عبد الجليل الطاهر

عبد الجليل الطاهر

د. لاهاي عبد الحسين
دخل علم الاجتماع كفرعٍ مهم من فروع المعرفة الإنسانية الى المؤسسة الأكاديمية العراقية أولاً من خلال بوابة كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1954، ليظهر كقسمٍ علمي جذاب وممتع ومفيد. وسرعان ما اجتذب القسم الناشئ الفتي اعداداً متزايدة من الطلبة المريدين والراغبين والطامحين على السواء، وانضم إليه عدد من التدريسيين اللامعين الشباب ممن كوّنوا لبنة علماء الاجتماع في العراق من أمثال علي الوردي وعبد الجليل الطاهر وقيس النوري ومتعب السامرائي وتبعهم آخرون.

أما وقد أتمّ القسم عامه الستين فإنّ من المتوقع أنْ يبرز أكثر رسوخاً وقوةً وانتشاراً، إلاّ أن واقع الحال لا يشير الى ذلك. فالأغلبية الساحقة من الطلبة المقبولين في السنة الأولى في أقسام علم الاجتماع في مختلف الجامعات العراقية الحكومية في الغالب، تظهر سمات السخط والقنوط لقبولهم هنا، حيث يوزّع الطلبة مركزياً من قبل دائرة التوزيع المركزي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. ويستسلم البعض الآخر لواقع الأمر كمن رضي بنصيبٍ لم يكن ليخيّر فيه. لقد بهتتْ الأضواء وتوارتْ الأفكار ولم يعد البعض ليطمح الى أكثر من شهادة جامعية لتأمين الحصول على وظيفة حكومية تؤمّن دخلاً متواضعاً إنّما مستقراً.

عاد د. عبد الجليل الطاهر الى العراق بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في مجال علم الاجتماع من جامعة شيكاغو عام 1952 عن أطروحته الموسومة، ‘الجاليات العربية في أمريكا’ وسرعان ما عمل مع الوردي على تأسيس قسم مستقل لعلم الاجتماع في كلية الآداب التي كانت قد تأسست قبل جامعة بغداد عام 1949. قدم الطاهر عدداً من الأعمال كان أولها مجموعة من التراجم كما في ‘العشائر والسياسة’، ‘المزارع التعاونية الجماعية’، ‘أصول فلسفة الطبقة الوسطى في عصر التنوير’، و‘العشائر العراقية. ولديه أعمال أخرى حاول أنْ يعلن من خلالها إنتاجه العلمي وأولها كتابه الموسوم، ‘التفسير الاجتماعي للجريمة’. ينطوي هذا الكتاب على محاولة لتحليل المشكلات الأجتماعية في بغداد والعراق وهي المحاولة التي امتزجت بتقديم أفكار عدد من علماء الاجتماع الأميركان ممن أهتموا بالجريمة، وبخاصة أولئك الذين عملوا في الجامعة التي تخرج منها، جامعة شيكاغو.
استخدم الطاهر في هذا الكتاب طريقة الحكايات المنقولة التي عبّر فيها عن التأسّي على قيم الماضي في التماسك الاجتماعي، حيث ذهبت بحسب تعبيره العائلة الممتدة أدراج الرياح وعمّ الفساد وضاعت العفة نتيجة الاختلاط بين الجنسين. افترض الطاهر في هذا الكتاب أنّ المشكلات الاجتماعية في العراق لا تختلف عن تلك التي يعانيها المجتمع الأميركي باستثناء"أنّهم"يملكون الإحصاءات الدقيقة لتقدير ما يمرون به، فيما لا نملك ذلك في العراق. وفعل شيئاً مماثلاً في تناول نظرية الانحراف لروبرت ميرتون التي قدّمها في كتابه الموسوم، ‘المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة’. عرض الطاهر لنظرية ميرتون في الانحراف على نحوٍ دقيق وبحسب الجدول الذي تضمن تسمية الأهداف المحدّدة ثقافياً وأنماط السلوكيات الاجتماعية المتوقعة والتي أوردها على ما هي عليه وبحسب ترجمته (التوافق؛ الإبداع؛ الطقوسية؛ الانطوائية؛ الثوروية)، إلاّ أنه اكتفى بالإشارة عند رأس العنوان الى أنّ"هذه النظرية تستفيد من ميرتون"حتى لكأنّ النظرية نظريته وأنّه لم يفعل أكثر من أنْ"يطلع"على ميرتون. وكذلك الحال في استخدامه لأفكار من كتاب ‘الانتحار، لدوركهايم في معرض تناوله لموضوعة النظام الأجتماعي وأنماط التكيف، إذ يضع الطاهر هامشاً يقول فيه"اعتمد الكاتب في عرض هذا المفهوم على مقال الأستاذ دوركهايم. بل وخلت قائمة المراجع الخاصة بالفصل من الإشارة الى أيٍ من ميرتون ودوركهايم. وكذلك هامشه في معرض الفصل السادس الموسوم، القوى الأجتماعية وسيكولوجية الجماهير، إذ يشير الهامش الى مراجعة نفس الكتب…] إنّما أي كتب!
