جون ستيوارت وحرية الضمير

جون ستيوارت وحرية الضمير

علي حسين
أن المجتمعات التي أُحسن فيها غرس قيم العقل، والتي تعلي من شأن فكرة الواجب الاجتماعي، هي المجتمعات التي تتوطد فيها حرية الأفعال الفردية، حرية كل فرد في التحكم بسلوكه على أساس إحساسه الشخصي بالواجب، وعلى قوانين الانضباط المجتمعي كما يوصفها له ضميره الشخصي"
جون ستيوارت ميل

يقرر وهو في الثالثة والخمسين من عمره ان ينشر كتاباً سيضع له عنوانا :"عن الحرية"، وفي سيرته الذاتية يخبرنا جون ستيوارت ميل :"إذا كان هناك شيء كامن في قرارة أنفسنا ونحاول التعبير عنه، فلا بد أن نجد أولاً شكلاً من أشكال الحرية، وبعبارة أدق أن نستحضر الحرية أولاً". كان ستيوارت المولود عام، 1806ابناً وحيداً للسيد جيمس مل، الصحفي والمترجم ومدير لاحدى شركات الهند الشرقية، لكنه ترك كل هذا وقرر التفرغ للعمل مساعداً للفيلسوف الأنكليزي جيريمي بنتام صاحب المواقف المؤيدة لحرية الأفراد والفصل بين الكنيسة والدولة والمساواة في الحقوق، وقد أراد جيمس ميل لابنه ستيوارت أن يسير على خطاه، حيث ققرر بدلا من ان ينشغل ابنه الصغير في اللعب، ان يتعلم اللغة الإغريقية أو الرياضيات على يد مدرس خاص، كان الاب متاثرا بافكار الفيلسوف جون لوك التي تقول بأن عقل الطفل فارغ مثل لوحة بيضاء. كان جيمس ميل مقتنعا بأنه إذا أنشأت الطفل بطريقة صحيحة، فهناك إمكانية كبيرة أن يتحول إلى عبقري. و على هذا الأساس درّس جيمس ابنه جون في المنزل مع الحرص على عدم السماح له بإضاعة وقته في اللعب مع أقرانه أو بتعلم عادات سيئة منهم. غير أن هذا التعليم لم يكن فقط حشو بالمعلومات أو حفظ قسري، أو أي شيء مشابه. علمه جيمس منهج سقراط في طرح الأسئلة، مشجعا إياه على استكشاف الأفكار التي كان يتعلمها عوض ترديدها فقط.
كانت النتيجة هي أنه مع بلوغ ثلاثة سنين كان جون يدرس اللغة الإغريقية القديمة. مع بلوغه ست سنين كان قد كتب تاريخ روما، و في سن السابعة كان يفهم حوارات أفلاطون في لغتها الأصلية. في سن الثامنة بدا في تعلم اللاتينية. في سن الثانية عشرة، كان بإمكانه أن يستوعب بطريقة شاملة التاريخ و الاقتصاد و السياسة، و أن يحل معادلات رياضية معقدة و كان له اهتمام متطور و عميق بالعلم. كان طفل عبقري. في العشرينيات من عمره كان قد أصبح أحد ألمع المفكرين في عصره.
، ومن الثامنة من عمره وحتى الحادية عشرة حفظ معظم الأدب اليوناني، وفي الثالثة عشرة تفرغ لقراءة أعمال أرسطو، وفي سيرته الذاتية نقرأ إن كتاب ألف ليلة وليلة كان مصدراً مهماً من مصادر ثقافته حيث زوده هذا الكتاب بالخيال، ونجد والده يكتب الى الفيلسوف بنتام :"ما من خاطر يفزعني ويحمل الضيق الى نفسي، كما يفزعني ويضايقني خاطر الموت، فأرى أني أفارق هذا العالم وعقل الصغير لم يتكون بعد، فإن رحبت مسروراً برعايتك له وتربيته، فلأنه وريثنا الخليق بكل منا"، فيوعد بنتام بكفالته ورعايته، وفي السادسة عشرة من عمره يتحمس للمذهب النفعي الذي أراد بنتام أن يرسخه كفلسفة في مجال الأخلاق، ويذهب جيمس بعيداً فيشكل جمعية تبشر بالمذهب النفعي، وأخذ ينشر المقالات مبشراً بفلسفة استاذه بنتام، إلا أن مذهب النفعية أخذ على يديه معنىً جديداً، فأنكر أن تكون السعادة غاية مباشرة أو شعوراً قائماً، فحالما تسأل عما إذا كنت سعيداً، توقف شعورك بالسعادة بانصرافك إلى السؤال وجوابه، كما تبين كيف يروض الألم فيحوله إلى إحساس بلذة الحياة وما فيها من متع.
ويروي لنا جيمس، كيف أراد أبوه أن يجعل منه رجل منطق صارم. لكن المشكلة، أن الابن سرعان ما تبدّى رجل عاطفة سريع التأثر مهتماً بالفكر الإصلاحي وعازماً على العمل في سبيل مصلحة شركائه في المواطنة. مقابل الصورة الفكرية الخالصة التي أرادها الأب للإبن، عمل هذا على أن يجعل لنفسه صورة المفكر المناضل.
في موسوعته عن تاريخ الفلسفة يوصينا فريدريك كوبلستون"أن لانكتفي بالحديث عن جون ستيوارت ميل باعتباره منظراً لمفهوم الحرية، بل ينبغي أن نضع كتاباته مقابل كتابات هيغل وأوغست كونت، فقد استطاع ثلاثتهم أن يبحثوا عن الحرية ضمن مسار التاريخ، وإذا كان اهتمام هيغل كونت منصباً في الدرجة الأولى على مسار العقل والأفكار، فقد كان اهتمام ميل يتركز على المسائل التي في ترتبط بعلاقات الإنسان بمجتمعه، فقد كان يرى أن الحرية هي الصورة الوحيدة للوجود الإنساني".
