كيف صدر قانون الأحوال الشخصية سنة 1959؟ دور فاعل لرابطة المرأة العراقية في صدوره..

كيف صدر قانون الأحوال الشخصية سنة 1959؟ دور فاعل لرابطة المرأة العراقية في صدوره..

موفق خلف العلياوي
شهدت الساحة السياسية العراقية عام 1958تحولاً تاريخياً, تمثل في قيام ثورة الرابع عشر من تموز, التي أطاحت بالنظام الملكي, وإعلان قيام النظام الجمهوري في العراق, إذ فتحت تلك الثورة المجال واسعاً أمام الأنشطة الديمقراطية التي اندفعت للعمل في صفوف الجماهير, التي رزحت مدة طويلة من الزمن في ظل ديمقراطية العهد الملكي الشكلية,

لذلك فان هذا التحول ساهم في تشجيع الكثير من المنظمات الديمقراطية التي كانت تعمل سراً قبل الثورة على الظهور والعمل العلني, مستفيدة من الوضع الجديد الذي نتج عنها, من تلك المنظمات, رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية التي بقيت تمارس نشاطها سراً منذ تأسيسها عام 1952, حتى إعلان الثورة عام 1958.
منذ الأيام الأولى لثورة الرابع عشر من تموز عام 1958, سارعت الدكتورة نزيهة الدليمي مع عدد من النساء لفتح مقر لرابطة الدفاع عن حقوق المرأة في مبنى الاتحاد النسائي العراقي, بعد رفض السيدة آسيا توفيق وهبي, رئيسة الاتحاد المجيء إلى مقر الاتحاد لاتخاذ موقف مؤيد للثورة, من خلال مكالمة تليفونية معها, فضلاً عن قيام عضوات الرابطة العاملات في الاتحاد بإجراء اتصالات واسعة مع النساء عن طريق تشكيل فرق نسائية, تطرق أبواب البيوت وتدخلها, شارحة أهداف الثورة الوطنية والديمقراطية, مطالبه إياهن بتأييد الثورة, وضم جهودهن عن طريق العمل في الرابطة, وتذكر السيدة بلقيس الشيخلي بأنها ذهبت برفقة زكية خليفة, وهي من العضوات البارزات في الحزب الشيوعي العراقي, والدكتورة فريدة الماشطة - كان عملهن جمع النساء للانضمام للرابطة - إلى عيادة الدكتورة نزيهة الدليمي في الشواكة بعد يومين من إعلان الثورة قائلة :”كانت العيادة تغص بالنساء واذكر منهن سافرة جميل حافظ و لميعة عباس عمارة وابتهاج الأوقاتي وحياة النهر وآمنة النهر, وهن من شابات الرابطة. وكانت فرحة الدكتورة نزيهة الدليمي لا توصف بكسب مجموعة من الشابات إلى الرابطة, إذ إنها استقبلتني بقولها أهلا بك شابة الرابطة التي ترعى حقوق النساء”.
كثفت الدكتورة نزيهة الدليمي من نشاطها في الدفاع عن حقوق المرأة العراقية متخذة من أجواء الانفتاح الديمقراطي التي سادت بعد الثورة مجالاً واسعاً لتحركها بهدف منح الرابطة إجازة رسمية يسمح لها بالعمل علناً, وتخصيص مقر رسمي لها من قبل الحكومة, فقد ذهبت بصحبة وفد من نساء الرابطة, والتقين برئيس الوزراء (عبد الكريم قاسم), في مقر وزارة الدفاع, طالبن الأخير الاعتراف برابطة الدفاع عن حقوق المرأة وإشراك المرأة في فصائل المقاومة الشعبية, ومساعدة الرابطة في فتح مراكز لها لمكافحة الأمية للنساء اللواتي حُرمن من التعليم.
