الثورة الفرنسية وتأثيرها على الأدب

الثورة الفرنسية وتأثيرها على الأدب

الكسيس دوتوكفيل
لقد اختفت عن أنظاري الآن الوقائع القديمة والعامة التي أشعلت فتيل الثورة الكبرى والتي كنت أود وصفها. أنتقل إلى وقائع خاصة وحديثة جدا حددت (للثورة) مكانتها، ميلادها وطبيعتها.
عرفت فرنسا منذ زمن بعيد، قياسا مع باقي الأمم الأوروبية شيوعا كبيرا للأدب. ومع ذلك، فإنه لم يسبق أن أظهر حيوية فكرية مماثلة لتلك التي أبانوا عنها حوالي منتصف القرن الثامن عشر،

كما لم يسبق لهم أن تبوأوا المكانة التي وصلوا إليها في ذلك العهد. ويبدو لي أن مجتمعنا لم يسبق أن عاش فيه الأدباء وضعا كهذا، كما لم نجد له مثيلا في أي مكان آخر.
لم ينخرط قط الأدباء يوميا في الشأن العام مثل نظرائهم في إنجلترا. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يضعوا يوما ما مسافة بينهم وبين الشأن العام، فإنهم بالمقابل، لم يمتلكوا أية سلطة تذكر ولم يتقلدوا أية وظيفة عمومية في مجتمع كان يعج بالموظفين. ومع ذلك، لا يمكن لنا الجزم قطعا أن الأدباء بفرنسا على غرار نظرائهم بألمانيا، قد ظلوا دوما بمعزل تام عن السياسة أو أنهم كرسوا حياتهم كلها للفلسفة والأدب.
لقد كانوا منشغلين على الدوام، بالقضايا التي لها صلة بالحكم، بل كان ذلك فعلا من صميم اهتماماتهم. لقد كانت خطاباتهم تثير يوميا مسألة أصول المجتمعات وأشكالها البدائية، الحقوق الأساسية للمواطنين وحقوق السلطة. عالجت خطاباتهم أيضا العلاقات الطبيعية والمصطنعة الت تربط بين أفراد المجتمع البشري وشرعية أو عدم شرعية العرف، علاوة على الوجود المبدئي للقوانين نفسها. أكثر من ذلك، فإن تدخلاتهم لمناقشة أسس دستور وقتهم قد تزايدت باستمرار، فكشفوا بتحليل ونقد عجيب عن بنياته ومنهجه العام. وإذا كان صحيحا أن هؤلاء لم يجعلوا من هذه القضايا الكبرى موضوعا لدراسة خاصة وعميقة واكتفوا بإثارتها بشكل عابر كما لو كانت مجرد قضايا للهو، فإنهم جميعا قد وجدوا أنفسهم في مواجهتها. لقد عرف هذا النوع من السياسة المجردة وذات النزعة الأدبية انتشارا بصورة غير متساوية في كل الأعمال (الأدبية) لهذا العهد، إذ ليس هناك عمل يخلو منها بهذا القدر أو ذاك بدءا من الدراسة العميقة إلى الأغنية.
أما على صعيد التوجهات السياسية لهؤلاء الكتاب، فقد كانت جد متباينة إلى درجة لا يمكن معها مطلقا الحديث عن وجود نظرية مشتركة لهم حول الحكم. ومع ذلك، فنحن إذا لامسنا أمهات الأفكار ووضعنا جانبا التفاصيل سنكتشف بسهولة أن أصحاب هذه التوجهات المختلفة يتفقون على الأقل حول مفهوم واحد عام جدا وواضح لأنه ظل يمسك بزمام تفكير كل واحد منهم، وربما كان هو المصدر المشترك لكل تلك الأفكار الخاصة التي عبروا عنها. ومهما كانت الاختلافات حول ما بقي من هذه المبارزة، فإنهم ظلوا جميعا متشبثين بالمبدإ التالي:
لقد اعتقدوا جميعا أنه من الضروري إحلال القواعد البسيطة والأولية المستوحاة من العقل وقوانين الطبيعة محل الأعراف المعقدة والتقليدية التي كانت تتحكم في المجتمع خلال عصرهم.
