فنار العزلة  قداس البريكان الكوني

فنار العزلة قداس البريكان الكوني

د. رياض الأسدي
(1)
على حافة العالم يتشكل عالم آخر، بعد إن تطوى كل الأشرعة المكتظة ويستريح المسافر الدائم على بقعة من الثلج كونتها ريح قديمة آتية من لامكان غالباً ؛ في ذلك الموقع الذهني المحدد بعقلانية بياض البدء تتكون بناءات فوضى عالم متجدد زلق لتبدأ أولى خطوات المسافر بعد استراحة قصيرة من الرؤية المشحونة بالتأمل الداخلي العميق نسبياً ؛ هناك ؛

في ذلك المكان الافتراضي تُعلَنْ نهاية صفحة من رحلة العالم الشاقة وبداية قداس لروح شاعر كوني، وقف بغرابة مطلقة على حافة العالم دون أن يغمض عينيه لحظة، وحيث بدأت معه حداثته في سلسلة من العلاقات الكونية قبل أن ينشئ أي علاقة أخرى ممكنة.
حداثة الشاعر محمود البريكان من النوع الكاسح المدمّر Cataclysm تجوز بعنف تلك الأنواع من حداثات التقليعة البسيطة، أو الحداثة الناتجة عن ردود أفعال بإزاء أحداث أو أوضاع بعينها ؛ إنها حداثة كامنة في ذاتها ولا تترك بنىً حضارية أو فكرية إلا وقوضتها، كما أنها في الوقت نفسه لا تتوانى عن طرح بديل مشحون بالتساؤلات والرغبة في المعرفة من جديد لملء فراغ العدم بإشارات أشدّ قسوة من كينونته الخاصة ؛ ولتكون قاعدة مثمرة من الحدوس العالية بإزاء عالم يرفض التغيير إلا على نحو عاصف! فيقترح البريكان نموذجه لنا (= معادله الموضوعي) آتياً من رحم الماضوية الميثولوجية (على الثلج ريح قديمة / زفزفة الريح / تعيد ذكرى حلم غابر) (قداس لروح شاعر على حافة العالم – 1970). فأثث البريكان قصيدته من مكونات درامية توراتية معروفة، وترك المقطع الأول منها بلا عنوان – وكأنه يريد من المتلقي أن يبحث عنه في المعارف القديمة، أو ربما يكون هو صوت الشاعر نفسه في آن أيضاً. أما المقطع الثاني / الصوت(2)(الدبّ الأكبر يظهر في أفق آخر) فقد جاء من معارف فلكية أولية للمراقبة الإنسانية القديمة ليلحقها بالصوت (3)(بنات نعش تختفي في الفلك الأحمر) وهي معلومة فلكية أيضاً. لقد استخدم الشاعر معارف الإنسان الفلكية الأساسية لرسم صورته الشعرية، كما أكد على معارف فيزيائية تتعلق بالحياة في القطب كما في الصوت (2) (الريح القطبية لا تنقل رجع الصوت / لا تنطلق الصرخة / لا يتذبذب في الريح سوى نفس الموت). ويتلاعب البريكان بين معنيي الريح والرياح على نحو دقيق فيتطلب من المتلقي دقة في التفكّر أيضاً.
تكمن حداثة البريكان الكونية في تأمل الحدث الخلقي السريع والمكثف الذي يتظافر بعمق مع التخطيط الفكري المسبق والقصدية الفائقة قبيل الكتابة، فالبريكان هو الذي يكتب القصيدة ولا تكتبه هي في اندفاعاتها وفورانها فتأتي مرسومة على ورق هندسي نحتاج فيه إلى أدوات خاصة لفك تكويناتها الداخلية. وتتمظهر قصيدة (قداس لروح شاعر على حافة العالم) لتريَ حداثة كونية مبكرة في الشعر العربي الحديث، في اعتبار العالم الخلقي / الآني محض دراما منظمة يمكن للشاعر وحده أن يرويها فقط من خلال مركزه الكوني / المعرفي. وقد