الحلة في الحرب العالمية الأولى .. مأساة عاكف بك الدموية سنة 1916

الحلة في الحرب العالمية الأولى .. مأساة عاكف بك الدموية سنة 1916

د. كريم مطر الزبيدي
توغلت القوات البريطانية في عمق الأراضي العراقية جنوباً. وكان الانهيار السريع للقوات العثمانية اثر كبير في ارتفاع معنويات القادة العسكريين البريطانيين للتقدم شمالاً بقيادة الجنرال طاوزند واشتبك الطرفان البريطاني والعثماني في معركة حامية بالقرب من الكوت في 27 أيلول 1915.

استعد العثمانيون بقيادة –نور الدين- لملاقاة البريطانيين قرب المدائن، تمكن العثمانيون توجيه ضربة قوية لخصمهم إضطر خلالها إلى الانسحاب نحو الكوت بعد أن كبدوهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات بلغت في 22 تشرين الثاني 1915 حوالي (4511) قتيل.

انسحبت القوات البريطانية يوم 25 تشرين الثاني مستغلةً ظلام الليل. لقد عدَّ العثمانيون انسحاب البريطانيين نحو الجنوب نصراً عظيماً لهم لتمكنهم من محاصرة العدو داخل مدينة –الكوت- في 7 كانون الأول والذي استمر زهاء خمسة اشهر اضطر البريطانيون إلى الاستسلام في 29 نيسان 1916.
أن نشوة النصر الذي رفع معنويات الجيش العثماني عقب الانتصار في معركة الكوت دفع العثمانيين التفكير بالانتقام من خصومهم في المدن العراقية المجاورة وهذا يعني الانتقام من أهل الحلة جزاءً بما فعلوه بالجيش العثماني في العام الماضي، واعتبرت الدولة العثمانية ذلك الانتصار فرصة ذهبية لتحقيق أماني عاكف بك للإطاحة بالحليين والانتقام منهم، وفي ضوء هذه الظروف عينت القيادة العثمانية (قائممقام) جديداً في الحلة هو مصطفى بك المميز.
أصبحت الحلة مركزاً للقيادة العسكرية، بعد أن كانت مركزاً للمتصرفية وهذا يعني فقدان الإدارة المدنية الذي من خلاله استطاعت العشائر أن تحرر نفسها من قيود النظام الإقطاعي والتزاماته، منتهزة فرصة انحلال الوضع السياسي والامتناع عن دفع ما تراكم بذممها من ضرائب منذ عدد من السنين.
كان القائممقام الجديد يحمل تعليمات قاسية تجاه أهالي مدينة الحلة وهي بداية الخطة للإطاحة بهم، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة العثمانية عازمة على سَوق مجموعة من المتهمين من سجن الحلة إلى سجن الديوانية، فقام بعض أهالي الحلة بمهاجمة دار الحكومة والثكنة العسكرية العثمانية في المدينة نجم عنه قتل مجموعة من الجنود والضباط وقاموا بكسر السجن وإطلاق سراح الموقوفين في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية منهمكة بمقاتلة القوات البريطانية مما اضطرها إلى اتخاذ إجراءات رادعة بحق الحليين الثائرين.
وقد رافق تلك الإحداث أن مشاجرة عنيفة حدثت بين المميز وبين أحد وجهاء الحلة يدعى (الحاج علي الحاج حسن) في ديوان القائممقامية بسبب تطاول المميز عليه طبقاً لسياسته المتعجرفة، فاستاء الحاج علي كثيراً من هذا التصرف المشين وفي صباح اليوم التالي أرسل الحاج علي جماعة من أتباعه المسلحين إلى دار القائممقام فأخرجوه منها عنوةً واستعرضوه في شوارع الحلة أمام الناس وساروا به نحو الجسر المؤدي إلى بغداد بواسطة احد العربات العاملة بين الحلة وبغداد، واجبروه على مغادرة المدينة فوراً، فكان هذا الأجراء جزاءاً بما اقترفه من سياسة هوجاء ضد أبناء الحلة.
وصل المميز بغداد وهو في حالة يرثى لها نتيجة استعراضه في شوارع الحلة أمام الناس وان مثل هذا العمل بحد ذاته لا يعد اهانة (للميز) فحسب بل هو اهانة للدولة العثمانية وتحدياً للقانون والأمن والنظام، لذا بدأ المميز يبعث البرقيات من بغداد إلى استانبول موضحاً الحالة المأساوية التي تلقاها من الحليين.
ناشد المميز استانبول باتخاذ إجراءات سريعة ورادعة بحق أهل الحلة الذين أهانوا الدولة بشخصه.
