فحسب، بل يريد أيضاً أن يَفهم كيف ولماذا أصبح العالم على ما هو عليه الآن، وإلام سيؤول”(نعتمد هنا الترجمة العربية لكتاب عصر الثورة، أوروبا (1789-1848).
وُلد إيريك هوبزباوم في مدينة الإسكندرية المصرية سنة 1917، وتوفي في بريطانيا سنة 2012 عن عمر ناهز الخامسة والتسعين سنة، نحاول في هذا المقالة أن نقدم لكتابه المذكور سلفا، بما يُسعِف في تحفيز القارئ على الاطّلاع عليه، ثم نختم برؤية هوبزباوم لواقع ما يمكن أن نصفه بـ »الربيع الثوري”خلال الفترة التي أمهله القدر أن يعيشها؛ أي إلى حدود أكتوبر من سنة 2012.
يرى هوبزباوم أن الثورة الصناعية البريطانية في أواخر القرن الثامن عشر هي التي مهّدت الطريق للنمو الاقتصادي الرأسمالي، وللتّغلغُل العالمي، وللثورة السياسية الفرنسية ولأمريكية التي طرحت نموذجاً مثالياً متقدّماً لمؤسسات المجتمع المدني البورجوازي (ص21)، حيث يركّز على التحولات العالمية إبّان الفترة الممتدّة بين سنتي 1789 و 1848، وهي التحوّلات التي يُرجعها هوبزباوم إلى ما يسمّيه »الثورة المزدوجة”المتمثّلة في ثورة فرنسا السياسية ومعاصِرتها البريطانية الصناعية، دون أن يقْصِر الكاتب اهتمامه على تأثيرات هذه التحولات على البلدان التي دارت على ترابها تلك الثورات، بل تجده مثلاً يسفيض في وصف التفاعلات التي قامت بين المشرق الإسلامي والغرب الأوروبي، وتأثير الثورات الأوربية على العديد من البلدان العربية والإسلامية.
يعتقد هوزباوم أن الثورة المزدوجة كانت أهم تغيير حصل في التاريخ، فقد نقلت هذه الثورة العالم بأسره من حال إلى حال، وما زالت تفعل ذلك«، ولهذا يستحضر المؤرّخ سياق ما قبل الثورات، حيث ضيْق العالم قياساً على معرفة الناس بالجغرافيا المحيطة، وقِلّة عدد السكان، وريفية العالم حيث إن الحواضر كانت محدودة جداً، ونقص المواصلات وسبل التواصل، والأوضاع الاقتصادية والزراعية التي يتحكّم فيها النبلاء والإقطاع، وبداية ملامح التطور التجاري والصناعي، وسيطرة المَلكيات المطلقة على أغلب الدول الأوروبية، وفي هذه الظروف سيطرت على الفكر »المتنوّر”نزعة فردية علمانية عقلانية تقدُّمية تهدف إلى تحطيم الأغلال التي كبّلت الحرية الفردية، وإلى التحرّر من تقاليد الجهل التي سادت القرون الوسطى وظلت تُلقي بظلالها على العالم، ومن شعوذة الكنائس«.

لقد قدمت الثورة الفرنسية للعالم أهم المفردات الخاصة بالسياسة الليبرالية والحرية والديمقرطية الراديكالية، بحسب هوبزباوم، كما قدمت فرنسا القانون الدستوري لأكثر الدول، واخترقت مبادئ الثورة الحضارات القديمة التي كانت تأبى الأفكار الأوروبية.
وعلى عكس ما تروّج له بعض الكتابات العربية من أن أحد شروط الثورات توفُّر قيادات سياسية وأفكار تؤطّرها، فإن المؤرخ هوبزباوم يؤكد على أن الثورة الفرنسية »لم تحدث على يد حزب أو حركة قائمة بالمعنى الحديث للكلمة، ولم يتزعّمها رجال يحاولون تنفيذ برنامج منهجي منَظم، بل إنها لم تطرح »قيادات”من النوع الذي عودتنا عليه ثورات القرن العشرين« (ص135)، وعلى الرغم من اعتراف هوبزباوم بأن الثورة الفرنسية كانت ستحدث من غير آراء الفلاسفة، إلا أنه مع ذلك يحمل الفلاسفة مسؤولية الثورة، وذلك »لأنهم ربما سرّعوا في الانتقال من مرحلة تحطيم النظام القديم إلى استبداله بسرعة بنظام جديد«.