أفاد البريكان في تأثيث قصيدته تلك من المعلومات المهمة والكثيفة التي ترجمت عن آينشتاين ونظريته النسبية وما أحدثته من إثارة في عقد السبعينيات من القرن المنصرم. وهكذا فقد فتحت تلك النظرية الباب للشاعر لكي يطل على حافة كوننا الأحدب من موقعه الأرضي لبث تساؤلات شعرية فلسفياً مرة أخرى، وبدا الأمر جدّ واضح في موقف الجوقة (عند خطوط الحدود / تندمج الأزمنة) لقد راعى البريكان تحول الزمن إلى صفر عند حافة الكون!.
وفي القداس البريكاني ثمة إعلان عن إعلان المتخيل بالأرضي (= الأحلام + الحوادث) إذ يتمازج ذلك أو يتقاطع عند حدود الحياة والموت : بين الحقيقة والمطلق ؛ بيد أن البريكان حتى في لحظة الوقوف تلك يبدو غير عابئ بالمطلق، اللهم، إلا بتلك الإشارات الخفية الناتجة عن ابتسامات الأموات للأحياء ؛ تلك الملاحظات النهائية عن لا جدوى البداية وعبثية ما كان، فلا يخبرنا بها إلا الأموات وحدهم لأنهم سبروا فداحة اللعبة من مكانهم. ثم أن الشاعر يأتي في تلك اللحظة المهيبة – وهو الآن بعد رحيله الاضطراري يكونها – ليسجل كل ما حدث في رحلة طويلة غامضة وفاقدة لمعناها. هاهو يشن هجوماً ضمنياً حتى على ما قدمه آينشتاين لنا من إمكانيات تفسيرية محضة إذ لا شيء مضافاً في لحظة (ترتسم الطفولة البيضاء في صفحة النهاية) وهي صفحة لو توقفنا بإزائها قليلاً لوجدنا إن كل معاني النقاء والطهر الطبيعيين الناتجين عن فلسفة (ياسبرز) تتحول إلى غموض لعين في النهاية.
أن حداثة البريكان المتعالية يمكن أن تجد لها معنىً من خلال تفتق الحزن الإنساني الدائم من جراء الخلق والوجود الإجباري فيه، وربما يكون في الوقت نفسه متعة معقولية في شنّ ذلك الهجوم من التساؤلات حول السرّ من الوجود؟ وقداس البريكان الجماعي الذي يبدأ بنا ينتهي فيه وحده ؛ لأنه الذات الشاعرة الوحيدة المعنية بفضّ السر على الأقل، ولكن، حتى البريكان المدجّج بآينشتاين يعجز عن الإجابة بسبب تلك الابتسامة الغامضة الإشارية التي يرسلها الأموات للأحياء دائماً. أنها الحدس نفسه عن البداية والنهاية عن الخلق والمصير والعالم والمطلق المنتظِر (بكسر الظاء) عند حافة الكون. وهكذا من فنار العزلة يمكننا مراقبة كل شيء مع صعوبة بالغة في إعطاء تفسيرات معقولة وممكنة فما بالك بتلك التفسيرات التي تقدم قناعات كاملة؟!
لاشيء في ظل تلك الرحلة المجانية التي ألقينا فيها في لحظة ما وأجبرنا على الخوض فيها سوى الموت (= نقطة التحول إلى معرفة أخرى) فهو كامن فينا وفي الوجود أيضاً. ولذلك يعمد الشاعر الكبير محمود البريكان على وضع نهاية غير حتمية لدراما عالمه مثلما يراه هو حيث تتقاطع الحدود الفيزيائية وتنكفئ الأفكار على أعقابها في لعبة الخلق والإنسان، وما قصيدة (قداس لروح شاعر على حافة العالم) إلا محاولة لإثارة التساؤلات دون تقديم أية إجابة ممكنة. ومن هنا فهي إعلان مبكر لولادة حداثة كونية نقلت الشعر العراقي الحديث إلى مرحلة متقدمة على زمانها في التطلع الشعري المستقبلي.
———————————