إن هدف الدكتورة نزيهة الدليمي مما ذكرته هو تفعيل دور المرأة في صفوف الحركة الوطنية وأن لا يقتصر على المطالبة بحقوقها الاجتماعية فقط, لذلك نراها تركز على أن أهداف الرابطة هي صيانة الجمهورية والمحافظة على الاستقلال الوطني من خلال تعميق الوعي الوطني بين صفوف النساء, والوقوف صفاً واحداً مع أفراد الشعب العراقي لصيانة الجمهورية, إلى جانب دعوتها النساء إلى التسجيل بالمقاومة الشعبية والعمل سوية مع النساء من غير عضوات الرابطة للوقوف بوجه أي تحرك يريد المساس بالجمهورية خارجياً كان أم داخلياً, وأتضح ذلك من خلال ندائها إلى النساء العراقيات الذي جاء فيه :”إنني أوجه ندائي إلى كل النساء العراقيات عرباً وأكراداً وعلى اختلاف طبقاتهن وفئاتهن أن يقفن صفاً واحداً لإسناد جمهوريتنا العزيزة والانتباه دائماً لأهمية وحدة الصف ولا ندع ثغرة بين صفوفنا ينفذ منها العدو. إننا نساء العراق تجمعنا أهداف واحدة, تتلخص في صيانة جمهوريتنا العزيزة واستقلالها فيجب أن نكرس كل جهودنا الآن لصيانتها, وذلك بالانضمام إلى صفوف المقاومة الشعبية ورفع يقظتنا الوطنية بوجه الدسائس. واني في نفس الوقت أوجه ندائي إلى جميع المواطنين في وجوب أدراك أهمية دور المرأة في صيانة الجمهورية وعدم الوقوف في وجهها في القيام بواجبها المقدس بحجة العادات القديمة لان الواجب الوطني هو فوق كل اعتبار".
لم يتوقف دور الدكتورة نزيهة الدليمي عند تلك الجهود, بل أنها ذهبت إلى وزارة الداخلية برفقة زميلتها عفيفة رؤوف, لتقديم طلب إجازة للرابطة والتقين بوزير الداخلية عبد السلام محمد عارف وعرضن عليه الأمر فقال لهن :”يابة دخلونه نشتغل أول,هسة خابرت لندن وتكلمت معاهم وطلبت منهم تأييد الثورة", فكان لهذه الكلمات ردة فعل لدى نزيهة الدليمي اذ قالت :”لقد صعقنا أنا وعفيفة رؤوف بهذا النموذج الذي جاءت به الثورة إلى السلطة؟ وقلنا له لقد سجلنا طلبنا قي واردة الوزارة ونرجو عرضه على مجلس الوزراء, وخرجنا ممتعضتين وكان ذلك خلال الأشهر الأولى للثورة”.
نتيجة لتأخر الموافقة على طلب الإجازة وبعد استغرابها من هذا الجواب لشخص يُعد في نظرها من قيادات العهد الديمقراطي الجديد, اعتصمت الدكتورة نزيهة الدليمي مع عدد من النسوة أمام مقر وزارة الداخلية ليوم كامل من أجل الضغط عليها لمنحهن أجازة لعمل الرابطة, والموافقة على الطلب الذي قدمته مع رفيقاتها, وجاء فيه:”نحن الموقعات أدناه الهيئة المؤسسة لرابطة الدفاع عن حقوق المرأة تلك المنظمة الديمقراطية التي تضم إليها النساء من مختلف الطبقات والفئات بغض النظر عن قومياتهن وأديانهن وميولهن السياسية جئنا نطالب بأجازة منظمتنا لكي نقوم بالواجبات الملقاة على عاتقنا وتنظيم صفوف النساء في الدفاع عن الجمهورية كما يبدو ذلك واضحاً في نظامها الداخلي المرفق طياً راجيات تفضلكم بإعطائنا نادي الاتحاد النسائي العراقي مقراً لها. وتفضلوا سيادتكم وافر الشكر والاحترام".أمام ذلك الإصرار, إضطر وزير الداخلية إلى الموافقة على منح إجازة لعمل الرابطة,
وبهذا استطاعت نزيهة الدليمي بفعل إصرارها ومساندة زميلاتها من انتزاع موافقة الحكومة في العمل علناً, ووضع الأخيرة (ضمن خانة تحمل المسؤولية) عند رفض طلب الرابطة التي تسعى إلى تغيير واقع المرأة العراقية, وانتشالها من حالة الفقر والجهل.