وإن المتأمل لأفكارهم سيكتشف فيها حضورا لما يمكن تسميته بالفلسفة السياسية للقرن الثامن عشر، التي ارتكزت بالضبط على المفهوم الوحيد المذكور آنفا (العقل). إن هذه الفكرة ليست شيئا جديدا. لقد ظلت دائما تسكن في خيال الإنسان منذ ثلاثة آلاف سنة دون أن يتمكن من الإقرار بوجودها. كيف استطاعت هذه المرة أن تستحوذ على تفكير جميع الأدباء؟ لماذا خرج تأثيرها من المجال الضيق لتفكير بعض الفلاسفة كما كان عليه الشأن في الغالب سابقا، إلى الجمهور الذي أضفى عليها قوة وهمة الانفعال السياسي إلى درجة صيغت معه نظريات عامة ومجردة حول طبيعة مجتمعات المستقبل والتي أصبحت موضوعا لنقاشات يومية من طرف العاطلين بل وأججت خيال النساء والمزارعين؟ كيف استطاع الأدباء الذين كانوا مجردين من أية مكانة في المجتمع، والذين لم يتمتعوا بأي شرف، بأي ثروة وبأية مسؤولية أو سلطة أن يتبوأوا ليس فقط مكانة سياسية رئيسية في ذلك العهد، بل أصبحوا الفاعلين الوحيدين فيها على اعتبار السلطة التي امتلكوها في وقت كان فيه الحكم في أيدي آخرين؟ إنني أرغب أن أشير إلى ذلك في كلمات معدودة من أجل البحث في التأثير الخارق والرهيب لهذه الوقائع في الثورة الفرنسية، بل وفي أيامنا هاته؛ وهي وقائع على ما يبدو ينفرد بها تاريخ الأدب الفرنسي.
ليس صدفة أن يتبنى فلاسفة القرن الثامن عشر بكيفية عامة مفاهيم جد معارضة لتلك التي كانت لا تزال تشكل قاعدة لمجتمعاتهم وعصرهم لقد استوحوا أفكارهم من نفس المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه. إن مشهد الامتيازات الفاحشة والمثيرة للسخرية التي استشعروا بثقلها وظل فهمهم لأسبابها بسيطا، قد دفعت؛ بل عجلت في آن واحد بتفكير كل واحد منهم نحو التبشير بفكرة المساواة الطبيعية في الشروط (الإنسانية). إن ملاحظتهم لمؤسسات شادة وغريبة تنتمي إلى عصر آخر وقد أصبحت ذات وجود أبدي رغم افتقادها لأية فضيلة، والتي لم يحاول أي أحد إيجاد نوع من التجانس فيما بينها ولا تكييفها مع الحاجيات الجديدة، كان ببساطة مصدر تقززهم من الأشياء القديمة ومن التقليد. من هنا وجدوا أنفسهم طبيعيا مطالبين بإعادة بناء مجتمعهم على أسس جديدة ترتكز عند كل واحد منهم على نور العقل فقط.
إن ظروف هؤلاء الكتاب نفسها كانت تهيئهم لمعانقة النظريات العامة والمجردة حول قضايا الحكم والدفاع عنها بشكل مطلق. إن ابتعادهم شبه التام عن مجال الممارسة لم يسمح لهم باكتساب أية تجربة كان يمكن أن تخفف من حماسة الوضع الفطري الذي كانوا يعيشون فيه. لا شيء كان يثير انتباههم إلى مثبطات الواقع التي كانت تقف أمام الإصلاحات الأكثر ملحاحية، بل لم تكن لديهم أية فكرة عن الأخطار التي تلازم دائما الثورات الأكثر حتمية. أكثر من ذلك، لم يستشعروا قط وقوعها لأن الغياب المطلق لأي شكل من الحرية السياسية قد جعلت معرفتهم سيئة بالشؤون العامة، بل غائبة تماما. لقد افتقدوا إذن إلى تلك المعرفة السطحية التي تخلف في مجتمع حر ومليء بالصخب الناتج عن كل ما يقال فيه، صدى عند أولئك الذين يملكون نظرة أولية عن مسألة الحكم. هكذا أبانوا عن شجاعة كبرى في طرح أفكارهم الجديدة وفي حبهم الشديد للأفكار العامة والنسقية. وفي الوقت الذي أعلنوا فيه ازدراءهم الشديد للحكمة العتيقة زادت ثقتهم أكثر في عقلهم الفردي بصورة فاقت معه ما كان يكتبه عادة مؤلفو الكتب العلمية في السياسة. وقد كان نفس الجهل يشد مسامعهم وقلبهم إلى الجماهير. وإذا كان الفرنسيون قد شاركوا كما كان الشأن في السابق، في حكومة الهيئات العامة، وإذا كانوا قد استمروا في الاهتمام بشؤون إدارة بلدهم من خلال الجمعيات الموجودة في أقاليمهم فإنه مع ذلك، يمكننا التأكيد أن أفكار الكتاب لم تثر حينئذ حماستهم لأن اعتيادهم على سلوك خاص في الشأن العام قد جعلهم حذرين من النظرية الظهرية.
