زهير الجزائري في «النجف: الذاكرة والمدينة»:  ليست دينية فحسب بل هي مدينة  أدب وسياسة وسيرة تعددية

زهير الجزائري في «النجف: الذاكرة والمدينة»: ليست دينية فحسب بل هي مدينة أدب وسياسة وسيرة تعددية

هاشم شفيق
ينتمي الروائي والكاتب زهير الجزائري، إلى حقبة جيل الستينيات العراقي، ذلك الجيل الذي أحدث خلخلة جمالية في مسيرة الأدب العراقي، مسيرة حافلة بالتحولات الفنية والتعبيرية والإسلوبية وحتى الشكلية، خالقاً بتلك القفزة مسافة جديدة ميزته عن بقية الأجيال الأدبية السابقة.

ولكون زهير الجزائري ينتمي لهذا الجيل المغامر والمغيّر والرافض للقبول وتكريس الثبات والعادة، فقد غامر هو بنفسه باكراً للخروج على التقاليد الثقافية العراقية، هو وثلة من أصدقائه المغامرين الذين رفضوا الثبات المكاني، متجاوزين الخريطة وحدودها وشبكتها الوطنية ليلتحقوا بصفوف المقاومة الفلسطينية في الأردن.
كان ذلك التخطي الزماني والمكاني جدّ مبكر على شباب حالمين بالثورة والتغيير، وحاملين شعار الضد والتحدي والاحتجاج على كل الأعراف والمعايير القيمية التي كانت تصادر دولاً وتحتل أخرى وتغزو الباقيات.
من هنا كان ربيع براغ وصوت المحتجّين ضد الاحتلال الأمريكي لفيتنام قد بلغ أوجه في أزمنة الستينيات العالمية، ففي العراق أيضاً اندلعت انتفاضة مسلحة يسارية في الأهوار العراقية حال وصول البعثيين إلى السلطة، نهاية السيتينات، مقتدية بنجمة غيفارا الخماسية، في الأدغال البوليفية.
لهذا رأينا بعد تلاشي الثورات والتمرّدات وضمورها، انضمام قسم كبير من المثقفين العراقيين واليساريين المعروفين وبعض القوميين المتنوّرين إلى جبهات القتال في الأردن، وكان من بين هؤلاء شعراء ورسامون وقصاصون وروائيون وحالمون ثوريون لا يحملون سوى شارة التغيير كدلالة لعبورهم الكبير نحو تلك الضفاف المصادرة والمنهوبة.
يمكن اعتبار زهير الجزائري واحداً من هؤلاء الحالمين الكبار، ممن تأثروا بالفكر الوجودي وتشرّبوا الوعي السياسي الماركسي دون أن يُهيمن على وعيهم وإبداعهم ومسيرة حياتهم لتكون المسيرة ديماغوجية ـ جدانوفية، والثمرات الإبداعية لهم ستغدو انعكاساً لأدب الواقع الاشتراكي وللمادية التاريخية وتمفصلاتها الحتمية التي تشي بالثبات.
تحت قوس هذا المزيج الجمالي، كتب زهير الجزائري كتبه الأدبية، وهي خليط من القصة والرواية والمذكرات الأدبية، التي يجيدها أيما إجادة، وقد أنتج في هذا المضمار كتباً مؤثرة عن يومياته ومغامراته وتقلبات حياته، من حيث الخطوب والصعوبات والمطبّات والعثرات التي واجهته خلال تجربته في تلك المدن والمحطات والمنعطفات التي مرّ بها في مدن مثل عمان وبيروت وكردستان العراق.
فعن تجربته مع المقاومة الفلسطينية كتب تجربته الروائية الأولى «المغارة والسهل»، وهي عمل ينتمي إلى أدبيات السيرة الذاتية أكثر من كونه رواية.