صدور قانون الاحوال الشخصية
كان الانجاز الأكبر الذي ساهمت الدكتورة نزيهة الدليمي في تحقيقه هو صدور قانون الأحوال الشخصية ذي الرقم 188 لسنة 1959, من خلال دعواتها المتكررة لتشكيل لجنة وطنية تعمل على وضع لائحة لمثل ذلك القانون, كما أكدت ذلك في مؤتمر الرابطة العلني الأول في قراراتها حول مشاكل المرأة في المادة الرابعة من باب الحقوق الاجتماعية جاء فيها أولاً :الزواج”محو مساوئ المجتمع الإقطاعي ونظرته الرجعية التي يجب أن تحترم وتبنى على أسس من الاحترام المتبادل بالحقوق والواجبات مع عدم عد المرأة كسلعة تباع وتشترى في الزواج دون موافقتها أو أخذ رأيها في قضية تهمها مثل هذه وتناظر الحقوق في الزواج والطلاق فضلاً عن تسجيل جميع العقود في سجلات المحاكم الشرعية أو ما ينوب عنها في الأقضية والنواحي وإجراء الفحص الطبي قبل الزواج للطرفين وأن لا يكون الزواج إلا أمام المحاكم الشرعية ومنع زواج الأطفال".
الجدير بالذكر أنه منذ إقامة الحكم الوطني في العراق عام 1921 حتى صدور القانون عام 1959, كان قضاء الأحوال الشخصية فيه يستمد أحكامه من القرآن الكريم التي يستنبطها الفقهاء وفتاوى العلماء والمجتهدين, ومن مجموعة الأحكام الشرعية التي كانت معتمدة ومقبولة لدى دار الإفتاء أيام الحكم العثماني, وكانت هناك محاولات عديدة لوضع قانون للأحوال الشخصية يوحد العمل القضائي لكل المذاهب الإسلامية في العراق إلا أنها لم تنجح. جرت أول محاولة في عام 1933عندما عهدت وزارة العدلية إلى ديوان التدوين القانوني لوضع لائحة قانون للأحوال الشخصية, وبعد انجاز الأخير له ظل بين مد وجزر وتعديل وتحوير لمدة عشر سنوات ولم يتم إقراره, وجرت محاولة أخرى عندما شكلت وزارة العدل لجنة من رجالات الفقه والقانون في السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1945برئاسة محمد حسن كبة رئيس مجلس النواب, وعضوية الشيخ علي الشرقي رئيس مجلس التمييز الشرعي الجعفري, وحمدي الأعظمي المدون القانوني, وشفيق شريف العاني عضو مجلس التمييز الشرعي السني, إذ بدأت عملها مستندة على لائحة ديوان التدوين القانوني التي وضعت عام 1933, ولائحة أخرى جديدة وضعها الشيخ علي الشرقي, وعلى الرغم من خروجهم بقانون جديد للأحوال الشخصية إلا أن خطط وضع قانون موحد من قبل اللجان المشكلة التي حاولت أن تجمع الأحكام الشرعية وتوحدها وتخرج منها بقانون يجمع المتفق عليه من الآراء لم توفق في عملها.
إن تعدد مصادر القضاء واختلاف الأحكام يجعل حياة العائلة غير مستقرة وحقوق الفرد غير مضمونة, كما جاء في موجبات صدور القانون, مما دفع للتفكير بوضع قانون يجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها, عندها قامت الرابطة بتقديم مشروعاً إلى الزعيم عبد الكريم قاسم, قدمته الدكتورة نزيهة الدليمي يتضمن سن قانون للأحوال الشخصية فوافق عليه, تألفت على أثرها لجنة في وزارة العدل بأمرها الإداري المرقم 650, والمؤرخ في السابع من شباط عام 1959, لوضع لائحة للأحوال الشخصية تستمد مبادئها مما هو متفق عليه من أحكام في الشريعة, وما هو المقبول من قوانين البلاد الإسلامية, وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق.

على أثر ذلك قامت الرابطة بتشكيل لجان في الأحياء السكنية, في بغداد وباقي الألوية, لدراسة مشاكل المرأة وأخذها بنظر الاعتبار في القانون المقترح, وكلفت الدكتورة نزيهة الدليمي الناشطة النسوية روز خدوري بالإشراف على عمل تلك اللجان وجمع تقاريرها, كما تم تكليف نساء من مختلف الاختصاصات تربويات وقانونيات وطبيبات وسيدات من كبيرات السن والخبرة في التقاليد الاجتماعية للشعب العراقي, إذ تم تقديم ملاحظاتهن إلى اللجنة المكلفة بصياغة القانون. وساهمت الدكتورة نزيهة الدليمي قي تأييد لائحة القانون ومناقشته, لاسيما ما تضمنه حول مساواة الأنثى والذكر في الميراث, ووقفت إلى جانب صدوره والتصويت عليه في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في التاسع عشر من كانون الأول 1959, تحت اسم قانون الأحوال الشخصية ذي الرقم 188لسنة 1959, وتم نشره في جريدة الوقائع العراقية الرسمية في الثلاثين من كانون الأول 1959, ليصبح قانونٌ نافذاً.