لو كان بإمكانهم، كما هو حال الإنجليز، العمل على التغيير التدريجي لروح المؤسسات العتيقة لما تصوروا وفكروا بسرور كبير في مؤسسات جديدة كليا، لكن الإحساس اليومي لكل واحد منهم بالاختناق في قدره، في شخصه، في وجوده وفي كبريائه بسبب استعمال أشكال من القوانين ومن الممارسة السياسية العتيقين، فضلا عن أن مخلفات الأشكال القديمة من السلط لم تسمح لأي واحد منهم بإيجاد علاج لألمه الخاص ذاك. ويبدو أنه كان من الضروري إما إسناد دستور البلاد أو العمل على تقويضه. لقد حافظنا مع ذلك، على نوع من الحرية في إسقاط دساتير أخرى: كان بإمكاننا إلى حد ما بدون إكراهات، إثارة نقاش فلسفي حول أصل المجتمعات، حول الهوية الجوهرية للحكم وحول الحقوق الأساسية للنوع الإنساني.
لقد أضحت هذه السياسة الأدبية مصدر شغف سريع من طرف كل أولائك الذين كانوا أثناء ممارستهم اليومية يتضايقون من التشريع، بل إن الشغف بها شمل أيضا أولائك الذين كانت طبيعتهم أو ظروفهم تجعلهم بسهولة بعيدين كثيرا عن التأملات المجردة. إن الحاجة إلى إقرار المساواة بين جميع أفراد المجتمع البشري كانت تراود كل المتضررين من التوزيع غير العادل للضرائب.
وهكذا، فإن الملاك الصغير الذي دمره مكر جاره النبيل لم يفتأ يؤكد أن الاستفادة بدون حدود من الامتيازات هو عمل يستنكره العقل. لقد أصبح كل ألم عمومي يتنكر في الفلسفة واحتمت الحياة السياسية بقوة بالأدب، فوجد الكتاب أنفسهم باعتبارهم موجهين للرأي العام، يحتلون في مدة معينة، المكانة التي يشغلها عادة زعماء الأحزاب في البلدان الحرة. لم يكن هناك أحد قادر على منازعتهم هذا الدور. إن الأرستقراطية في أوقات بأسها لم تستول فقط على الشأن العام، بل كانت تقود الرأي العام نفسه. وقد أعطى ذلك إشعاعا للكتاب وسلطة للأفكار. خلال القرن الثامن عشر كانت طبقة النبلاء الفرنسية قد فقدت جزءا كبيرا من إمبراطوريتها. لقد ولى الدور الذي لعبته من جراء التحكم في العقول وترك مكانه للكتاب الذين ملأوا بكامل الحرية هذا الفراغ. وأكثر من ذلك، إن الأرستقراطية التي أخذ الكتاب مكانها قد اتجهت إلى تشجيع عملهم. لقد نسيت تماما كيف أن النظريات العامة حينما تصبح مصدر إعجاب، فإنها تتحول بالضرورة إلى ملهم للشغف السياسي وإلى أعمال، إلى حد أن المذاهب الأكثر معارضة لقوانينها الخاصة ولوجودها تبدو كلعبة جد ماهرة للعقل. لقد اتجهت الأرستقراطية بسهولة وبسرور تام، إلى الاستمتاع بعمل الكتاب من أجل تجاوز عامل الزمن والاستفادة من حصاناتها وامتيازاتها مع اعترافها المتزن بعبث كل الأعراف الجاري بها العمل.