والعمل الكتابي الثاني له «يوميات شاهد حرب”وهو عن حرب تشاد، والثالث «الفاشية والممارسة”أي الفاشية وسجونها وثقافتها الوحشية وأدواتها القمعية، مديناً بذلك وعلى نحو مبكر تجربة البعث، كتجربة تصب في هذا المنوال. كتابه اللاحق كان عن تجربته اليومية في كردستان العراق عندما التحق مقاتلاً أو إعلامياً في صفوف البيشمركة الكردية وهو المتحدّر من أسرة نجفية قومية ـ عربية، ذات أصول نجدية. الكتاب كان عبارة عن يوميات تفصيلية، عبر اللحظات التي عاشها الكاتب هناك، ومن هنا تسميته له «أوراق جبلية». أما كتابه الرابع، وهو أيضاً ينتمي إلى هذه السلسلة والنوع من الكتابة وكان بعنوان «حرب العاجزـ سيرة عائد» فقد كتبه عن تجربة العودة إلى العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، مُفصّلا بذلك تفاصيل ودقائق عودته في تلك الأوقات المحمومة والمضطربة من أيام الاحتلال الأمريكي. كتابه الآخر الذي لا يخرج كثيراً عن هذه السياقات «المستبد» وهو وصف وتشريح لآليات الدولة التوتاليتارية ودراسة سايكولوجية للقائد والديكتاتور، ملحوقاً بكتاب يدور في الأجواء ذاتها هو «أنا وهم»، وهو يتحدث عن الزعماء والقادة والطغاة العرب، وأخيراً وليس آخراً كتابه الجميل واللافت وهو يقع في باب المذكرات والسيرة الذاتية «النجف ـ الذاكرة والمدينة».
يلاحظ هنا من خلال هذه الكتب أن الروائي والقاص في زهيرالجزائري، قد توارى خلف هذه الكتابات وانسحب بالتدريج من عالمه الروائي ليخلي المكان لراوٍ آخر هو السارد والحاكي الذي أجّل عمل المخيلة وشطحاتها وتهويماتها الخيالية إلى زمن ووقت آخرَين، متحوّلاً إلى عالم الكتابة العينية، أي الكتابة بالعين، مسنوداً بالرؤية الثاقبة للذاكرة وأرشيفها الغالي والثمين.
أما الروايات التي أصدرها الجزائري وكنت قد قرأتها في فترات سابقة، فهي ثلاث روايات على حد علمي «مدن فاضلة”و «حافة القيامة» و»الخائف والمخيف”وغالبها يدور حول مفهومة القمع السياسي والسجون والمعتقلات والزمن الماضي لأيام قد رحلت مثقلة بشجونها ومآسيها وأبطالها الخائبين والغائبين والمُغيّبين قسراً في دهاليز قصور النهايات للأنظمة الدموية.
كتاب زهير الجزائري الجديد «النجف ـ الذاكرة والمدينة» هو من الكتب التي تستعيد زمناً بعيداً، موغلاً في مطالع الخمسينيات من القرن الماضي، زمن البساطة والنشأة الصحراوية الأولى للمدينة وتشكلها العفوي حول الصحن العلوي. أزقة ودروب ضيقة ودهاليز وأسواق معروفة وقليلة ومقاه شعبية ومكتبات دينية وفنادق معدودة ومطاعم للقادمين إليها من خارجها، فضلاً عن مقبرتها التاريخية «وادي السلام». ثم تأتي الصحراء المحيطة بها من كل الجهات سوى جهة الكوفة التي كانت تقع على الفرات ولا تبعد عنها سوى أميال قليلة، لتشكل المنتجع والمتنفس والمتنزّه الوحيد للنجفيين في الهواجر والقائظات الصيفية، هذا فضلاً عن مكانتها الدينية المعروفة.
قد لا يخفى على المطلع والقارئ والمتتبع، أن النجف ليست مدينة دينية فحسب، بل هي أيضاً مدينة الصرف والنحو والعلوم الفقهية، مدينة الشعر والإعراب والبلاغة الكلاسيكية، لذا ليس غريباً أن تلد شعراء قديرين من وزن محمد رضا الشبيبي والشرقي ومحمد سعيد الحبوبي لتختمها بشاعر عملاق هو الجواهري، وآخر صعلوك وكبير هو عبد الأمير الحصيري.
يكشف الجزائري في هذا الكتاب سيرة المدينة بكل تحولاتها الأولى، منذ نشأتها البدائية وصولاً إلى هذه الأيام، كاشفاً معها سيرة ناسها وسيرته هو بين هذه الجموع المتنافسة والمتشاكلة على الصغيرة والكبيرة.
