موبي ديك  لهستون: حين اقتبست السينما الرواية المستحيلة

موبي ديك لهستون: حين اقتبست السينما الرواية المستحيلة

ابراهيم العريس
هي من ناحية مبدئية وفي كل مقاييس الإقتباس السينمائي من أعمال روائية كبيرة، الرواية التي من المستحيل أفلمتها. مثلها في هذا مثل «يوليسيس» جويس و»سفر (سيلين) الى آخر الليل» و»بحث (بروست) عن الزمن الضائع». ومع هذا أقدم جون هستون الذي كان لا يعرف لكلمة مستحيل من معنى، في العام 1956 على تحقيق فيلم انطلاقاً من هذه الرواية اعتبر ولا يزال يعتبر حتى اليوم من كلاسيكيات السينما العالمية، وربما ايضاً واحداً من النماذج الممكنة للعلاقة بين الأدب والسينما.

صحيح ان هستون اكتفى بجزء إنما أساسي، من أحداث الرواية وبقسط من افكارها، طالما ان ليس في وسعه ان يفعل شيئاً آخر، لكنه على عكس معظم الذين حاولوا اقتباس الأعمال الروائية الكبرى، عرف كيف يحتفظ بروح العمل الأصلي هو الذي نعرف انه اقتبس افلاماً عديدة له من اعمال ادبية كبيرة حيث ان له فيلم مقتبس من جويس («الميت») وآخر من مالكولم لاوري («تحت البركان») بين آخرين، بل حتى عرف كيف يقتبس من الكتاب المقدس. وبهذا كان فريداً في عالم السينما الأميركية.
> تماماً مثلما كان هرمان ملفيل صاحب رواية «موبي ديك"فريدا في الرواية الأميركية عند بداياتها المجيدة هو الذي كتب في رسالة بعثها الى زميله وصديقه ناثانييل هاوثورن يقول: «ان يحقق المرء سمعته وخلوده حتى بعد موته أمر فيه ما يقلق. ولكن الأسوأ منه ان يحقق هذا الخلود بوصفه رجلاً عاش سنوات من حياته مع أكلة لحوم البشر...». عبر هذا القول كان ملفيل يشكو من كون القراء احتفظوا بذكرى «رائعة"عن عملين كبيرين من أعماله هما «تايبي"و»أومو"وهما روايتا بداياته. غير ان ما حدث تالياً، هو أن شهرة ملفيل وخلوده تحققا بفضل عمل آخر تماماً هو «موبي ديك"روايته التي ترتبط مباشرة بالعقل الإنساني. وإذ نقول «العقل» الإنساني، فإننا نعني هذا بالتأكيد، لأن هذه الرواية الضخمة (التي يمكن قراءتها عربياً في ترجمة رائعة حققها احسان عباس قبل سنوات طويلة)، هي رواية مبنية بناء عقلياً صارماً ومصاغة وكأنها عمل فلسفي غايته الأساسية البحث عن مكانة الإنسان في هذا الكون. وملفيل، الذي كتب عدداً كبيراً من الروايات التي ترتدي، ظاهرياً، طابع المغامرة، يمكن ان يعتبر بحق فيلسوف الرواية، لأن معظم رواياته، ولا سيما منها «موبي ديك"يحتوي على الأسئلة الجوهرية، بمقدار ما يحتوي على البناء الروائي. ولعل هذا ما اجتذب هستون نفسه الى هذا العمل وقبل التحدي.
> وإذا كان من الصعب عادة تلخيص الرواية فإن تلخيص الفيلم يبدو دائماً أسهل إذ ان الفيلم نفسه يبدو بشكل ما تلخيصاً للرواية. و «موبي ديك"الذي يحمل الفيلم كما الرواية اسمه هو حوت أبيض ضخم، يتطلع الصيادون في البحار الهائجة الى اصطياده، لكنهم جميعا عاجزون عن ذلك، ويشكل هذا الحوت بالنسبة إليهم تحدي حياتهم وهزيمتها الكبرى. وملفيل، الذي كان في أعمال سابقة له اعتاد أن يروي مغامراته ومغامرات رفاقه البحارة - الصيادين في بحار الجنوب، استخدم هذا كله ليحوله الى عمل روائي سيصبح سينمائياً على يدي هستون، هو، أولاً وأخيراً، تفاصيل رحلة صيد بحرية يقوم بها المركب «بيكود» منطلقاً من قاعدته البحرية في نانتوكت. والغاية صيد ذلك الحوت الذي كان بحارة كثيرون شاهدوه - وأرعبهم - في رحلات سابقة، وأطلقوا عليه اسم «موبي ديك». ومن أهم خصائص هذا الحوت انه أبيض اللون على عكس بقية الحيتان المعروفة. ومحرك الرحلة، كما نتعرف إليه منذ البداية هو اشماعيل (المؤلف نفسه على الأرجح)، واشماعيل هذا تحركه رغبة في الانضمام الى رحلة بحرية تمكنه من صيد «موبي ديك»، وهذا الأمر سنعرفه بالتدريج إذ نتابع اتجاه اشماعيل الى القاعدة البحرية، وتعرفه في الطريق الى الذي سيصبح رفيقه كويكغ، من سكان جزيرة نائية اشتهرت بإحاطة الحيتان بمياهها. ومنذ البداية نعرف ان اشماعيل تحركه رغبة غامضة وحاسمة في الوصول الى «موبي ديك»، ولاحقاً سنعرف ان رغبة اشماعيل شخصية بحت لأنها في حقيقتها رغبة انتقام لا رغبة صيد فقط. ويصل اشماعيل ورفيقه الى المركب. وهنا يعرفنا المؤلف إلى شخصيات بقية البحارة المتجمعين بعد ان وقعوا العقود، فنجد أنهم يتألفون من قوم أتوا من كل مكان: بينهم الزنجي والهندي الأحمر والمسيحي الأبيض وسكان الجزر الغامضة، وكل هؤلاء يقبعون في انتظار صدور الأمر ببدء الرحلة، وفي انتظار القبطان الغامض، الذي يتحدث عنه كل واحد من البحارة بعبارات غامضة تثير فضول اشماعيل اكثر وأكثر. في النهاية تبحر المراكب ببحارتها ويظهر القبطان آشاب، وفقط بعد ان ندرك ان معظم الأشخاص الموجودين إنما تحركهم للرحلة غايات متنوعة، مع طغيان رغبة الانتقام الشخصي من الحوت المنشود، على بعضهم. لكن المفاجأة تكون في أن آشاب، هو أكثرهم تحركاً بدافع تلك الرغبة. وهذا ما سنستنتجه تدريجاً... وبعدما نتعرف إلى آشاب أكثر وأكثر وندرك ان سر حياته يقوم في ساقه المقطوعة، والتي فقدها ذات يوم خلال رحلة صيد. ولاحقاً سندرك ان «موبي ديك"هو المسؤول عن فقدان تلك الساق، وأن ما يحرك آشاب، إذاً، هو ثأره الشخصي، ذلك المبرر الوحيد لوجوده. ونحن منذ اللحظة التي يعرفنا فيها اشماعيل إلى آشاب، تستحوذ هذه الشخصية على اهتمامنا، حتى اللحظة التي في النهاية يخوض فيها معركته الهائلة مع الحوت.
> وفي انتظار ذلك ندخل عالم البحر والصيد، وصراع الأمزجة والأخطار في شكل حي ندر أن وجد ما يماثله في أي عمل إبداعي عالمي. ومن الطبيعي ان يكون أروع ما في العمل ولا سيما في الفيلم، الفصل الأخير الذي يصور المعركة بين آشاب والحوت، معركة نابعة من الحقد والرعب، من الخوف والاحتقار، إنها معركة الإنسان الكبرى في هذا الكون، بكل اختصار. والحال أن هذا البعد الكوني للمعركة هو ما يفتن ويرعب في «موبي ديك»، خصوصاً إذا أدركنا ان بياض لون الحوت إنما هو الرمز الحي والواضح الى غيبية هذا الوحش الجبار، وإلى عبثية الصراع الذي يخوضه الإنسان معه، لأن النهاية التي تتماشى مع عظمة فصول الرواية، تغرق كل شيء وتفنيه: القاتل والقتيل، المنتقم والمنتقم منه، الإنسان والقوى التي تتجاوزه.
> انطلاقاً من هنا اعتبر «موبي ديك"الفيلم كما الرواية، العمل الذي عرف كيف يصور وجود الإنسان وصراعه بحثاً عن ذاته في هذا الكون. صراعه ضد المجهول، وصراعه ضد نفسه، وكما ان ملفيل لم ينكر هذا في حياته، كذلك كانت حال جون هستون الذي عرف كيف يربط الفيلم باسمه.
> ولئن كان هرمان ملفيل (1819- 1891) في الثانية والثلاثين من عمره حين كتب «موبي ديك"التي نشرت العام 1851 في نيويورك للمرة الأولى، فإن جون هستون (1906 - 1987) كان حين أفلمها في الخمسين تماماً، وكان جزء كبير من مجده السينمائي قد أضحى خلفه. ومن المعروف ان هستون الذي بدأ حياته العملية صحافياً، كان من محبي الأدب ويفضل معشر الأدباء على معشر السينمائيين الى درجة انه كثيراً ما كان يطلب من أدباء قليلي العلاقة بالسينما ان يساهموا معه في افلامه (راي برادبري الذي كتب معه سيناريو «موبي ديك»، وآرثر ميلر الذي كتب له «المنحرفون» آخر أفلام مارلين مونرو، - وكانت زوجة ميلر-، وكلارك غايبل ومونتغمري كليفت). والى هذا كان هستون من كبار المبدعين في مجال إدارة الممثلين، هو الذي أدار أباه والتر وابنته آنجليكا في ادوار عديدة نالا عليها اوسكارات فيما نال هو ترشيحاً لـ 15 أوسكاراً وفاز باثنتين. أما بالنسبة الى فيلمه عن «موبي ديك»، فإنه عرف كيف يدير فيه وبإبداع استثنائي ثلاثة من عمالقة التمثيل في هوليوود في ذلك الحين: غريغوري بيك في اعظم ادوار مساره المهني، وريتشار بيزهترت وبالطبع أورسون ويلز الذي عرف بمضاهاته هستون حياً بالأديب وبأنه كان ينوي هو نفسه نقل رواية ملفيل الى السينما قبل ان تستقر بين يدي هستون.
عن الحاة اللندنية