تميز هذا القانون بأنه أول قانون تقدمي ليس في العراق فحسب بل في المنطقة كلها, وخطوة جريئة على طريق تطوير وضع المرأة, كونه أشتمل على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج, والطلاق والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث, فضلاً عن تحقيقه للمساواة والعدالة في الحقوق الرسمية والعرفية التي شرعتها السلطة, ورتبها فقهاؤها, ورفض الطائفية والمذهبية, والتمييز الذي كان يتسم به المذهب الرسمي العثماني.وأثار هذا القانون عند صدوره سلسلة من ردود الفعل والمواقف المتشددة من قبل رجال الدين, إذ عدوا فقراته, لاسيما ما يتعلق بالزواج والطلاق والرضاعة والحضانة ومساواة الأنثى بالذكر في الميراث مخالفة للشريعة الإسلامية, وطالبوا بأن يكون إصدار القانون من مسؤولية الجهات والمرجعية الدينية, الأمر الذي أدى إلى شن هجمة قوية ضد الرابطة,لاسيما الدكتورة نزيهة الدليمي حتى أنها تذكر بأن من حاربوها في هذا الشأن هم خصوم سياسيون, أولاً كونها شيوعية, وثانياً كونها امرأة, حتى إن عائلتها لم تسلم من تلك الهجمة وخاصة أخواتها ووالدتها, كما هوجمت مقرات الرابطة في مختلف ألوية ومدن العراق, إلى الحد الذي جعل من عملية خروج الرابطيات إلى عملهن محفوفة بالمخاطر,تذكر السيدة بلقيس الشيخلي رئيسة الرابطة, فرع المسيب, في تلك المدة أن عملية خروجها من البيت إلى المدرسة التي تعمل فيها, كانت تتم عبر سيارة خاصة لأحد الرجال من المنطقة, علماً أن المدرسة لا تبعد عن سكنها سوى مائة متر, وذلك لكثرة التهديدات والمضايقات والهجمات التي كان يقوم بها رجال مجهولين.
وتعرضت الكثير من مدارس محو الأمية التي تشرف عليها الرابطة إلى الإغلاق, بذريعة أنها ستار لنشر الأفكار الشيوعية – حسب قول سكرتارية الرابطة - لاسيما في المنطقة الجنوبية من العراق, إذ اصدر قائد الفرقة الأولى الحاكم العسكري فيها حميد الحصونة في حزيران من عام 1960, أمراً بإغلاق بعض المدارس نشر في الصحف قائلا ً:”كفانا ما لاقيناه من تجربة قاسية من تستر وراء مكافحة الأمية.... أمي مخلص خير من مواطن مثقف وهدام... يرسل المخالف إلى المحاكم وفق المادة 31من قانون تعديل قانون العقوبات البغدادي لسنة 1959".
إن ردة الفعل القوية من قبل رجال الدين على صدور القانون, كونهم عدوا الموافقة عليه انتصاراً للقوانين الوضعية على حساب القوانين السماوية ومنها الإسلام. كما عدوه نوعاً من المفسدة للمجتمع, فضلا ًعن انه أُستغل من قبل الخصوم السياسيين الذين حاولوا إظهار من ساند القانون بمظهر المعادي للدين, من خلال نشر بعض الأهازيج ومنها (ماكو مهر بس هالشهر والقاضي انذبة بالنهر), حتى أن هذا الشعار كان يتردد من قبل فتيات بالقرب من الصحن العلوي الشريف في مدينة النجف.
يمكن القول أن تشريع القانون كان في جوانب كثيرة منه إنصاف للمرأة, وتنظيم العلاقة الزوجية, إذ انه منع الزواج بأكثر من زوجةٍ واحدة, إلا بإذن القاضي الشرعي, مع اشتراط أن تكون للزوج كفاية مالية لإعالة ما زاد على واحدة. كما حدد سن الزواج بالثامنة عشر, وان تتم عملية تسجيل عقود الزواج في المحاكم الرسمية لضمان حقوق الزوجة, فضلاً عن المواد المتعلقة بالحضانة والنفقة والمهر وغيرها.

عن رسالة (نزيهة الدليمي ودورها...)