ومن اللافت للانتباه، ذلك التحقيب المتميّز الذي يؤرّخ به هوزباوم للثورة الفرنسية، إذ يُبيّن مراحلها المتعددة، والخلفيات السياسية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية، حتى المسمّيات التي ترُوج في عالمنا المعاصر تكاد تكون مفارِقة لما أريد منها إبان الموجات الثورية في أوروبا وفي فرنسا بشكل خاص، فتعبير من قبيل »الثورة المضادة« لم يكن يحمل المعنى السلبي الذي يأخذه اليوم، بل إن فكرة الثورة المضادة كانت دعوة يسارية ضد الفكر المحافظ، حيث اعتُبِرَت الثورة المضادة أمل الشعب من أجل تحقيق أهداف الثورة الأولى التي حاول المحافظون السيطرة عليها. دون أن يمنع ذلك صاحب »عصر الثورة”من التركيز على سنوات ما يسميه »مرحلة الإرهاب”التي قتل فيها آلاف الثوار، واستبدَّ فيها الخوف بالناس، وانتشر العنف والمحاكم الثورية، فقد كان ذلك يعتبر بالنسبة للطبقة الوسطى الصلبة الأسلوب الوحيد للحفاظ على البلاد. إلى أن انتهى الوضع بإعدام قائد هؤلاء بالطريقة التي كان يَعْدم بها من يعارضه.
وبخلاف الاعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من الشعوب المعاصرة أنّ الثورة الفرنسية كانت موجة واحدة استطاع من خلالها الشعب الفرنسي تحقيق أهدافه، فإن المؤرّخين المتميزين، ومنهم هوبزباوم، يمنحون القارئ تاريخاً آخر للثورة في فرنسا، وهو تاريخ يبين أن الثورة الفرنسية دامت لأكثر من عشرة قرون على الأقل.
وكما ألمحنا خلال التقديم لهذا العرض، فإننا سنعود إلى المؤرّخ الفيلسوف هوبزباوم، من أجل استجلاء موقفه من »الربيع الثوري”الذي انطلقت شرارته في أواخر العام 2010، والذي ما زلت تفاعلاته مستمرِّة، ربما إلى أجل ليس بالقريب، فكيف يُرهص هوبزباوم، مستفيداً من التاريخ الغربي، للحِراك العربي الإسلامي؟
لم تُسعف الأقدار مؤرّخنا لكي يُعايش أحداث »الرّبيع الثوري«، لكنه استطاع أن يدلي بموقفه فيما يتعلق بالمرحلة التي استطاع معاينتها. ففي الحوارات التي أجراها معه الكاتب أمير طاهري في جريدة الشرق الأوسط، 7 أكتوبر 2012)، وهو من المهتمّين بكتابات هوبزبوام، والذي التقاه أكثر من مرة في لندن، يقول صاحب كتاب »عصر الثورة«: إن »نجاح ثورة أو فشلها لا يمكن أن يقاس بنتائجها السياسية المباشرة وحدها، إن حقيقة أن المجتمعات العربية أظهرت أنها تمتلك إمكانية وقدرة العمل الثوري تعد نجاحاً في حد ذاتها«، ويمكن للثورات في المنطقة العربية الإسلامية أن تنتهي إلى »فشل سياسي مبدئي، لكنها بالتأكيد سوف تلهم الأفكار الإصلاحية على المدَييْن المتوسط والبعيد«، وذلك على غرار ما حدث مع الثورات الأوروبية لعام 1848 التي غيّرت الخريطة الجيوسياسية لأوروبا ومهدت الطريق لإجراء إصلاحات اجتماعية وسياسية كبرى خلال نصف القرن الذي تلاها. ورغم ماركسيته المُعلَنة إلا أن إيريك هوبزباوم في حواره مع أمير طاهري، يعترف بأن »النموذج اللينيني، الذي يفترض فيه أن تعمل البروليتاريا كطليعة للثورة، ليس له فائدة تذكر في فهم ثورات الربيع العربي التي كانت في معظمها ثورات عفوية تلقائية نتجت عن السخط الشعبي.«
هذه مجرد شذرات، وأتمنى قراءة ممتعة للكتاب بصفة خاصة، وللكتب التي تعنى بهذا الموضوع من قبيل كتاب”الثورة الفرنسية والنظام القديم”لألكسيس دي توكفيل، و كتاب"في الثورة”لحنا أرندت، وذلك لأن الحاضر لا يمكن أن يُفهَم ما لم يتم الاسترشاد بالتاريخ، ليس من أجل التقليد، ولكن بهدف الاعتبار والدراسة.

عن موقع حكمة الفلسفي