يوليسيس.. سيدة الحداثة الأدبية

يوليسيس.. سيدة الحداثة الأدبية

عادل العامل
في يوم 5 حزيران 2009، بيعت طبعة أولى من يوليسيس لجيمس جويس بمبلغ 275,000 جنيه أسترليني ( حوالي 450,000 دولار ) و هو أعلى سعر دُفع لكتاب من كتب القرن العشرين. و وفقاً للبائع، بوم هارينغتون : " فإن الكتاب غير مفتوح و غير مقروء، باستثناء ما يتعلق بالفصل الأخير الشهير الذي يحتوي على كل الأشياء البذيئة "،

على حد قول ستيفن كيلمان كاتب هذا المقال. وكانت نسخة أخرى من يوليسيس، في مكتبة جون ف. كينيدي في بوستون، تعود إلى أيرنست همنغوَي، الذي قال عن جويس : " إنني أُحبه كثيراً جداً كصديق و لا أعتقد بأن هناك مَن يكتب أفضل، من الناحية التقنية، و قد تعلمتُ منه الكثير ". و مع هذا، فباستثناء ما يتعلق بالصفحات الأولى و الأخيرة ، فإن نسخة همنغوَي تلك تبقى غير مفتوحة الصفحات هي الأخرى! و منذ نشر يوليسيس ( و توزيعها خفيةً، لإحباط الرقباء )، في عام 1922، فإنها حظيت بالإعجاب على نطاق واسع باعتبارها الصرح الأعظم للأدب القصصي الحديث.و في عام 1998، حين قامت اللجنة التحريرية للمكتبة الحديثة بجمع قائمة لأفضل 100 رواية باللغة الانكليزية في القرن العشرين، احتل عمل جويس العظيم المرتبة رقم 1. و كان من المحتم، أيضاً، أن تُصبح دقيقاً للطاحونة التبسيطية الحاضرة، موضة العثور على استخدامات عملية في الكلاسيكيات الأدبية الهائلة. و بالرغم من هيبتها الفريدة، فإنها كتاب يحظى بالتوقير أكثر مما بالقراءة. فكونها مكتظَّةً بالتلميحات أو الإشارات المبهمة، و صعبة نحوياً، و أطول من رواية موبي ديك لميلفيل ( التي تضم 214,681كلمة ) أو كوخ العم توم ( 180,710 كلمة ) ، فإن يوليسيس ( 268,822 كلمة )، تبدو كما قال جويس نفسه مازحاً حتى في رواية Finnegans Wakeالأكثر تنفيراً ، كتاباً غير قابل للقراءة. و كانت كلمات جويس الأخيرة و هو يموت في زوريخ يوم 13 كانون الثاني 1941تحدياً لأي واحد يقرأ سيدة الحداثة الأدبية : " هل مِن لا أحد يفهمDoes nobody understand؟ " و وفقاً لهينز، و هو انكليزي زائر في يوليسيس يوحي بنظرية ستيفن ديدالوس عن هاملت ،" إن شكسبير هو أرض الصيد السعيدة لكل العقول التي فقدت توازنها ". و يمكن قول الشيء نفسه عن جويس، الذي أخبر مترجمه الفرنسي : " لقد أدخلتً الكثير جداً من الغوامض و الألغاز بحيث أنها ستُبقي الأساتذة منشغلين لقرون في المجادلة بشأن ما كنت أعنيه، و تلك هي الطريقة الوحيدة لضمان خلود المرء ". و وفقاً للبيبلوغرافيا العالمية لجمعية اللغة الحديثة، فإن يوليسيس قد أحدثت 2,656 دراسة أكاديمية. و بالمقارنة، فإن هناك، على سبيل المثال، 1,477 مدخل فقط لتحفة مارسيل بروست ( البحث عن الزمن المفقود )، و 414 فقط لـ ( السيدة دالَوَي ) لفرجينيا وولف، التي أبعدت عنها يوليسيس، قائلة في يومية لها في 6 أيلول 1922: " إن الكتاب مسهب. إنه مَج. إنه مهجَّن، لا بالمعنى الواضح فقط بل و بالمعنى الأدبي ". مع هذا، ففي الوقت الذي تزدهر فيه ( عبادة البلومزبَري Bloomsbury Cult)، التي كانت إلهتها الرئيسة فرجينيا وولف، فإنها تفتقر إلى سلطة كنيسة جويس، الذي نصه المقدس هو يوليسيس. و صيّادوه ــ سعداء أم سيئو الطالع من تدميريين، مناصرين لمساواة المرأة بالرجل، ما بعد كولونياليين، منظِّرين شاذّين، و غيرهم ــ يميلون إلى الانتساب للنوع الجويسي، الذي نادراً ما يتزاوج مع الحداثويين الآخرين. إن جامعتي تستخدم العديد من المختصين في الأدب الحديث، و مع أنهم يدرِّسون تكراراً روايتَي جويس ( الدبلنيونDubliners ) و ( صورة الفنان شاباً ) و يُصرّون على إبقاء يوليسيس على قائمة الكتب المطلوب قراءتها، فإن أحداً لم يقم بتدريسها على حد علمي منذ رحيل صاحبنا الجويسي الوحيد، قبل عقد من الزمن. إن ديكلان كيبيرد في ( يوليسيس و نحن : فن الحياة اليومية في تحفة جويس) يصف يوليسيس بأنها " تحفة الحداثويين العظمى ". لكن، و مع أن المؤلف بروفيسور الأدب الانكلوـ إيرلندي في جامعة كلية دبلن، فإنه يهدف إلى إنقاذ الرواية من أسر الأكاديميين. و هو يقدم تأويلاً عميق الفهم للكيفية