لقد كانت المساهمة العمياء التي قدمتها الطبقات العليا للنظام القديم، والتي خلقت في الغالب شروط إفلاسها، مصدر اندهاش الكثيرين، لكن من أين كان لها أن تستمد معرفتها؟ إن المؤسسات الحرة، إذا لم تكشف تماما للمواطنين الأخطار المحدقة بهم، فإنها تتكفل على الأقل بضمان حقوقهم. لقد اندثر من حياتنا منذ أكثر من قرن الأثر الأخير للحياة العمومية. لم يتلق المعنيون مباشرة بالحفاظ على الدستور القديم أية صدمة، ولم يسمعوا أي صخب حول الطابع المتأخر لهذا الصرح العتيق. وبما أن العالم الخارجي لم يعرف أي تغيير، فإنهم كانوا يتخيلون أن كل شيء لا زال كما كان في السابق. لقد ظل تفكيرهم حبيس الرؤية التي انتهى عندها تفكير آبائهم. كان الانشغال الأكبر لطبقة النبلاء منصبا على تحذيرات دفاتر 1789 التي تنبه إلى تطاول وتجاوز الملك لسلطته بصورة فاق معها انشغالها بنفس الموضوع في القرن الخامس عشر أما المنكود الحظ لويس السادس عشر فقد ظل، مدة من الزمن، قبل أن يتلاشى مع الديموقراطية –وهو ما لاحظه عن حق بورك (Burke)-، يرى في الأرستقراطية الخصم الرئيسي للسلطة الملكية. لقد ظل شديد الحذر منها كما لو كان الأمر لازال يتعلق بزمن لا فروند (LaFronde). وعلى العكس من ذلك، كان يرى في البورجوازية والشعب، على غرار أسلافه، الدعم الأكيد للعرش.
وإنه لأمر غريب حقا، بالنسبة إلينا نحن الذين لا زال يمر أمام أعينهم حطام كثير من الثورات، أن تطفو على السطح فكرة الثورة العنيفة نفسها، إذ لم تكن لتخطر على بال آبائنا. لقد كانت هذه الفكرة غائبة عن نقاشاتنا، ولم يكن بإمكاننا بالتالي إدراك معناها. إن الارتجاجات الضئيلة النابعة من الحرية العمومية التي تطبع دائما المجتمعات الأكثر استقرارا تذكر كل يوم بإمكانية حدوث انقلابات فتجعل الحكمة العمومية في حالة تيقظ، غير أنه في حالة المجتمع الفرنسي لم يكن هناك ما ينذر بذلك.