(2)
تمثال للبريكان

يشاع عن الشعب الروسي بأن من أراد أن يلتمس السعادة فإنه عليه أن يجلس بالقرب مــن تمثال الشاعر العظيم لروسيا بوشكين، وهو قول ما أنفكّ الروس يتداولونه حتى أصبح واضحا بأن ليس ثمة حزانى في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ما دام الروس يواضبون على الجلوس عند تمثال بوشكين!. وإذا كان الروس كانوا قد تخلصوا من براثن أعتى دكتاتورية في القرن العشرين فقد بقي لديهم باسترناك وشولوخوف وايزنشتاين وغيرهم من رواد الحرية واصحاب الكلمة النبيلة يباهون بهم الأمم الأخرى.
ومن الغريب أن الروس قد أطاحوا بتمثال لينين الذي يعدّ المؤسس لأمبراطورية السوفييت، ومن قبله الرجل الحديدي الدكتاتور جوزيف ستالين إلا انهم ما يزالوا يحتفظون بتمثال بوشكين على الرغم من كلّ تلك التقلبات السياسية الكبرى والتحولات الاجتماعية الخطيرة، وهذا يعني أن البقاء للكلمة الحقة دائما وأبدا، فزبد البحر مهما كان كثيفا يذهب هباء وأما ما ينفع البشرية فهو يمكث في الأرض خالدا حتى يوم الساعة. ويبدو أن تقليد نصب التماثيل هو توكيد لدور صاحب التمثال وكذلك للذات الجمعية لكل شعب أو أمة. والأمة العراقية تحتاج في هذه المرحلة إلى اكتشاف الذات اكثر من أي وقت مضى ؛ ولذلك فاني أتوقع قيام العراقيين بإخراج رموزهم الوطنية على سطح الأرض إلى جانب رموزهم القائمة التي لم يستطع النظام الدكتاتوري السابق إزاحتها ولسوف نجد بعد حين ـ بإذن الله تعالى ـ إعدادا من النصب والتماثيل إلى جانب تمثال الحبوبي والمتنبي والسياب والجواهري الذي أقام له العراقيون الكورد تمثالا في السليمانية تقديرا منهم لمواقفه المشرفة بازاء قضايا الشعب العراقي إبان محنته الكبرى قي العهد المباد الثاني.
والشاعر العراقي الكبير محمود البريكان واحدا من رموز الوطنية العراقية عاش وقضى على قناعته بالكلمة ودورها في بناء الشخصية الإنسانية، فهو لم يساوم عليها ـ كما فعل اخرون ـ وعدّها كهفه الذي يأوي إليه إذا ما اشتدت الخطوب وادلهمت ليالي العراق وحال ما بينه وبين الناس. ولا يختلف اثنان في الإنجاز الكبير الذي قدّمه الشاعر إلى أمته في ظرف هو أشدّ ما يكون على الشاعر الذي لم يغادر مدينته في اكثر أيامها قسوة ورهبة. كانت البصرة بالنسبة للبريكان الأم والعالم والوجود برمته. وكان من الصعب عليه أن يجد نفسه من دونها. ولذلك ومن باب الوفاء لذلك الشاعر الكبير أن يقام له تمثال إلى جانب زميله ومجايله بدر شاكر السياب.
ويجدر بكلية الآداب جامعة البصرة أن تراعي الإنجازات الإبداعية للأدباء البصريين الكبار من أمثال البريكان وغيره باعتبارها معنية أكثر من غيرها بالحياة الثقافية في المدينة فتقوم بالتعريف بالبريكان وغيره من مبدعين البصرة بأن تقيم الندوات الأدبية والمؤتمرات الثقافية والحلقات النقاشية، وليس أن يمر مهرجان المربد عليها مرّ الكرام ـ ومن المفيد أن نذكر في هذا المجال بأن السيد رئيس الجامعة ومساعدوه لم يحضروا افتتاح مهرجان المربد الذي أقامته البصرة على عاتقها، وكأن الأمر لا يعنيه والشعر ليس من اهتماماتها ـ والبصرة مدينة الكلم كله..؟؟! فعلام بعد ذلك نكتب عن ارتباط الجامعة بالمدينة؟ وكيف يمكننا أن نغير الأوضاع الموروثة عن النظام السابق ما دامت الأمور تسير وفق السياقات السابقة؟ إنه لأمر غريب أن لا تدري الجامعة بنشاطات الثقافة في المدينة وقد وجّهت لها دعوة رسمية؟
لكننا نؤمن بأن الزمن القادم هو للثقافة قبل غيرها، ومن هنا نطالب الجامعة في كلّ مناسبة أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية الثقافية المناطة بها وأن تغادر وبلا رجعة عوامل الكسل والتقليدية في النظر إلى دورها التربوي والاجتماعي والثقافي. ومن هنا أقترح على الجامعة أن تتولى مسؤولية تنفيذ التماثيل لمبدعينا بالتعاون مع كلية الفنون الجميلة التي تمتلك من الطاقات الخلاقة ما لم يتوفّر في مكان آخر. واودّ أن أذكر مرة أخرى بأن ما تبقى لنا هو هذه النخبة الطيبة من مبدعينا الذين بقوا في ذاكرة التاريخ وذاكرة الأمة التي لن تمحوها كل أنواع التقلبات الصغرى والكبرى على حدّ سواء.