زيارة لنيويورك والبحث عن الحارس في حقل الشوفان

زيارة لنيويورك والبحث عن الحارس في حقل الشوفان

نجم والي
عند أقصى الزوايا الجنوبية الشرقية لسنترال بارك، ليس بعيداً من النقطة التي يلتقي فيها فيفث أفينيو مع الشارع رقم 59 توجد بركة صغيرة، يسميها سكان نيويورك"ذه بوند". وعندما تكون الشمس مشرقة، يتحول المكان المطل عليها إلى أجمل أماكن نيويورك، للتمتع بالجلوس الهادئ بعض الوقت وقراءة كتاب مثلاً، فعلى البُركة تلك يمتد جسر حجري صغير،

يستطيع المرء وهو جالس الاسترخاء على الدَرّبَزين، على راحتي أجلس هناك. في كل زياراتي لنيويورك أفعل ذلك. أنه أحد الطقوس التي لا أتنازل عنها في زيارتي للمدينة المتروبول الكبيرة. أيضاً هي ليست المرة الأولى التي أعرف، بأنني لن أكون وحيداً في جلستي هناك. وبخاصة في ظهيرة يوم سبت مشمس من شهر كانون الاول. فبدل هبوط الثلج، كما هي الصورة النمطية عن الكريسماس، هذه المرة شمس مشرقة وجو دافئ، كأننا في الخريف. فبالإضافة إلى العائلات الكثيرة التي تتنزّه مع الأطفال، أرى كلاباً وكراتٍ تتقافز على الطريق. وعلى الجسر الصغير يقف السيّاح بأيديهم الكاميرات، وبموازاة ذلك، تتناهى الى السمع من"وولمان رينك"، (المدرج الصغير لرياضة التزحلق على الجليد الاصطناعي)، الممتد إلى جانب البركة، موسيقى تمتزج مع ضحكات المتزحلقين وصخبهم. بعبارة واحدة: مشهد ينبض بالحياة، يذكّر بمشهد أحد تلك الأسواق السنوية التي تفتح أبوابها في أوروبا في بعض المواسم. لبرهة أحاول التركيز، لكي أستطيع إحصاء الأوزّات، التي كانت تسبح في البُركة. لكن ذلك شبه مستحيل، لأن إلى جانبي تحركت مجموعة سيّاح يابانيين كبيرة. استغرق الأمر طويلاً، حتى تأكدت من عدد الأوزّات: ستّ بالفعل. أين البقية؟ تساءلت في سرّي. إنه السؤال ذاته، الذي أوجع رأس"هولدن كاوفيلد"، بطل"الحارس في حقل الشوفان"للأميركي سالنجر، والذي جعله في النهاية يسأل المعلم عن مصير الوزات في أيام الشتاء في"سنترال بارك"،"عندما تكون البركة مجمّدة. أسأل نفسي، فيما إذا يأتي أحدهم يقود سيارة حمولة ويأخذها لحديقة الحيوانات أو أنها تطير إلى مكان ما".
أتذكر أيضاً، أنه كان يوم سبت أيضاً، عندما عرف هولدن بأن علاماته ضعيفة جداً، لدرجة أنهم سيطردونه من المدرسة عند حلول عيد الميلاد. لكن هولدن، الذي كان عمره 16 عاماً، لم يشأ الانتظار حتى ذلك الموعد، فيقرر الهروب من مدرسته الداخلية في بنسلفانيا. كان يوم سبت، وكان يعرف أن عائلته التي تسكن في نيويورك ستتسلّم رسالة من المدرسة، في يوم الأربعاء على أبعد تقدير. إذن ظلت أمامه أيام قليلة، وهو لا يريد أن يراهم قبل ذلك مطلقاً. هكذا يسافر هولدن بالقطار إلى نيويورك، يؤجر غرفة في الفندق ويقضي وقتاً غريباً عليه، للمرة الأولى في حياته ينام في فندق، تجربة استثنائية لصبي في عمره، لم يتعد سن المراهقة: يطوف في النوادي الليلية والمتاحف، ويتصل بالبنات، ويذهب للتزحلق على الجليد، ثم يسكر إلى حد الثمالة، ويسير مترنحاً عبر سنترال بارك، يصعد في سيارة تاكسي، يضربه أحد القوادين وفي النهاية يشعر بسعادة غامرة، عندما يعثر على حظه، فتاة عابرة، ولكن للحظات قصيرة فقط.
تلك هي ببساطة أحداث رواية"الحارس في حقل الشوفان"، للكاتب الأميركي الذي تحول إلى أسطورة، جي دي سالنجر، إحدى روائع الأدب الحديث، والتي مهما تقادمت السنوات، تظل محفوظة في الذاكرة. من ينسى متابعته قراءة الرواية وكلّه فضول، مشاركاً هولدن كاوفيلد في تأمله العالم، ومصاحباً إياه في رحلته الجريئة تلك، ومكتشفاً معه الحكمة"الحزينة"، والتضامن معه، في غضبه من العالم، لأنه ما عاد يستطيع السير على خطى أخته الصغيرة"فوبي".
على طول مدى أحداث رواية"الحارس في حقل الشوفان"للروائي الأسطوري الأميركي سالنجر، يتحدث الصبي أو الشاب الصغير ذو الستة عشر عاماً من العمر، هولدن كاوفيلد، يتحدث وكأنه شاخ باكراً. وأظن أنها تلك هي قوة سالنجر، أنه يجعلنا، نتذكّر كتابه،. ولأن الواحد مثلنا، شاب شعره، وهو في هذه السن ـ كنت أعتقد أنني الوحيد ـ أحببت هولدن، رغم أنه تجوّل في نيويورك، وأنا كنت حينها في بغداد. ولكن السخرية اللاذعة، التي امتلكها هولدن، جعلته يصبح أكثر قرباً مني، وجعلتني أشعر بقرابة له، لذلك ليس من الغريب، أن أبدأ بالبحث عن آثاره في نيويورك (وكأنني أبحث عن نفسي في تلك السنوات، لا يهم في مكان آخر)، وأتذكر سلوكه الساخط على المعلمين، ورغبته بتلطيخ أفواههم وسدها بالعسل: تخيّلوا بالعسل. أي تناقض! أو عندما يشرح نظريته، لماذا لا يحب رؤية ممثل"لأن الممثل يعيش دائماً وحيداً في القمة". ومن يملك حساسية هولدن، لا يستطيع أن يفكر إلّا بهذه الطريقة، بغض النظر عن هويته ومكان إقامته. إذ من النادر أن يتهاون أو يساوم في نظرته للأشياء. ولِمَ لا؟ فمن ينكر بأننا محاطون بالكثير من الأشياء الخاطئة أو الغبيّة أو الشريرة. إننا ننسى ذلك فقط، وبسبب أمور تافهة أخرى تنجح بإلهائنا.
ليس من الصعب العثور من جديد على الأماكن، التي زارها هولدن في نيويورك. بعضها هي ذاتها، كما وصفها سالنجر في العام 1951 (تاريخ كتابة الرواية). مثلاً الهنود الحمر في متحف التاريخ الطبيعي، الذين يقفون على صفيحة حديد،"طويلة على نحو مرعب مثل صفيحة سيارة كاديلاك". هناك أشياء قليلة اختفت، دولاب الأحصنة الخشبية في سنترال بارك مثلاً، الذي احترق بعد وقت قصير من نشر الرواية، والذي استعيض عنه بدولاب جديد. من ناحية أخرى، هناك بعض الأشياء، صحيح أنها ما زالت موجودة، إلّا أن شكلها أو الجو المحيط بها اختلف عما كان عليه سابقاً، كما حصل لساحة سير المشاة في"روكفيلير سنتر". هناك كان هولدن على موعد مع إحدى البنات قبل رأس السنة بوقت قصير. اليوم تحول المكان إلى رمز وطني، تخفق فيه الأعلام الأميركية الصغيرة وشجرة عيد الميلاد.