ويقول محمد أمين العمري في هذا الصدد:”أن خليل باشا والي بغداد كان في كرمنشاه حين وصله من بغداد نبأ حادث الحلة فأصدر أمره برقياً إلى عاكف بك بالتحرك على وجه السرعة إلى الحلة لتأديبهم".
حالما استلم عاكف برقية والي بغداد خليل باشا يأمره فيها بالتوجه نحو مدينة الحلة فوراً لتأديب سكانها لما اقترفوه من أعمال ضد الدولة العثمانية. غادر عاكف بك بغداد في 6 تشرين الثاني 1916 متوجهاً صوب الحلة فنزلت جيوشه منطقة المسيب في 8 تشرين الثاني، وفي 13 منه تحرك نحو سدة الهندية بكامل عدته وعدده، وكان يسنده في نهر الهندية زورق حربي، وفصيل مشاة على ظهور شخاتير.
وكانت ترافقه طائرة واحدة، ويبدو أن عاكف بك جاء بقوات لا يستهان بها في (البر، والنهر، والجو)، وان دلَّ ذلك على شيء فأنه يدل على أن هدف عاكف إيقاع اكبر الخسائر في أهالي الحلة، بعدها غادر عاكف وجيشه (الهندية) متوجهاً نحو مدينة الحلة ووصلها في 15 تشرين الثاني.
حَلَّ عاكف وجيشه في منطقة بالحلة تدعى مشهد الشمس. وكانت لعاكف خطة بدايتها استعمال الحيلة ثم عنصر -المباغتة- والهجوم على الحليين وكان لانتصار القوات العثمانية على القوات البريطانية الأثر الكبير لأندفاع جيش عاكف في ضرب مدينة الحلة والانتقام من أهلها وأخذا الثأر لقتلاه من الجنود العثمانيين في عام 1915 الأمر الذي ترك أثاراً وآلاماً ليس في نفس عاكف فحسب بل حتى في مشاعر الدولة العثمانية التي كانت تتحين الفرص للانتقام.
اقتضت خطة عاكف في البداية توجيه الرسائل والأشخاص المعتمدين إلى وجهاء المدينة يخبرهم فيها انه لا يريد بأهل الحلة شرا، أنما يريد المرور بجيشه ولا نية له بالمكوث في المدينة، والتمسهم برسائله أن يسمحوا له بذلك لغرض التبضع من سوق المدينة لسد احتياجات و لوازم جنوده.
كان للحيلة والدهاء التي أتخذها عاكف وسيلة ناشد فيها وجهاء الحلة السماح له بمرور عساكره عن طريق مدينتهم، وإننا إذ نُعزي أسباب اتخاذ عاكف هذه الخطة هو ارتيابه من الحليين الذين لقنوا جيشه درساً لم ينسوه في عام 1915 وان عاكف يعرف جيداً صمود الحلييون وبسالتهم بوجه جيوشه و أراد أن لا يقع في مأساة العام الماضي، ومهما يكن من أمر اتفق الحليون على عقد اجتماع طارئ يضم وجهاء الحلة في دار السيد محمد علي القزويني لمناقشة رسائل عاكف حول الموضوع.
دارت المناقشات بين المجتمعين، فتعددت الأفكار وانقسمت الآراء فيما بينهم، فكان فريق منهم أبدى رأيه المؤيد لمرور جيش عاكف عبر أراضي الحلة وفريق آخر رفض ذلك الرأي وأبدى رأيه بعدم مرور الجيش من وسط المدينة وفضل القتال، ونتيجةً لاختلاف آراء المجتمعين، وفضاً للنزاع الدائر بينهم أبدى”القزويني”رأيه منسجماً مع الفريق المؤيد لخروج عاكف وجيشه من الحلة حقناً للدماء، ووقف يخطب في الحاضرين يحثهم على الطاعة وإظهار شعار الخضوع لأمر الحكومة، فأيده أكثرهم.
وقد حدثنا السيد عدنان عبود احمد السالم وتوتً بالقول:”...أن هناك جماعة اخرى اعترضت على ذلك الاجتماع ومن جملتهم السيد احمد السالم وتوت مفاده انه أذا سمح لعاكف بدخول الحلة فانه ومن معه سيغادرون المدينة، ونستنتج من ذلك ان الجماعة المعارضة على دخول عاكف المدينة يعتقدون انه سيفتك بأهلها الذي كان سببآ إلى خروجهم من المدينة و هم من سكنة محلات الطاق والجامعين وجبران متجهين صوب مدينة النجف فحلوا ضيوفاً كراماً في دار الشيخ عطية أبو كلل واستطرد السيد عدنان بالحديث قائلاً:”... وبعد أن دخل عاكف الحلة بحجة التسوق من المدينة قام بمصادرة غلال السيد احمد السالم وصلب السيد علي أمين وتوت الذي كان وكيلاً للسيد احمد حينها وقد اتخذ عاكف من منطقة حمام وتوت الحالي الواقع في منطقة الطاق لأدارة عملياته العسكرية و ضرب سكان محلات الجامعين والطاق وجبران.