ولعلّ أهم ما قدّمه الطاهر كتابه الموسوم، ‘أصنام المجتمع: بحث في التحيّز والتعصب والنفاق الاجتماعي’. يقع الكتاب في صفحة من القطع المتوسط، وأنّ أهم ما ميّز الكتاب أنّه خلا من تسجيل أيّ مصدر فيما وضعت قائمة بالمصادر في نهاية كل فصل دون أنْ تربط على نحوٍ دقيق ومحدّد بما تمّ التطرق إليه في متن الكتاب. كان على القارئ – كما يبدو – أنْ يحدس لمن تعود هذه الفكرة أو تلك. أما الانطباع الرئيس الآخر الذي يكوّنه القارئ ساعة تصفح كتاب"الأصنام»، أنّه صدى مباشر لكتاب"وعاظ السلاطين»، الذي صدر قبله بعامين (1954) لعلي الوردي. يعترف الطاهر في هذا الكتاب أنّه مدين الى الفيلسوف الأنكليزي فرنسيس بيكون (1561- 1626) في اختيار العنوان والذي كان قد حذر فيه من وجود نوع من الآلهة الكاذبة. ويوضح الطاهر المعنى الذي تنطوي عليه فكرة الآلهة الكاذبة وهي بنظره"الأصنام»، التي تتركز حولها الأفكار المغلوطة المشوّهة المحرفة التي يعتنقها الفرد بوعي أو بدون وعي عن الواقع الاجتماعي. ويظهر تأثره بـ"وعاظ السلاطين»، بقوله:"أو يلتمس كاتب آخر السبب في ‘وعاظ السلاطين’، الذين ينشرون الأوهام والأباطيل للدفاع عن الوضع الراهن وحمايته وإلقاء المسؤولية على عاتق المجرمين". وعلى الضد من أسلوب الوردي الكيّس في الكتابة، يظهر الطاهر ميلاً تعبوياً متشدداً وصارماً، يفقده القدرة على جذب القارئ، بمثل ما يفعل الوردي كقوله:"إنّ البحث في أثر الأصنام بالمعرفة من أقدس واجبات المتعلم، فيجب عليه أنْ يتعقب أصول المزالق والمهاوي التي قد يقع في حضيضها، ليجتث جذور الأوهام حتى تسلم المعرفة من الشوائب والنقائص، ويتخلص الإنسان من كل أنواع التحيّز والتعصب والتعرض، فيرى الحقيقة الواقعية ناصعة منعزلة من كل ما يلصق بها من أحكام ذاتية". يظهر للقارئ فيما بين السطور، أنّ الطاهر استهدف في كتاب"الأصنام»، نقد القادة الدكتاتوريين من أمثال هتلر وموسوليني، مؤكداً على أهمية الحرية والحق في إبداء الرأي كقوله:"لا يمكن أنْ يتكون صنم اجتماعي عن طريق حرية الرأي والتعبير والمناقشة والجدل والإقناع والاعتقاد، وإنّما باستعمال القوة والزجر والدعاية والتزكية والسلوك الرعاعي".
يلاحظ القارئ أيضاً أنّ كتاب"الأصنام»، لا يتصف بوحدة الفكرة والمنهج إنّما هو وعاء لكثيرٍ من الأشياء. عموماً، فإنّه ينطوي على إظهار لمعرفة الكاتب بعدد من الكتاب والمنظرين والفلاسفة من أمثال نيتشة، باريتو، فرويد، فيبر، مانهايم، سوروكن وتوينبي. من جانبٍ آخر، فإنّه يستخدم مقاربات دون الإشارة الى صانعيها كما في استخدامه مقاربة إيميل دوركهايم لشرح الظاهرة الدينية انطلاقاً من المجتمع البدائي الميكانيكي دون إفصاح. فهو يحاول أنْ يفسر في صفحات قليلة علامات التحيّز والتعصب فيما أسماه"المجتمع البدائي"تماماً كما فعل دوركهايم في ‘الأشكال البدائية للحياة الدينية’، إنّما دون تسمية. وخصّص الطاهر الفصل السادس من"الأصنام»، لعرض فكرة كارل مانهايم في أثر المركز الأجتماعي على تطور أفكار الفرد والجماعة، ثمّ ينتقده على عجل ليقدم فكرة بيتريم سوروكن في هذا المجال عن الثقافة الروحية والثقافة المادية. وفي الفصل الأخير الذي جاء بعنوان"مجتمع بدون أصنام"، يقدم الطاهر رأيه في أنّه لا يمكن لأيّ مجتمع أنْ يخلو من الأصنام بما في ذلك المجتمع اللا طبقي الذي لا ينجو بنظره من ذلك، إنّما الأمل الوحيد في الابتعاد عن تأثير الأصنام والأوهام يكمن في البحث عن الحقائق لبلوغ الحرية – حرية التفكير والضمير والمناقشة وإبداء الرأي والتصويت. وفي مكانٍ ما ودون سابق إنذار، يعبّر الطاهر عن رفضه لاستخدام"الإحصاء… في معرفة آراء الناس في العدالة الاجتماعية، وفي التعصب العنصري والطائفي، وفي الديموقراطية".