التي تختزل بها يوليسيس و تتجاوز الأوديسة، و الكتاب المقدس، و الكوميديا الإلهية، و هاملت، لكنه يقصد في الأغلب تبيان أن كتاب جويس ذو طابع ويتماني Whitmanesque، الملحمة الثابتة للناس و من أجل الناس. و يعلن أن يوليسيس " ترنيمة موسعة لرفعة الحياة اليومية "، يثمنها أفضل تثمين أولئك الذين يعيشونها. و نجد كيبيرد، في 18 فصلاً ، و بعناوين تتعلق بالمصدر مثل الاستيقاظ، التعلم، الأكل، الغمز، يسير بقرّائه عبر 18 حلقة متسلسلة من الرواية، كتقرير عن مشي ستيفن ديدالوس و ليوبولد بلوم عبر دبلن 1904. و هو على معرفة جيدة بوجهٍ خاص في ما يتعلق بالسياق الإيرلندي للعمل الذي يُضبَط في العاصمة الإقليمية بعد جيلين من المجاعة و بعد أن حلت الانكليزية محل الغيلية كلغة مشتركة. وهو لديه الكثير مما يقوله عن كيف أن ديالكتيكاً من الميل و الخنثوية يتجسد في ليوبولد بلوم. لكن ما يميّز هذه الدراسة عن مسلسل الكتابات المنتفخة عن شريعة جويس أن حجة كيبيرد المركزية هي أن يوليسيس تمثل القطعة الموسيقية الفخمة من الشعبية populism . فليس فقط جويس يُسرف في الانتباه على النشاطات العادية المألوفة ــ الإفطارات و حركات التغوّط ــ لشخصيات عادية، بل ، و كما يجادل كيبيرد، فإن الناس العاديين غير المغايرين لليوبولد و مولي بلوم، و جيرتي ماكدويل، و نيد لامبيرت، و ليس المفكرين المعتمَدين، هم قرّاء الرواية المثاليين. و هو يؤكد " إن الكتاب قد كُتب ليستمتع به النساء و الرجال العاديون ". و مع ذلك، فحتى نورا بارناكل، خادمة الفندق السابقة التي كان جويس يعتز بها لأنها على وجه الدقة لم تكن مفكرةً، كانت ترى أن يوليسيس " قذرة " و قد سألت زوجها : " لماذا لا تستطيع أنت أن تكتب كتباًُ محسوسة يمكن للناس أن يفهموها ". و مع أن كيبيرد يهمل إيضاح أن يوليسيس ترشدنا إلى كيف نطهو الكِلى و نملأ استمارات السباق، يصر هو على أن " هذا كتاب فيه الكثير لتعليمنا في ما يتعلق بالمشورة العالمية بشأن الكيفية التي نتعايش بها مع الأسى؛ كيف نكون صريحين بشأن الموت في سنِّ إنكاره؛ كيف تعاني النساء من رغباتهن الجنسية و كيف يفعل الرجال أيضاً؛ كيف نمشي و نفكر في الوقت نفسه؛ كيف أن لغة الجسد أكثر فصاحةً في الغالب من أية كلمات؛ كيف نحكي نكتة و كيف لا نفعل هذا؛ كيف نطهر العلاقات الجنسية من كل مفاهيم التملك ... " و كان جويس نفسه يزعم العكس. ففي عام 1922راح يشكو إلى روائية زميلة، جيونا بارنز، قائلاً : " المؤسف أن الرأي العام سيطلب و يجد مغزىً أخلاقياً في كتابي ــ أو الأسوأ أنهم يمكن أن يأخذوا الأمر بطريقة أكثر جدية، و بشرف رجل جنتلمان، ليس هناك من سطرٍ جدي واحد فيه ". و لم يكن جويس جدياً تماماً بشأن ذلك المتنازل عن الادعاء، أكثر مما كان مارك توين حين بعث بتحذيره الشهير في بداية ( Huckleberry Finn ) : " إن الأشخاص الذين يحاولون أن يجدوا دافعاً في هذه القصة ستتم مقاضاتهم؛ و الأشخاص الذين يحاولون أن يجدوا مغزىً أخلاقياً فيها سيتم نفيهم؛ و الأشخاص الذين سيحاولون أن يجدوا حبكةً فيها ستُطلق عليهم النار ". و مع هذا، فإن مثل هؤلاء الأشخاص يحتاجون إلى المباشرة بحذر. إن يوليسيس في الواقع انتصار لما يدعوه نورثروب فراي " النمط المحاكاتي الواطيء "؛ إنها ترفع الشخصيات المبتذلة و الأفعال العادية إلى مستوى الاعتبار الفني و تنجز، و هي تحتفي بها، ما يدعو كيبيرد، في استعارة كاثوليكية ملائمة " السر المقدس للحياة اليومية ". لكن نصيحته هي أن القول " بأنه الآن وقت إعادة ربط يوليسيس بحيوات الناس الحقيقيين اليومية " ليس كافياً في حد ذاته للتغلب على المفارقة بأن الرواية تُقرَأ لا من قبل " الناس الحقيقيين "، و إنما فقط من قبل الطلبة و الدارسين. فالبشر الحقيقيون يمكن أن يأكلوا أو يمكن ألا يأكلوا كعكة البيض و اللبن، لكن " الناس الحقيقيين " الذين يبدو أنهم نادراً ما يخطرون في بال كيبيرد ، وفقاً لأبحاث الوقف الوطني للفنون، يقرأون أية كتب، و حين يفعلون ذلك، فإن المؤلفين هم على أكثر احتمال ستيفن كنغ، و جيمس باتيرسون، أو دانييل باترسون و ليس جيمس جويس.
عــــن The Chronicle