إنني أقرأ بإمعان الدفاتر المرفوعة من الطبقات الثلاث قبل اجتماعها في 1789. أقول الطبقات الثلاث، أما الدفاتر فأعني بها دفاتر النبلاء والإكليروس والهيئة الثالثة، فأجد في حالة معينة أن إحداها تطالب بتغيير قانون وفي أخرى كيفية تطبيقه فأسجل هذه الملاحظات. أتابع قراءتي إلى أن أنهي هذا العمل الضخم، وعندما أنتهي من تجميع كل هذه الأماني الخاصة أكتشف بنوع من الذعر أن ما يطلب هؤلاء هو الإلغاء المتزامن والمنهجي لكل القوانين ولكل أشكال استعمالها في البلاد. ويتبين لي حينذاك في الحال أن الأمر يتعلق بثورة تعد في أكبر وأخطر الثورات التي لم يسبق لها مثيل في العالم. إن أولئك الذين سيصبحون غدا ضحاياها لا يعرفون عنها شيئا؛ إنهم يعتقدون أن التغيير الشامل والمفاجي لمجتمع جد معقد وجد عتيق يمكن أن يتم بدون ارتجاجات بواسطة العقل وفعله المؤثر وحده. يا لهم من تعساء! لقد نسوا الأفكار الأكثر بداهة التي كان آباؤهم قد عبروا عنها أربعة قرون قبل هذا التاريخ بواسطة فرنسية بسيطة لكن فعالة:
ليس غريبا أن يكشف النبلاء والبرجوازية اللذان ظلا مبعدين منذ مدة طويلة عن ممارسة أية حياة عمومية عن حالة فريدة في انعدام التجربة، لكن الأمر الأكثر استغرابا هو أن يكون أولئك الذين يتولون تسيير الشأن العام أي الوزراء، القضاء والأمناء فاقدين، إلا نادرا، لأي حس تنبؤي. لقد تمتع الكثير منهم بحذق كبير في ممارسة مهنتهم، لكنهم افتقدوا إلى ذلك العلم العظيم في التعاطي مع الحكم والذي يمكن من فهم الحركة العامة للمجتمع وإصدار حكم على ما يدور في تفكير الجماهير وبالتالي التنبؤ بما يترتب عن ذلك. لقد كانت خبرتهم على غرار الشعب، جديدة تماما في هذا الميدان. إن لعبة المؤسسات الحرة هي وحدها في الواقع، القادرة على تعليم رجالات الدولة هذا الجزء الرئيسي من فنهم. ويظهر هذا بوضوح في مذكرة طيرغو (Turgot) المرفوعة إلى الملك في 1775، حيث ترد فيها ضمن قضايا أخرى، نصيحة للملك بالعمل من جهة، على إشراك كل الأمة بحرية، في الانتخابات وأن تتشكل من جهة أخرى حول شخصه ولمدة ستة أسابيع جمعية تمثيلية بشرط عدم تمكينها من أي تأثير فعلي. فهي لن تهتم أبدا بالحكم، لأن عملها سيقتصر فقط على الإدارة إن حصر تدخلها في شؤون الإدارة وليس الحكم على الإطلاق، سيجعل منها مؤسسة لإبداء الرأي أكثر منها وسيلة للتعبير عن الإرادة. سيكون من واجبها نسج خطاب حول القوانين وليس العمل على إعدادها،”وعلى هذا النحو ستستنير السلطة الملكية من دون أن تتعرض لأية مضايقة، وسيتم دون مخاطر إرضاء الرأي العام. إذ أن هذا النوع من الجمعيات لن تكون له أية سلطة لمعارضة العمليات الضرورية. وإذا ما صدرت عنها وهذا مستحيل، تجاوزات فإن جلالته سيظل دوما هو سيد الأمور”لن يكون بوسع أي كان إنكار أهمية هذا الإجراء في ظل التفكير السائد وقتئذ.
ومن الحق أنه حدث في كثير من الحالات، مع اقتراب الثورات من نهايتها، والاستنجاد بما اقترحه طيرغو دون التفكير في عواقب ذلك ومن ثم تغيب الحريات الحقيقية ويحضر ظلها لقد جرب أوكيست (Auguste) ذلك بنجاح. إن أمة أعيتها الصراعات الطويلة تقبل بتلقائية أن تتعرض للخديعة شريطة ضمان راحتها، والتاريخ يعلمنا أنه يكفي لطمأنتها العمل على تجميع من مختلف جهات البلاد، عددا محدودا من الرجال الملتبسين أو غير المستقلين، فتوكل إليهم مهمة القيام بدور جمعية سياسية أمام الأمة مقابل أجور. وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل. لكن حينما يتعلق الأمر بثورة أعلنت شرارتها الأولى، فإن هذه الإجراءات تنتهي دائما إلى الفشل، بل إنها على العكس من ذلك، تؤدي إلى تأجيج الشعب وليس طمأنته. إن مواطنا عاديا في بلد حر يعرف ذلك، لكن”طيرغو”باعتباره رجل إدارة كبير كان يجهله.