ولكن في الرواية، يقضي هولدن معظم الوقت في السنترال بارك. من البركة التي جلس عندها، أبدأ بالبحث عن دولاب الأحصنة الخشبية. الطقس لطيف، والشمس مشرقة. ليست الأوزّات وحدها التي تغيب، إنما تغيب أيضاً السناجب، جرذان الأشجار السمينة، التي يلتقي بها المرء عادة عند تنزّهه في سنترال بارك، والتي لا تخشى منظر الناس. بدل ذلك يواجهني متشرد بلا مأوى، يدفع عربة تسوق (مشهد مألوف في كل عواصم العالم)، علّق على عربته قطعة من الكارتون، كتب عليها:"زوجتي السابقة استولت على كل شيء! وفي الطريق المؤدي لدولاب الأحصنة الخشبية أمر بسرداق وبمرتفع صغير، بينما تتوزع هناك أعداد من المصاطب الخشبية والبرك الصغيرة، صُفت عليها لوائح خشبية صغيرة، بمثابة جسور. أقرأ اللوحة الخشبية الوحيدة التي عُلقت هناك:"هاوس جيس أند جيكيرس"(عنوان إحدى الألعاب الأميركية). فأتذكر، بأن هولدن هو الآخر رأى هذه اللوحة، قبل أن يبدأ باللعب هناك. أرى مجموعة من الرجال تقف هناك. أسمع رجلاً عجوزاً أسنانه مهدمة، ممسكاً بيده قنينة خمر، يصيح بصوت عالٍ:"أوه". تحت المرتفع هناك سرداق آخر، تأتي منه موسيقى روك. إنه دولاب الأحصنة الخشبية. هناك جلس هولدن كاوفيلد على مصطبة خشبية ورأى أخته الصغيرة"فوبي"تركب الحصان الخشبي. إنها اللحظة الوحيدة التي يشعر بها هولدن بأنه"سعيد بصورة تفوق التصور"، عند نهاية الكتاب تقريباً. فيقول:"لا أعرف لماذا؟ لكنها تبدو جميلة جداً بشكل ملعون، بالضبط مثلما تدور دائماً بالدائرة، في تنورتها الزرقاء وهكذا. يا إلهي، كم أتمنى لو استطعت أن أكون بمكانها هناك".
وأنا أواصل طريقي على خطى اليافع هولدن بطل رواية الأميركي سالنجر"الحارس في حقل الشوفان"في نيويورك، وفي السنترال بارك أولاً، أصل بعد مروري بالحصان الخشبي، الذي لعبت عليه أخته ذات يوم، أصل إلى نبع مائي قريب، فتلفت نظري فتاة صغيرة جلست هناك، ربما كانت في العاشرة من عمرها، تشبه أخت هولدن بالضبط، الشعر الأحمر ذاته. لبست فانيلة زرقاء، تبذل جهداً استثنائياً، لكي تستطيع الجلوس باستقامة، ثم تبعث بحركة من كفيها قبلاً هوائية باتجاه أبيها الذي جلس في مكان ليس بعيداً عنها، أنها تفعل ذلك مثل نجمة تحيّي جمهورها.
كان والد هولدن يعمل محامياً لشركة كبيرة، لذلك كان بإمكان عائلة هولدن، أن تسكن في بيت في الجانب الراقي من المدينة"أب إيست سايد". في الرواية لا نجد للبيت عنواناً معيناً، بل حتى لا نعثر على وصف دقيق له، رغم ذلك هناك إشارة وحيدة إليه. مرة واحدة فقط، يقول هولدن، بأن أهله يسكنون في شارع 71، وكيف أنه يستطيع مع أخته، الوقوف عند الشباك لكي يشاهدا الفيفث أفينيو.
