القليـل الـذي غيّرنـا

القليـل الـذي غيّرنـا

عناية جابر
كاتبة لبنانية
لم نعرف للشيخ سيّد درويش، صورة سينمائية حقيقية ذلك أنه لم يظهر في أي من الأفلام. ولست واثقة تماماً من وجود فيلم وثائقي حقيقي، يظهر فيه درويش بشخصه ذاته، على غرار أفلام وثائقية كثيرة، تناولت سيرا لشخصيات فنية ظهّرتها بلحمها ودمها. ما لست أنساه فحسب، فيلماً عن الشيخ سيّد، لعبَ دوره الممثل الراحل كرم مطاوع الى جانب الممثلة الفاتنة هند رستم في أحد أكثر أدوارها إثارة ودفئاً في آن.

ما زلت حتى اللحظة، كلّما سمعت الشيخ سيّد في «أنا هويت وانتهيت”أحار في إسقاط الكلام على صورة بعينها للشيخ درويش، وأنتهي الى إسقاطه، او إسقاط حال التسليم واليأس اللذين يعلنهما الدور المغنى، على صورة كرم مطاوع وقد فجعته هند رستم ـ خليلته في الفيلم ـ حين هي تُعاشر سواه، فأطرق على عوده راضيا بقضائه وقضاء شرع الغرام الذي أتلفه.
لن أتوقف طويلا عند مفهوم الثورة الموسيقية التي أحدثها الشيخ سيد درويش ـ يتذكرونه الآن في السنة الثالثه والثمانين على رحيله ـ ولن أبجلها. لنقل تبسيطا انه عدم انسجامي الصادق والفعلي مع نتاجه ذي النكهة الغربية، من الأوبريتات التي شاءها متقدمة على قواعدنا وثقافتنا وموروثاتنا النغمية. فكرة اقتران الأوركسترا الشرقية مع الغربية لم أهضمها تماماً.
لن أتوقف كثيرا او قليلا عند مفهوم الثورة الموسيقية التي أحدثها الشيخ سيّد، ويبدو الأمر تهورا مني وتطاولا، ذلك أن إجماعا غالبا، على أن الفتى السكندراني كان حقا أعظم موسيقيي مصر. هذا صحيح في ما يؤثره قلبي لدرويش. هذا صحيح في ما أحبه له، فذائقتي الموسيقية والغنائية، كلاسيكية الى حد، لم ترتح الى بعض نتاجه الذي أقامه على نقض كل ما سبقه.
وجدت في موسيقى درويش التي خصصها في أغنيات عن الحشاشين، والحمالين، والمراكبية، والصنايعية، والعربجية والإعراب اللحني الدرويشي عن مشاعر مختلف فئات الشعب أنها لم تلق صداها في مزاجي ـ وهو مزاجي الشخصي على كل حال ولا تسري عليه «العقلنة» بالطبع ـ رغم أنها عرفت الشهرة، حتى خالها المستمع من الغناء الشعبي الموروث. وجدت في موسيقاه هذه، وأغنياته، أنها بحق إبنة العاميات، وذائقتي ميالة الى الخصوصيات في الفنون، في الموسيقى تحديدا، غير المحروسة بنظام أخلاقي في أساسها العميق.
ما يستعبدني في موسيقى «سي السيّد”أدواره. والدور لمن قد يكون يجهل من القراء هو الأغنية الدسمة التي تبدأ بلحن يتكرر مرتين، قبل ان يتطور ويتفاعل، لتخالطه الآهات قبل ان يبلغ الذروة، يعود بعدها الى الانحدار (في النشوة) منتهياً في ختام رائق.
أُحب أدواره ويكفيه أنه لحّن: «الحبيب للهجر مايل» و«في شرع مين يا منصفين» و«ضيّعت مستقبل حياتي» والدور الرائع الخالد «أنا هويت وانتهيت”في تعبيراته الدرامية الأكثر حداثة في الغناء العربي، غير المتأثرة بطموحات الشيخ سيد درويش الى دراسة الموسيقى في إيطاليا ـ حال دونها موته الباكر في الواحدة والثلاثين من عمره إثر أزمة قلبية، أو لا أدري لأي من الأسباب ـ واطلاعه على أداء الفرق الأجنبية التي كانت تفد الى الاسكندرية والقاهرة، خصوصا الأوبرالية منها التي حضر درويش وشاهد بعضها كـ«توسكا» و«مدام باترفلاي”لبوتشيني، و«البلياتشو”لليونكا فالّو. أدواره كانت اسكندرانية، مصرية محضة، لواعج عربية ونشيج لا يعرفه سوى العشاق العرب. في أدواره العشرة التي لحنها، جعل المقام الأساسي ـ على ما يقول الناقد فكتور سحّاب ـ واحدا من المقامات التي كانت تستخدم نادراً في الغناء آنذاك، وذلك لتلوين المقامات المعتمدة والمهيمنة، كالراست والبياتي والصبا والعجم. سحّاب في كتابه «السبعة الكبار”القيّم، عرض الى أن قبل درويش، جاء من عمل على تطوير شكل المقام الذي ذكرنا، كعبده الحامولي في دور «الله يصون دولة حُسنك”وفي «عشنا وشفنا». هناك أيضا محمد عثمان في «يا ما إنت واحشني» و«أصل الغرام نظرة»، وخصوصاً الدور الأشهى «كادني الهوى» بصوته وبصوت ماري جبران العذب. درويش نسج على منوال أكثر حداثة، الموسيقيون العظام يخونون السيستام (النظام) من أجل عيون الموسيقى نفسها، الموسيقى ـ على ما يقولون ـ التي قلما يمكن ترويضها. موسيقى حرّة من تقاليدها، منطلق ثورة سيد درويش على القديم، فالموسيقى الثابتة على ما جرت قبله، والطريق الثابت إليها، إنما هي أسطورة بالنسبة له لا تتفق مع الجديد والملهم والمحرّض. سيد درويش رأى في الاتكاء على الموسيقى على ما كانت عليه، ضرباً من الدوغماتية، اذ يستحيل الوصول الى نموذجها وقرارها، بل هو الاشتغال والاكتشاف اللانهائي الذي سعى إليه، لجوهر الموسيقى، عربية كانت أم غربية.
أُحب أدواره وبعض أغنياته وليس كل موسيقاه ونتاجه. هي لوثتي الى الفن للفن إذاً، وليس بوصفه شعاراً او رسالة او بيانا او شيئا من هذا القبيل. قد يبدو هذا الخوض جريئا من جهتي، وأقل طموحا مما يريده جمهور الشيخ سيد، قديمه وجديده. أنا من جمهوره ومريديه، ولكن في أدواره التي لم يأت بمثلها أحد، لا قبله ولا بعده. في أدواره العشرة ـ آخرها لم يغنّ ـ احتفظ الشيخ سيد وحده بمفاتيح «الآه». كان زعيم «الأدوار”دون الأوبريتات المسرحية والسينمائية التي لا تلامس قلبي. ما عدا أدواره، لم يتحقق الكثير إلا بمقدار، والباقي كان تظاهرة صوتية آلاتية ورؤية خاصة من الشيخ الى موسيقى معاصرة.

جريدة السفير 2008