العراق في سنوات الحرب العالمية الثانية.. مشاهد مطوية من الحياة في (معتقل الفاو)

العراق في سنوات الحرب العالمية الثانية.. مشاهد مطوية من الحياة في (معتقل الفاو)

زينب كاظم العلي
قبل التطرق الى واقع معتقل الفاو واوضاع المعتقلين فيه لا بد من التأكيد ان المعتقلين كانوا من العناصر التي اتصفت بالوطنية والاخلاص ولم يكونوا دعاة او عملاء لدولة اجنبية او خيانة حسبما اتهمتهم السلطات العراقية حينذاك، ورداً على ذلك الاتهام فقد ارسل هؤلاء المعتقلون البرقية التالية”نحن المعتقلين في الفاو نحتج على اتهام المسؤولين ايانا بأننا دعاة لبعض الدول الجنبية نطلب ان ياتوا ببينة واحدة على واحد منا تؤيد اتهامهم هذا،

انما نحن اناس وطنيون صرحاء لنا كرامتنا وشرفنا لا ندين ولن ندين الا للدولة العراقية، عليه وعلى هذا نموت وحسبنا رضى الله وشهادة التاريخ”.
لقد اختير معتقل الفاو في موقع يبعد حوالي خمسة كيلومترات عن مدينة الفاو، وفي بقعة تحيطها ارض منخفضة تغمرها المياه ولم تتوفر فيه الشروط الصحية اللزمة وأنعدمت فيه ايضاً العناية والاشراف الطبي اللازم، وبالرغم من ذلك فلم ييأس المعتقلون بل تكاتفوا وتظامنوا لاستخلاص حقوقهم.
ففي برقية ارسلها المعتقلون احتجوا فيها على تردي احوالهم وطالبوا بمعاملة افضل بأعتبارهم معتقلين سياسيين، وكان مما ورد في برقيتهم قولهم”نحن المعتقلين ومن نواب وحكام ورؤساء قبائل واساتذة واطباء ومحامين وضباط وصحفيين وملاكين وتلاميذ جرى اعتقالنا ـ ونحن في مملكة دستورية ديمقراطية خلافاً للغرض الاساسي الذي وضع في مرسوم صيانة الامن من اجله، وقذفنا الى منطقة عسكرية محرمة ومكان وضيع موبوء منقطع عن العمران تتهدده الاخطار التي تأبى المرؤة تعريض نخبة من رجال الامة لها، هذا من حيث المبدأ، اما من حيث الشكل فقد عوملنا معاملة المجرمين العاديين سواء في كيفية اعتقالنا وتسفيرنا بدون سابق اخطار وتجويعنا يومين كاملين، ثم عدم تهيئة ابسط الوسائل الضرورية في هذا المنقطع من الخراب من ادوية ومواد نظافة وحمامات وغسل ملابس ومن مأكل ومشرب، وقد حشرنا في منازل عادية في ساحة ضيقة في نطاق من الاسلاك الشائكة مع فئة من ذوي السوابق الذين لم نفهم سر زجنا بينهم.