بحسب الرواية لا بد أن تضم البناية التي يقع فيها البيت 12 طابقاً. وعندما أبحث عن البيت، أجد أن البيت الوحيد الذي تنطبق عليه هذه الصفات، هو البيت رقم 3 شرق الشارع 71. لا يبدو البيت راقياً بصورة خاصة، مقارنة بالبيوت الأخرى في الحيّ. البناية عالية، هناك بوّاب يحرس البناية. أفكّر لبرهة، ما الذي سأقوله للبوّاب لكي أصل للبناية العالية. لو حدث ذلك قبل 11 أيلول، وقبل أن يهجم أمراء الظلام على العالم، ويبدأوا حربهم قبل ثلاثة عشر عاماً على نيويورك، لكان الأمر بسيطاً، ولكن الآن؟ كان الوقت أصبح مساءً. فكرت، أنها مفارقة بالفعل، ففي نفس الوقت، وقف هولدن آنذاك، وكان الدخول للبيت بالنسبة له، يسبّب معضلة أيضاً. كان يريد أن يزور أخته بسرية، دون أن يشعر أهله بذلك، وكان عليه أن يخترع قصة للبوّاب، الذي هو بالصدفة شخص غبي أحمق. إذن، يقول لنفسه، إنه يريد أن يزور عائلة"ديكشتاين"في الطابق الثاني عشر، ويدّعي حينها بأن قدمه مكسورة.
هولدن كذّاب خيالي، ماهر، وتلك هي عبقريته، وهو يعرف ذلك. بالتأكيد لن يسمح لي البوّاب بصعود المصعد، لو استخدمت الحيلة ذاتها. فقلت في سرّي، إذن فلأصارح الرجل بالحقيقة. وهذا ما فعلته. البوّاب كما يبدو، يعرف عنوان الكتاب، ويعتقد بأنني أنا الآخر أديب مختل العقل! اللوبي أبيض، وفيه العديد من المرايا، والزهور واللمبات. المصعد مؤطر بالخشب. قلت للبوّاب عندي الفضول لأرى من يسكن في الطابق الثاني عشر.
أرجع للفيفث أفينيو إلى تحت هذه المرة، مرة أخرى أسير بالتوازي عند جدران سنترال بارك. فأتذكر المشهد الوحيد في الرواية، الذي يسير فيه هولدن مترنحاً عبر سنترال بارك، وقد ضلّ طريقه، عندما كان يبحث عن بركة الأوزّات. أريد أن أذهب مرة أخرى إلى هناك، دون أن أضلّ طريقي. لكنني أشعر فجأة بأنني ضللت الطريق بالفعل، من دون قصد، وأنني أصبحت عند الجهة الشمالية البعيدة عن المكان الذي أردت التوجه إليه، حتى أنني بقيت أدور لما يقارب الساعة. عندما بلغت الجسر الخشبي الصغير، سمعت صوتاً ضعيفاً يأتي من جهة متزحلقي الجليد عند"الفولمان بينك"، هناك حيث ما زال يسبح بحر الضوء. أتطلع من حولي في الأرجاء، فأرى جنوباً، وراء جدران سنترال بارك ناطحات السحاب ترتفع في سماء الليل، وفي البركة تلمع أنوار فندق البلازا. لدقائق قليلة أظل واقفاً في ذلك المكان، أتطلع بأزواج العشاق الذين يمرون بيّ، والذين لا يستطيعون عبور الجسر الخشبي الضيّق، دون أن يلتصقوا ببعضهم بعضاً ويقبّلوا بعضهم بعضاً. كانت لحظة فريدة من نوعها، غمرتني بسعادة نادرة. كم تمنيت أن أكون هناك مثلهم أقبّل المرأة التي أحب!