في الكتاب نصادف شخصيات كثيرة وأدباء أكثر يعبرون الأزمنة حاملين حيواتهم، وطرائق عيشهم في الأزقة والأسواق والبيوتات المتلاصقة، ثمة وصف لبعض مقاهي النجف، لمقاهي الأدباء والكتاب، مقاهي الشيوعيين والقوميين، ووصف لرجل يبيع الشراب بالسر حيث المشترون والبائع يسمّون الشراب تسمية رمزية هي «مانينه»، ووصف للوطيين الذين يرتادون المقاهي، ووصف لرجال الدين في الحضرة العلوية وطقوس عاشوراء ورمضان، وطقوس دفن الموتى ووصف للدفّانين الذين لا يشعرون بموتاهم لكثرتهم، كل دقيقتين تمرّ جنازة لتدفن في مقبرة وادي السلام التي هيمنت وتوسعت على حساب مدينة النجف، وثمة وصف لطقوس العزاء والمواكب، ومسارد واسعة عن جيل الستينيات في النجف ومجلتهم الحداثية «الكلمة»، وهو جيل أدبي متنوع، وحسب الكتاب قد تكوّن من الأدباء موفق خضر وعبد الإله الصائغ وحميد المطبعي وموسى كريدي وجاسم الحجاج وزهير الجزائري، وكان قربباً من هذا الجيل: محمد حسن الأمين وهاني فحص اللذان كانا يدرسان الفقه في النجف ويسكنان في آخر بيت ومن بعدهم تبدأ الصحراء، وكان الأخيران يتعاملان بحذر مع هذا الجيل، كون جُلّهم ينتمي أما للشيوعية والوجودية أو للاتجاه القومي، وتحديدا الناصري والبعثي، ومن بين هذا الاتجاه الأخير نجد أسماء حميد سعيد وحميد المطبعي وسامي مهدي وعبد الأمير معلة.
وقد تبنت مجلة «الكلمة”قصيدة النثر وكانت أول مجلة عراقية تهتم بذلك. لولب المجلة كان حميد المطبعي الذي يراسل الأدباء والكتاب ويهتم بنشر المجلة وتنضيدها في مطبعة «الغِرِي”التي كان يمتلكها أخوته، وقد صدر منها أكثر من ثلاثين عدداً، وجَمَعَتْ حولها كوكبة من الأدباء ونشرت نتاجاتهم عبر المجلة على شكل دواوين شعرية وقصصية، تكفلت المجلة بنشرها وتوزيعها وأصدرت عبرها البيانات الطليعية التي كانت تروّج للحداثة وكتابها من الشباب والستينيين، فنشر فيها سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وموسى كريدي وأنور الغساني وصلاح فائق والأب يوسف سعيد وجليل القيسي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى وغيرهم الكثير، وأصدرت أعداداً خاصة بشعراء جيل الستينيات وجيل السبعينيات العراقي.
يروي زهير الجزائري في هذا الكتاب الممتع تجارب أصدقائه وجو عائلته، يروي حكايات الأم الخيّاطة الحانية على ماكنة الخياطة، والأب والعمّات والخالات والأخوال الشيوعيين والأعمام القوميين، ويحكي عن البيت القديم والجن التي تسكن دهاليزه وسقوفه العتيقة. يسرد في قالب حكائي مترع بالتفاصيل تجربته وهو صغير في مدرسة السلام وتجاربه الأخرى حين شبّ بين مجاميع شابة متعطشة إلى السياسة وهاربة من الأجواء الدينية وطقوسها، واصفاً المظاهرات المنددة بالحكام المستبدين أيام الملكية في فترات صالح جبر ونوري السعيد ومعاهدات بورتسموث مع الإنكليز، وواصفاً مجلس والده اليومي للشراب دون أن يأبه الوالد للجوار المتشدد من رجال الدين الذين يراقبون ويدققون ويتدخّلون في حياة الناس، واصفهم كيف يجمعون الأموال وكيف يبْرعون في فنّ الندب والخطابة وفنّ جلب المال إليهم، سارداً تجارب بعض الشعراء الكلاسيكيين منهم، وواصفاً حلقات الدراسة في تلك الأماكن.