كما وأفادنا السيد عدنان بالقول:”...أنه ذات يوم التقى المحامي السيد بدري مرزة القزويني وهو من أقارب السيد محمد علي القزويني وقال له انه ذهب في بداية الخمسينات إلى تركيا وفي استانبول التقى بهِ عاكف بك وبعد التعارف فيما بينهم علم عاكف أن بدري القزويني من أهالي الحلة فتذكر في الحال تلك الواقعة و قال متأسفا و نادما على نقضه الوعود التي قطعها لأهالي الحلة بعدم استباحة مدينتهم، وانه لم يحترم وعده رغم قسمه لهم بشرفه العسكري.
ومهما يكن من أمر ارتأى الحاضرون أعداد موكب كبير تجمع فيه معظم وجهاء الحلييون لاستقبال عاكف وجيشه، التقى الموكب الحلي بتلك القوات في مشهد الشمس بتقديم السيد القزويني الذي التقى عاكف وقدم له اعتذار أهالي مدينة الحلة عن الحوادث المؤسفة التي وقعت في المدينة العام الماضي.بعد أن التقى الموكب الحلي بـعاكف وجيشه في”مشهد الشمس”التزم عاكف الصمت، وبهت الناس كأنهم شعروا بالخطر، وظنوا أن اعتذار القزويني له باء بالفشل، وفي هذه الأثناء أحاط جنود عاكف بالموكب ومنعوا رجاله مغادرة المكان، ثم صاروا يلقون القبض عليهم وعلى كبارهم هذا ما يبدوا واضحاً حسب قول عاكف:”...أن أهل الحلة قوم متمردون على الحكومة وقد عرفوا قبل اليوم أنهم عصاة جناة... وأننا نريد دخول المدينة وضبطها، وتخريب ملاجئ الأشقياء، وقد أبقيتكم ودائع عندي حتى ندرك ما نريد فان تعرض المفسدون للجنود فما يجري عليهم يجري عليكم بكل شدة".
بعدها أرسل عاكف فوجاً من جنوده إلى مركز الحلة بصحبة مختاري المحلات الذين بدورهم مهدوا الطريق لقوات عاكف للقيام بالأعمال الآتية:
1. احتل جيش عاكف الثكنة العثمانية التي سبق وان اتخذها الحلييون قلعه لهم منذ عام 1915.
2. سيطرة جنود عاكف على مخافر المدينة والمسالك المؤدية بين المحلات والدور الحكومية والمواضع المرتفعة التي تشرف على البلدة.
أن هذه الإجراءات تعني أحكام قبضة عاكف على المدينة التي بيت النية بها للفتك بأهالي مدينة الحلة وبعد أن تم له ذلك أعلن للحاضرين في مشهد الشمس.”آن أهل الحلة كلهم يستحقون العقوبة ولكن ثمة مرحمة وردت من الحكومة للعفو عنهم وسوف لا ينال العقوبة إلا المذنبين فقط". فرفع الناس أيديهم يلهجون بالدعاء للحكومة والطاعة لها ثم سمح لهم بالعودة إلى بيوتهم.
وفي 16 تشرين الثاني أصدر عاكف أمرا إلى المنادين في المدينة لتبليغ الأهالي بتطورات الأوضاع الخطيرة التي يمر بها الحلييون.
كان خطاب المنادين أن لا يخرج احد من داره عصر ذلك اليوم وناشدوا الحليين الالتزام في بيوتهم لان المدفعية ستدك مواقع المذنبين في ثلاث محلات من مركز المدينة.
وأننا أذا ما نظرنا إلى تلك الإجراءات فإنها تعني أن عاكف ضرب الحصار على كافة مرافق المدينة.
اخذ سكان مدينة الحلة الإسراع في مغادرتها ملتجئين إلى المحلات الأخرى لان المدافع ستصب قنابلها على المحلات الثلاث طيلة ساعتين وبعد أن دكت المدفعية أهدافها أرسل عاكف بك سرية من الجنود يحملون المعاول و المجارف والقنابل اليدوية فشرعوا يفتحون أبواب الدور بالقوة ويحتلونها.