عندما بلغ جون ميل الخمسين من عمره أخذ يراجع تفكيره في فلسفة بنتام، حيث نجد أن أفكار سان سيمون تستهويه وخصوصاً فكرته التي تقوم على إعادة تنظيم المجتمع عن طريق العلم والمعرفة، وفي موجة الحماس يعلن أن المثال الذي ينشده مذهب سان سيمون هو أرقى ما يمكن أن ينشده المجتمع الإنساني لتقدمه وارتقائه، ونجده يتجه إلى ربط حرية الفرد بمصلحة المجموع.
يقسم ميل كتابه"عن الحرية"الى خمسة فصول يمهد أولها لفكرة الحرية ويخصص الثاني لحرية الفكر، والثالث يناقش مفهوم الفردية كعنصر من عناصر الحياة الطبيعية، وفي الفصل الرابع يناقش حدود سلطة الفرد على المجتمع، وفي الفصل الخامس يجري تطبيقات حول المبادئ والأفكار التي طرحها في الكتاب.
في مقدمة الكتاب يحدد ميل الغرض من تأليفه كتاب عن الحرية :"لا يتناول هذا الكتاب ما يسمى حرية الإرادة، وهي التي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة، ولكنه بحث في الحرية المدنية والاجتماعية، وطبيعة الحدود التي يمارسها المجتمع شرعاً في سلطانه على الفرد، وهي مسألة قلما اتضحت أو كان من اليسير مناقشتها والكتابة عنها"، ويشرح ميل في الكتاب الأخطار التي تتعرض لها الحرية، فيؤكد إن أخطر ما يتعرض له الفرد هو استبداد مجتمعه، فقد درج الناس على تقاليد وعادات يرون في الإجماع عليها ما يسوغها، ويستوي في ذلك التقاليد التي تستند على العقل والمنطق، أو التي تخضع للهوى والوهم، ويتوصل ميل الى أن أكثر ما تتبدى لتلك العواطف والتقاليد ما يتعلق بالعقيدة الدينية، حيث يتجلى شعور الكراهية والحقد للمخالفين، ولهذا يجد ميل أن الحرية الدينية هي الضمان الوحيد لكل فريق في الدفاع عن قناعاته وإيمانه.. ويؤكد ميل إن التعصب لعقيدة ما، يقف حائلاً أمام حرية الفكر والضمير.ويعلن ميل إن سلطة المجتمع التي يمثلها العرف الاجتماعي وسلطة الحكومة التي يمثلها القانون هما ما يحملانه على تقرير مبدأ واضح بسيط، وهو لا يجوز التعرض لحرية الفرد، إلا لحماية الغير منه، أو لمنعه من الإضرار بغيره ويحدد ميل المنطقة التي تتحرك فيها حرية الفرد وتتمثل :
1- في حرية الضمير وما يتصل بها من حرية الفكر والعقيدة والتعبير والمناقشة بأوسع معانيها
2- في حرية الفرد في اختيار ما يوافق ذوقه ومزاجه، وتكييف حياته على ما يحب ويرضى ما دام لايتعرض للآخرين بأذى، حتى وإن جلب على نفسه الضرر
3- حرية الاجتماع دون إكراه لأي غرض
فما من مجتمع لا يحترم تلك الحريات ويكفلها إلا وهو مجتمع غير حر مهما كان شكل حكومته، فجوهر الحرية يقوم أصلاً على مساعدة الأفراد في السعي وراء مصالحهم أياً كانت هذه المصالح ما دامت لاتجلب الضرر للآخرين، فـ"الفرد سيد نفسه وبدنه وعقله". ولا تعاني البشرية من حرية ينطلق فيها الناس كما يرغبون ويحبون، كما تعاني من تكبيلهم بقيود يفرضها الغير.
من بين الافكار المهمة التي طرحها جون ستيوارت ميل وكانت تشكل اساسا في فلسفة التنوير هي موقفه من الحركة النسوية. في انكلترا القرن التاسع عشر لم يكن يسمح للمرأة بأن يكون لها أملاكها الخاصة. و كان لها القليل من الحماية القانونية ضد العنف و الاغتصاب من طرف أزواجهم. في كتابه استعباد النساءالذي صدر عان 1869 نجد ميل يدفع بشراسة عن المساواة بين الجنسين أمام القانون و المجتمع على العموم. كان بعض المحيطين به يدّعون أن النساء أدني من الرجال بالطبيعة. كان يسألهم عن كيف يعرفون ذلك في الوقت الذي كانت تُحرَم فيه النساء من تحقيق مؤهلاتهم كاملة: كانوا ممنوعين من التعليم العالي و من العديد من المهن. كان يريد أكثر من أي شيء مساواة أكثر بين الجنسين. بين أنه يجب أن يكون الزواج صداقة بين ناس متساوين. كان زواجه من الأرملة هارييت تايلر، و الذي تم في سن متأخرة في حياتهما، يشبه هذا التصور للزواج. كانوا أصدقاء عندما كان زوجها مازال حيا واحترم ميل احترامها لزوجها، وكان عليه أن يصبر حتى 1851 ليصبح زوجها الثاني. ساعدته زوجته هاربيت في كتابة عن الحرية و كتابه استعباد النساء، غير أنها ماتت قبل نشرهما.