وكان ابرز من وقع على تلك البرقية الاشخاص التالية اسماؤهم : محمد بهجت الاثري وطالب مشتاق وجميل روحي واسماعيل غانم والدكتور مظفر الزهاوي والدكتور سليم الخياط وعبد القادر السياب وسلمان الصفواني وعبد الرزاق الحسني وعبد الهادي الجواهري والدكتور كنونة وحقي عبد الكريم وطه ياسين عبد الخالق وكرم عبد الستار طه وجمال الآلوسي والدكتور سليم النعيمي وعارف الآلوسي ونعمان العاني وعبد المجيد زيدان وعبد الملك البدري والشيخ فتيخان وعزت الكرخي وعبد المجيد الصقلاوي وعبد الرحمن البزاز ومحمود فوزي وعبد الرزاق حمود وجان شماس وعبد الحميد العيسى وطه الحاج عيدة وعبد الحافظ الملا، ومزهر متي واكرم فهمي والشيخ علي سته وحازم المفتي وانطوان بولص سمحيري والدكتور صبري مراد والدكتور محفوظ عبد السلام جاوكك، وثعبان الخيون والدكتور مظفر المالح وابراهيم شوكت وعبد الهادي مختار وسليم زيوني وعباس كاشف الغطاء والدكتور يوسف عبود، ويبدو إن لهذه البرقية وغيرها من البرقيات الاحتجاج فضلاً عن مكانة موقعيها قد تركت اثراً بليغاً على وزارة الشؤون الاجتماعية وكانت نتيجة ذلك ان طلبت الوزارة من متصرفية لواء البصرة اجراء التحقيق والتثبت من حال واقع معتقل الفاو، كما انبثقت لجنة من بين المعتقلين سميت”لجنة المعتقلين”وكان سكرتيرها عباس كاشف الغطاء، اما اعضاءها فهم كل من خليل كنه وسلمان الصفواني واكرم الربيعي وابراهيم شوكت، وقد ارست هذه اللجنة اولى برقياتها الاحتجاجية الى كل من وزارة الداخلية والعدلية والشؤون الاجتماعية، وقد ذكرت في تلك البرقية انهم لا زالوا يعاملون معاملة هي دون معاملة المعتقلين الاجانب والمساجين”، ورجوا ان يوضع حد لمعاملتهم السيئة واكدوا بأن”مسائل الطعام ووسائل الصحة والراحة لا يمكن تسويتها مع المتعهد او ادارة المعتقل وطالبوا بالتدخل لحلها، وعلى اثر ذلك زار المعتقل في 12 تشرين الثاني 1941 وكيل المتصرف بصحبة رئيس صحة اللواء ومدير الشرطة وعدد آخر من الموظفين، وبعد اجراء التحقيقات الضرورية قدموا تقريرهم الى وزارة الشؤون الاجتماعية.
وعلى أي حال فأن المتصرفية قد أخذت بتفاصيل التقرير السابق وأوضحت بعض الأجراءات التي قررت أتخاذها فيما يتعلق بدفئة المعتقل ورفع الرطوبة الموجودة، وان دائرة الميناء سوف تقوم بما يقتضي لإصلاح الطرق الموصولة بين الدور بأقرب وقت.
كما وافت على شراء راديو واحد مع مكبرات للصوت تنصب في محلات السكن، وقد أوعزت الى مدير السجن في البصرة للقيام بإجراء اللازم فيما يتعلق بتعيين غسال للملابس مع تعيين حلاق خاص.
الا ان المتصرفية أخفقت في تجهيز سيارة أسعاف أو تأسيس صيدلية أو مركز للخدمات الطبية خاصة بالمعتقل، لذا فقد تردت صحة المعتقلين بسبب المناخ وبسبب البناية التي لم تتوفر فيها الشروط الصحية.
وأعتماد مديرية السجون على مديرية الميناء بتقديم الخدمات الطبية ومعالجة المرضى من المعتقلين مما جعلها تطمئن الى وعود تلك المديرية التي لم تقدم شيئاً يستحق الذكر مما زاد سوء الحال وتردي الأحوال الصحية للمعتقلين كافة، ولقد كانت أبرز الامراض التي اصيب بها المعتقلون هي الروماتزم وضغط الدم وتصلب الشرايين وصداع مزمن وقرحة في المعدة والتهاب الكلية المزمن والتهاب القصبات المزمن وأمراض داخلية مختلفة تستدعي إرسالهم الى مستشفى البصرة.
ولقد أدى هذا الوضع الصحي المتردي الى سخط المعتقلين وتذمرهم الذي عبرو عنه بعرائض وطلبات وشكايات عديدة الى متصرفية البصرة لايجاد حل لما يعانيه المرضى المعتقلون الا ان أستجابة متصرفية لواء البصرة لطلبات المعتقلين لم تكن أيجابية وكان رد المتصرفية على تلك الطلبات في تقرير رفعتة الى وزارة الشؤون الاجتماعية بعد توفر الحراسات على رجال الحرس المرافقين للمرضى عندما ينقلون الى المستشفى.
أما تعليقها على تقارير الاطباء المعتقلين والذين أشرفوا على معالجة زملائهم بأنها لا يصح التعويل عليها الى حد بعيد من جهة كونها مبنية على مجرد إدعاء المعتقل كونه مريضاً دون أن تكون مؤيدة بحقائق تثبت صحة ذلك، كما ذكرت المتصرفية ان مديرية الميناء أعلمتها أن طبابة الفاو تعلل سبب امتناعها عن إرسال طبيب من عندها مع سيارة أسعاف لمعالجة مرضى المعتقل لإنها كانت تطالب بمخصصات قدرها 30 ديناراً شهرياً، وقد أعربت مديرية الميناء عن إستعدادها لدفع المخصصات المذكورة من ميزانيتها مباشرة اذا وافقت الوزارة المسؤولة على ذلك ونقصد بها وزارة المواصلات والأشغال، لذا فأن المتصرفية رأت من أجل تأمين معالجة المعتقلين ووضع حد لشكاياتهم المستمرة أما تعيين طبيب خاص أو الموافقة على دفع المخصصات الاضافية من مديرية الميناء الى طبابة الفاو.
وبالرغم من تلك الأجراءات فأن المشاكل لم تنته في المعتقل كما ان عوائل التذمر بقيت قائمة في نفوس المعتقلين ولا سيما فيما يتعلق بالارزاق وخرق المتعهد المستمر لتعليمات تجهيزات الارزاق، لأن المتعهد لا يحافظ على تسليم المواد الغذائية في الوقت المحدد مما أدى الى الفوضى والتأخير في أوقات الوجبات الثلاث، إضافة الى ردائة المواد الغذائية وعدم ملائمتها صحياً، كان المتعهد يهرب من تنفيذ تعهده بجلب بعض المواد الغذائية المكلف بجلبها كالخضروات الطرية وإصراره على تجهيزها من النوع اليابس بالرغم من وجودها بوفرة في الاسواق، وكانت لجنة المعتقلين قد راجعت آمر المعتقل بشأن مخالفات متعهد الارزاق إلا ان مراجعاتهم لم تثمر فأنها إضطرت أن تسجل تلك المخالفات وترفعها الى الى الجهات المسؤولة الأخرى في الدولة.