لم يقدّم الطاهر في مقالته الموسومة، ‘علم اجتماع المسرح: بحث في الأشباح الجماعية’، أكثر من تفسير وصفي بأسلوب إنشائي بدرجة كبيرة لدور المسرح في المجتمع. لعلّ الملفت للنظر، أنّ المقالة برمتها خلتْ من أي مصدر باستثناء (23) هامشاً كانت عبارة عن شروحات غير موثّقة من قبل الكاتب لبعضٍ مما ورد من أسماء كتاب، فلاسفة أو سلاطين وما إليهم. على سبيل المثال، يشرح كلمة (تراجيديا) في هامش. أو يترك هامشاً آخر رقم (15) لتوضيح ما هو المقصود بمفردة إطار التفكير"الفيبري"ويقول"نسبةً الى عالم الاجتماع الألماني الكبير، ماكس فيبر، صاحب الأعمال الكثيرة التي ترجم العديد منها الى اللغة الأنكليزية"، دون أنْ يعطي ولو مصدر واحد لفيبر بصورة دقيقة. يبدو لي أنّ هذه الطريقة تمتّ عن الرغبة في عدم تمكين الطالب من الإحاطة بالموضوع بصورة كافية وتسهم بتكريس فكرة إبقائه / إبقائها عبداً لمن يملك مفاتيح اللعبة (الأستاذ). وهذا أسلوب أتبع بدرجة كبيرة في قسم علم الاجتماع ولا يزال يتبع بحجة عدم تمكن الطلبة من العودة الى المصادر الأصلية التي كتبت باللغة الإنكليزية.
ويمضي الطاهر في هذا العمل ليشرح ويقدّم أفكاره بطريقة تعليمية تلقينية مباشرة موضّحاً ومفسّراً لبعض المفردات والأسماء وبالنهاية يسعى الى الوصول الى ما يشغل باله وهو توجيه النقد الحاد الى الأنظمة الأستبدادية والدكتاتورية. ولكنّه على الضد من علي الوردي الكيّس وغير المباشر لا يصل الى قلب القارئ وعقله. إنّه يكتب بطريقة تقليدية تقوم على مبدأ تكديس المعلومات ومراكمتها حتى لكأنّه المصدر الوحيد الذي لا يضاهى. وهذه بحد ذاتها مشكلة مورست وتمارس وقد تكون المسؤولة عن محدودية الابتكار في الدراسات الأجتماعية، حيث لا يشجع الطالب على التفكر والتأمل فيما يقرأون من جانب، أو تطوير نظرة نقدية لما يقرأون من جانبٍ آخر. ولنا أنْ نستشهد بالطريقة التي خرج فيها روبرت ميرتون على أستاذه تالكوت بارسونز، لينتج نسخته هو للـ"وظيفية". تلك هي إذن مسألة نمط ومنهج تعليمي يقوم على مبادئ مختلفة تشجع التفكير والمحاججة العلمية ولا تتطير من الاختلاف وعدم الإتفاق وبالتالي التميّز. وكان ذلك ما أسماه د. علي الوردي"المنهج العلمي الحديث"الذي أكسبه المحبة والاحترام، لأنه شارك الناس بأحدث ما تعلمه وتعلمه العالم المتقدّم من قبل.
قد يفسر هرب الطاهر للعمل في ليبيا عشية مضايقات سياسية شرسة ضدّه في العراق وعودته التي لم يطل له بها المقام، حيث توفي عام 1973 وهو بعد في بداية الخمسينات من العمر، قد يفسر هذا نزعة التأليه التي يحيطه بها طلابه ممن عرفوه إنساناً طيباً ومواطنأً فذاً لخدمة بلده ومجتمعه العراقي.