أستمر تدمير الدور حتى يوم 19 تشرين الثاني، وكان لدى عاكف بك قائمة بأسماء عدد كبير من الحليين فاصدر أوامره بإلقاء القبض عليهم وإيداعهم في السجن، لذا اقتضت الخطة إرسال مفارز عديدة إلى القرى المجاورة للبحث عن الهاربين منهم، ثم أمر بتشكيل محكمة عسكرية لمحاكمتهم وإصدار الأحكام عليهم وكان نتيجة تلك الأحكام شنق 127 رجلاً منهم ونفي 231 آخرين.
أمر عاكف آن تكون طريقة الشنق على –دفعات يوماً بعد يوم، ويقال أن عاكف أراد أن يشنق نفس العدد الذي قُتل من جنده في العام الماضي، فشنق شخصاً أصم وأبكم استكمالاً لنصاب قتلى جيشه.
كان من بين المشنوقين (الحاج علي الشيخ حسن) وشُنق معه أخوه (وهيب). وكان أخوه الثالث (محمد سعيد) محكوماً عليه بالإعدام فهرب إلى الديوانية ووقع بقبضة السلطات وهناك تم شنقه بعد معرفتهم به أنه من الحليين المتهمين بالانتفاضة.
وقد ذهب عبد الجليل الطاهر بالقول:”.... انه تم تنفيذ حكم الإعدام بجماعة من رؤساء المدينة ووجهائها يقدر عددهم حوالي (129) شخصاً وقتل ما يقارب من (500) شخص حال فك الحصار الذي فرضه عاكف على الحلة للحيلولة دون الدخول والخروج منها، واخذ عدداً لا يستهان به من الأسرى.
ويقول الطاهر أيضا:”أن من جملة أسباب مجزرة عاكف وجود حامية من العثمانيون في الديوانية رفضت الاستسلام لقوات الحلفاء حتى قصف الطائرات البريطانية لها وقد تحرك أهل الديوانية وضربوا قوات الحامية العثمانية أيضا، لقد كان من انعكاسات مذبحة الحلة هو إرهاب أهل الديوانية التي ذبحت بعض الضباط العثمانيين.
ويذكر العزاوي في هذا الصدد:”... ودمرت قوات عاكف أكواخ الناس وبساتينهم ألا أن صمود الحليين دفعهم للمقاومة بوجه جيشه والدخول إلى المدينة فقتل الكثير منهم وان القوات العثمانية بإمرة عاكف قصفت الحليين الثائرين على الدولة وصبت الطائرات حممها عليهم , وقامت الخيالة بتعقب أولئك الحليين المقاومين.
وحدثنا العمري بالقول:”بلغ عدد القتلى من أهل الحلة الذين استشهدوا في أثناء القتال والمطاردة (إلفاَ وخمسمائة) شهيد، بينما كانت خسائر الجنود العثمانيين خمسة وثلاثين شخصاً بين قتيل وجريح".
نتيجةً لأستمرار مقاومة الحليين في التصدي لقوات عاكف نفذ صبر القوات العثمانية، لذا قرر عاكف توجيه إنذار نهائي لاهالي مدينة الحلة بتسليم ما بحوزتهم من اسلحة وذخائر واحالة المتهمين الى المحاكم العرفية ومصادرة اموالهم(..
لم تنته أعمال التنكيل بالحليين ألا في 27 تشرين الثاني 1916 حين اصدر عاكف عفواً عاماً بعد أن واجه ضربات موجعة من الحليين بالرغم من الخراب والدمار الذي أصابهم من جراء القصف المدفعي.
بعد انتهاء مدة الإنذار نفذ عاكف أوامره والتي نجم عنها:
1. تم مصادرة ما يقارب ثلاثة آلاف طن من الحبوب مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وظهور المجاعة بين الأهالي.
2. قَبَل عاكف مجموعة من الناس الذين استسلموا لعسكره ويقدر عددهم بـ(ستمائة وواحد وخمسين) رجلاً سِيقوا إلى أماكن متفرقة من البلاد، ولم ينفذ بهم حكم الإعدام واعتبرهم عاكف دخلاء.
3. تم نفي وتشريد عشرات العوائل من الذين حكمت عليهم المحكمة التي تشكلت في إثناء الأحكام العرفية.
وكان من نتائج ذلك الإنذار المقيت نفذ عاكف احكاماً شنقاً حتى الموت بكل من يتفوه حول حقيقة الأوضاع فشنق شخصيات ووجهاء الحلة وكان من ضمنهم عم محمد مهدي البصير وصادق الشيخ عبد الحسين الشهيب، الذي شنق وعلقت جثته مقابل الجسر.

عن مدونة الدكتور كريم مطر حمزة الزبيدي