وإذا ما نحن استحضرنا الآن أن هذه الأمة الفرنسية نفسها، والتي ظلت جاهلة بشؤونها الخاصة وفاقدة لآية تجربة، بل مضايقة كثيرا من مؤسسات لم تستطع قط إصلاحها، كانت في نفس الوقت من ضمن أمم الأرض الأكثر تعلما وأكثرها حبا للأدب، أمكننا آنذاك أن نفهم بدون عناء الأسباب التي جعلت الكتاب يتحولون إلى قوة سياسية سرعان ما أصبحت القوة الأولى في البلاد.
وإذا كانت إنجلترا قد عرفت تداخلا بين عمل أولئك الذين يكتبون حول الحكم وأولئك الذين يحكمون، حيث كان طرف ينقل أفكار جديدة إلى مجال التطبيق، وآخر يعدل ويحدد النظريات انطلاقا من الوقائع، فإن العالم السياسي في فرنسا كان منقسما إلى ما يشبه إقليمين متباعدين لم تكن تجمعهما أية علاقات تجارية. فقد كان الإقليم الأول مختصا في التدبير، في حين كان الثاني يتولى إنتاج المبادي المجردة التي يجب أن يقوم عليها أي تدبير إداري. كان الأول يتخذ الإجاراءات الخاصة التي يفرضها الروتين، بينما كان الثاني يعلن عن القوانين العامة دون التفكير في وسائل تطبيقها: كان لهؤلاء مسؤولية تسيير الشؤون الأمة، بينما كان لأولئك مهام توجيه العقول.
يتضح إذن أنه، على أنقاض المجتمع الموجود، والذي كان لا يزال تركيبه تقليديا، ملتبسا وغير منظم، وحيث القوانين متنوعة ومتناقضة والطبقات متباينة والشروط الموضوعية والأعباء غير متساوية، كان يتأسس شيئا فشيئا مجتمع خيالي يظهر فيه كل شيء بسيطا، متناسقا، متساويا، منصفا ومطابقا للعقل. هكذا، كان خيال الجماهير يخلي تدريجيا المجتمع الأول ليختبأ في الثاني. لقد تم تجاهل الواقع الموجود لصالح مجتمع مفترض ومن ثم ظلت الجماهير تحيا بفكرها في تلك الحاضرة المثالية التي شيدها الكتاب.
غالبا ما يتم ربط قيام ثورتنا بالثورة الأمريكية: لقد كان لهذه الأخيرة فعلا تأثير كبير على الثورة الفرنسية، لكن تأثيرها لم يأت فقط مما حققته في الولايات المتحدة الأمريكية، بل من طبيعة التفكير الذي كان سائدا في نفس الوقت آنذاك، بفرنسا. فإذا كانت الثورة الأمريكية قد اعتبرت في باقي أوروبا مجرد حدث جديد ومتميز، فإنها كانت بالنسبة إلى الفرنسيين تأكيدا ملموسا ومذهلا لما كانوا سلفا يؤمنون به. فهي، إن كانت قد أدهشت باقي أوروبا، فإنها بالمقابل، أقنعت الفرنسيين بصحة تفكيرهم. ويبدو أن الأمريكيين لم يقوموا سوى بترجمة ملموسة للتصورات التي سبق للكتاب أن قاموا بصياغتها. لقد أعطوا جوهرا للحقيقة التي كانت لا تزال مجرد حلم بالنسبة إلى الفرنسيين تماما كما لو أن فينيلون حل فجأة في سالنت
إن هذه الحالة الجديدة تماما في التاريخ في مجموع التربية السياسية لشعب عظيم والتي يظل ظهورها مدينا بشكل كلي لرجال الأدب، ربما تجسدت فيها أكثر العبقرية الخاصة بالثورة الفرنسية؛ فجعلت منها حدثا ذي الخصوصيات التي نعرفها اليوم. لم يكتف الكتاب فقط بجعل أفكارهم في متناول الشعب لكي يحولها إلى واقع، بل إنهم كانوا يطلعونه أيضا على طبائعهم ونزواتهم. إن امتهانهم هذا الدور لزمن طويل، في غياب مؤطرين آخرين، وفي وسط ساد فيه جهل عميق من جراء الحياة اليومية المادية المبتذلة، قد دفع الأمة بفضل قراءتها لأعمال الكتاب إلى مراجعة ميولاتها الفطرية، أشكال تفكيرها وأذواقها؛ بل ذهبت إلى حد تقمص العيوب الطبيعية لأولئك الذين يكتبون. ونتيجة ذلك، حينما كان يتوجب عليها الانتقال في الأخير إلى الفعل، فإنها قامت بنقل كل عوائد الأدب إلى الميدان السياسي.