ومن الحقائق التي دونها ملاحظ حفر الفاو وغيره من الناس فضلاً عن اللجان التي جاءت وحققت في اوضاع الفاو جميعها توضح الحالة السيئة التي كان المعتقلون يعانون منها وصعوبة الظروف التي كانت تحيطهم.
وعلى اية حال يمكن للباحث ان يستنتج من هذا العرض ان متصرفية البصرة لم تتخذ اجراءاً ايجابياً لتحسين احوال المعتقلين بل على العكس فقد اتخذ متصرف لواء البصرة عبد الرزاق حلمي موقفاً اشد ظروة على المعتقلين من غيرة، وكأنه اراد ان يظهر بموقفه هذا ان لا يكون أقل شأناً من غيرة ارضاء للسلطة التي تولت الامر بعد انهيار حكومة رشيد عالي الكيلاني.
ومن دراسة الوثائق المتعلقة بالمعتقلين والمعتقل تبرز لنا ما يلي من الظواهر :
(اولاً) بالرغم من ان معتقل الفاو اريد به ان يكون مكاناً لاعتقال العناصر القومية التي ايدت وساندت ثورة مايس فقد حصل ان زجت السلطة فيه عناصر من الشيوعيين، وقد حاول الاخيرون العمل على تغير قناعات بعض العناصر القومية وقد ادى هذا الامر الى حصول بعض الحساسيات والنزاعات، فمثلاً في 23 شباط 1942 اعتدى عبد الملك عبد اللطيف وعبد الله مسعود وحميد مجيد علي المعتقل عبد الرزاق احمد الحمود بعد ان ايسوا من جره ومعتقلين آخرين من الشيوعية، وادت هذه المشاجرة الى حدوث (شغب وغوغاء بين المعتقلين جميعاً لو لا تدخل آمرية المعتقل

وتفريقهم لحدثت امور لا يحمد عقباها”، وعلى اثر هذا الحادث امرت آمرية المعقل بنقل الثلاثة الى معتقل آخر حيث”لا يمكن بقائهم في هذا المعتقل نظراً لشدة تحمس باقي المعتقلين ضدهم لتظاهرهم بالشيوعية واستهتارهم بالدين الاسلامي”.
(ثانياً) بالرغم من عدم وجود معرفة سابقة بين المعتقلين لمجيئهم من مناطق مختلفة من القطر الا ان الايمان القومي ولتأييدهم لثورة مايس كان العامل الاساسي في جمعهم واتفاقهم، وقد تجسد هذا الاتفاق في تضامن المعتقلين حيث رفض بعضهم النقل الى مكان آخر رغبة البقاء مع اخوانهم الاخرين في المعتقل رغم الظروف الصعبة داخلة.
(ثالثاً) لقد كان الاعتقال ووضع المعتقل وانعدام ابسط الشروط الصحية فيه سبباً لتغيير مواقف بعض المعتقلين وتقديم عرائض للسلطة ورموزها اعلنوا فيها برائتهم من التهم المسندة اليهم وطلب قسم آخر من معارفه للتوسط لدى رجال الدولة لتحسين أوضاعهم بنقلهم الى معتقل آخر.
(رابعاً) كان بعض المعتقلين من فئات أجتماعية فقيرة وكانت اوضاعها الاقتصادية سيئة، وقد تضررت عوائلهم كثيراً بسبب الاعتقال لانعدام من يعيلها، وآخرون كانت لهم مصالح اقتصادية وزراعية اهملت بسبب اعتقالهم وعدم وجود من يتابعها، لذا قدمت عرائض كثيرة الى المتصرفية من قبل هؤلاء يطالبون فيها الافراج عنهم للاسباب المعاشية والاقتصادية السابقة.


بالرغم من العرائض والاحتجاجات التي كان المتقلون يرفعونها من وقت لآخر طالبة بتحسين اوضاعهم والاهتمام بالطعام ومتابعة الارزاق المختلفة وتوفير شروط النظافة وغير ذلك من المطالب المشروعة، كانت آمرية المعتقل تفند تلك المطالب وتعتبر المروجين لها مجموعة من المشاغبين الذين لا هم لهم الا اثارة المشاكل وبتحريض الاخرين على المعتقل وسلطاته، وكان من رأيها لن لا حل لهذه المشاكل الا بنقل المعتقلين الى معتقلات اخرى سواء في سامراء او نقرة السلمان او الى السجون العراقية المختلفة.
ولعل السبب المباشر الذي عجل بغلق معتقل الفاو ما حصل من صدام بين المعتقلين وسلطات المعتقل في 11 أيار 1942 حينما تجمهر المعتقلون حول مخزن الارزاق للكشف عن الطعام ولاثبات ردائته وتواطئ المتعهد مع آمرية المعتقل، لقد كانت هذه المواجهة سبباً في اتصال آمر المعتقل بمتصرف البصرة الذي اشار عليه بغلق مداخل المعتقل ومنع المعتقلين من الخروج الى اي مكان، ثم جرت مراسلات سريعة بين المتصرف ومديرية السجون العامة تقرر على اثرها غلق المعتقل في 20 أيار 1942 ونقل المعتقلين في حراسة مشددة الى معتقل العمارة.

لقد بذلت بريطانيا وعملاؤها جهداً مكثفاً من أجل جعل البصرة قاعدة ومركزاً استراتيجياً لقواتها العسكرية وقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وهذا ما أرادته بريطانيا في تفسيرها لمعاهدة سنة 1930 وتم ذلك فعلاً، وفضلاً عن ذلك فإن التناقض والاختلاف الذي وقع بين القادة وتباين آراء الساسة العراقيين في تفسير علاقاتهم مع بريطانيا ولا سيما فيما يتعلق بموضوع الانزال البريطاني قد انعكست نتائج هذه السياسة بما فيها من السلبيات على العراق.
فمن جهة التزمت الحكومة الكيلانية بتعهداتها الدولية التي وردت في معاهدة 1930، ومن جهة أخرى قدمت الاحتجاجات الرسمية التي ضربتها بريطانيا عرض الحائط، فلم تعترف الحكومة البريطانية بمذكرات وزارة الخارجية العراقية بشأن الانزال ولم تجب بالقبول أو الرفض على تلك المذكرات، وانما استغلتها بمناورات دبلوماسية لتثبيت هذا الانزال، ويظهر انه لم يكن بوسع الحكومة العراقية والقوات المسلحة الحيلولة دون قيام البريطانيين بانزال قسري في ذلك الوقت بسبب عدم تكافؤ القوتين ـ والقادة العسكريون على معرفة بذلك ـ وليس هذا فحسب بل ان الهيمنة البريطانية على الدوائر السياسية والمؤسسات الاقتصادية في العراق بشكل عام والبصرة بشكل خاص، جعل من الصعب تنفيذ اي مشروع يخدم مصلحة العراق آنذاك حتى وان كان مخططاً له من قبل بعض الساسة العراقيين وانما بقي حبراً على ورق.

ولكن على الفرق من ذلك نجد ان حركة الاعتقالات وحجر حريات الاخرين قد حصلت بعد اخماد الثورة ولم تكن سياسة الاعتقالات هذه قد حدثت بمعزل عن تدخل السلطات البريطانية اذ لم يكن اختيار معتقل الفاو في تلك البقعة في منطقة الفاو عفوياً بل كان امراً مقصوداً لجعله مكاناً للتنكيل بالوطنيين وقد بقي المعتقل بالكيفية التي عليها تحت اشراف مديرية الميناء ونفوذها لوقوع المعتقل ضمن املاكها.
اضافة الى ذلك ان متصرف لواء البصرة عبد الرزاق حلمي الذي توبى المسؤولية الادارية في البصرة بعد القضاء على الثورة لم يبد اعتراضاً على تلك البقعة بحكم ما يبيحه له القانون من صلاحيات، كأن يقول بان البقعة التي اختيرت غير صالحة لقسوتها المناخية ووقوعها في منطقة موبؤة وضمن املاك مديرية الميناء التي هي خارج مسؤلياته وبالرغم من كل ذلك فان المعتقلين كانوا اقوى من كل تلك الظروف إذ قدموا مثلاً رائعاً في التكاتف والاتفاق والتراحم وكذلك في التحدي للاحتلال حينذاك
عن كتاب (البصرة واحداث ثورة مايس)