عندما نقوم بدراسة تاريخ ثورتنا نكتشف أنها أنجزت تحديدا في سياق نفس الفكر الذي أنتج العديد من الكتاب التجريدية حول الحكم. والملاحظ أن نفس الإغراء ينسحب على النظريات العامة، الأنظمة الشمولية في التشريع والتماثل الدقيق في القوانين. ويلاحظ نفس السلوك القائم على احتقار الوقائع الموجودة وتكرار نفس الثقة في النظرية، في ما هو أصيل، حاذق وجديد حينما يتعلق الأمر بالمؤسسات. بل نجد نفس الرغبة في إعادة صياغة الدستور دفعة واحد تبعا لقواعد المنطق ولمنهج واحد عوض تعديل جزء تلو الآخر. يا له من مشهد مرعب! ذلك أن ما يعتبر خصالا رفيعة عند الكاتب يستحيل أحيانا إلى علة عند رجل الدولة، كما أن نفس الظروف التي أدت في الغالب، إلى ظهور كتب رفيعة قد تؤدي إلى قيام ثورات كبرى.
لقد استلهمت اللغة المستعملة في السياسة نفسها شيئا ما من اللغة التي كان يتكلم بها المؤلفون. لقد تشبعت بالتعابير العامة، المصطلحات المجردة، الكلمات الدالة على الطموح وبالجمل الأدبية. إن هذا الأسلوب، والذي ساعده الخطاب السياسي الحماسي على الانتشار، سيتوغل في جميع الأوساط الطبقية وسيصل، بسهولة نادرة كذلك، إلى الطبقات الدنيا في المجتمع. لقد تكلم كثيرا الملك لويس السادس عشر في أحاديثه قبل الثورة، عن القانون الطبيعي وحقوق الإنسان. وقد وجدت في عرائض المزارعين أن هؤلاء كانوا يسمون جيرانهم باسم المواطنين، وأمين الصندوق باسم قاض جدير بالاحترام، وراعي الرعية، وزير القداس المسيحي، ويسمون الله الكريم باسم الكائن الأسمى. إن ما كان ينقص هؤلاء الأخيرين قليلا لكي يصبحوا كتاب سيئي السمعة، هو إتقان الكتابة.
لقد التحقت هذه المزايا الجديدة بجوهر الطبع الفرنسي، إلى حد أننا عزونا في الغالب، البعد الفطري فينا إلى هذه التربية الفريدة. لقد سمعت البعض يؤكد أن الذوق أو بالأحرى الشغف الذي أظهرناه منذ ستين سنة حيال الأفكار العامة، الأنظمة والكلمات الكبرى في المجال السياسي يرتبط، على نحو لا أستطيع إدراك جوهره الخاص، بعرقنا ويرتبط بما كان يسمى بقدر من المغالاة، الفكر الفرنسي (التشديد من طرف المؤلف): كما لو أن هذا الجوهر قد ظهر فجأة في أواخر القرن الماضي، بعد أن ظل مختفيا طيلة الفترة الماضية من تاريخنا.
إنه لأمر فريد حقا أن نحافظ على العادات التي اقتبسناها من الأدب، في وقت افتقدنا فيه بشكل كلي تقريبا عشقنا القديم لهذا الأدب. وإن أكثر ما أدهشني طيلة مسار حياتي العمومية هو أن أصادف أشخاصا قلما يقرأون كتب القرن الثامن عشر أو كتب أي قرن آخر، بل يحتقرون المؤلفين، لكنهم ظلوا متشبثين بإخلاص ببعض العيوب الكبيرة التي نشرها الفكر الأدبي قبل ميلاد هؤلاء الأشخاص.

المقالة مأخوذة عن كتاب:
L’ancien régime et la révolution, édition Gallimard