كيف عثرنا على قبر الرفيق فهد ؟

كيف عثرنا على قبر الرفيق فهد ؟

عبد الرزاق الصافي
كان من مآثر ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انها اعتبرت ما قام به الرفاق الشهداء يوسف سلمان (فهد) وزكي بسيم (حازم) وحسين محمد الشبيبي (صارم)، الذين اعدمتهم سلطات العهد الملكي في 14 شباط من العام 1949، خدمة وطنية.

كان من مآثر ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انها اعتبرت ما قام به الرفاق الشهداء يوسف سلمان (فهد) وزكي بسيم (حازم) وحسين محمد الشبيبي (صارم)، الذين اعدمتهم سلطات العهد الملكي في 14 شباط من العام 1949، بعد ان انتزعتهم من سجن الكوت، حيث كانوا يقضون محكومياتهم، وبعد محاكمة سرية صورية امام المجلس العرفي العسكري، اعتبرت –الثورة- ما قاموا به من اعمال، وحكموا بالاعدام بسببها ، خدمة وطنية. ومع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة لجريمة العهد الملكي، التي تمت بإيعاز واشراف من نوري السعيد وعبد الإله، قررت قيادة الحزب الاحتفال بهذه الذكرى بما يليق بالمكانة التي يحتلها الشهداء الاماجد في قلوب ليس الشيوعيين فحسب، بل والجمهرة الواسعة من الوطنيين العراقيين، الذين تلقوا قرار حكومة الثورة بالتأييد والترحاب. وكان اول ما يترتب علينا فعله هو العثور على قبر الرفيق فهد. ذلك ان سلطات العهد الملكي لم تسلّم جثمان الشهيد فهد الى عائلته ليدفن، بالاحترام اللازم، كما تقضي به كل الشرائع الدينية والانسانية. ولذا جرى تكليفي بمهة العثور على القبر.

ونظراً لمعرفتي بأن امانة العاصمة (امانة بغداد حالياً) هي التي تولت دفن جثمان الشهيد، استعنت بالرفيق الشهيد محمد حسين (ابو العيس) للذهاب معاً الى امانة العاصمة للسؤال عن مكان القبر. استقبلنا بالترحاب الحار، في دائرة العلاقات في الامانة، البغدادي الشهم المرحوم الفنان فخري الزبيدي. وبادر فورا الى مراجعة سجلات الدائرة فوجد ان جثمان الشهيد مدفون في مقبرة الشهداء الكائنة مقابل سجن بغداد المركزي قرب باب المعظم. وعند البحث عن الدفان في تلك المقبرة، في شباط 1949، وجد ان اسمه جبار، وهو موظف لا يزال في الخدمة، غير انه يعمل في مقبرة اخرى ولذا ارسل اليه في الحال، وعندما جاء سألناه عن القبر فقال: هل هو المسيحي؟ قلنا له: نعم. فقال: اني اتذكر جيداً اين دفنته. ولذا اخذناه الى المقبرة. ودلنا على مكان القبر. إذ كان في طرف المقبرة بين نخلتين، لكي لا يختلط بقبور المسلمين! ولما حفر في المكان الذي شخصه، وجدنا فيه رفات شخص واحد، فتأكد لنا انه قبر الشهيد فهد.
وبعدها انصرفنا لتأمين مستلزمات القبر من بناء، وشاهد وسياج، فذهبنا الى ساحة السباع في الرصافة. وهي ساحة شعبية مشهورة في جانب الرصافة قرب محلة قنبر علي الشعبية، في شارع الكفاح (شارع غازي قبل الثورة، والذي اعاد صدام حسين تسميته بشارع غازي في اثناء مغازلته للمرحوم الملك حسين بن طلال لجرّه الى جانبه في الحرب ضد ايران). وكانت الساحة تضم محلات كثيرة للحدادين الذين يصنعون اسيجة الحدائق والمقابر وغيرها. واشتهرت الساحة اكثر منذ ان انعقد فيها المؤتمر التأسيسي لاتحاد الطلبة العراقيين في 14 نيسان عام 1948, بعد ان امتنعت سلطات العهد الملكي من إجازة عقد المؤتمر في إحدى قاعات بغداد. وهو المؤتمر الذي ألقى فيه شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدته الرائعة «يوم الشباب» التي حيّا فيها الطلبة العراقيين ونضالهم المجيد في وثبة كانون الثاني 1948.
استقبلنا شغيلة الساحة بحماس، وأنجز المحل الذي اتفقنا معه على صنع سياج القبر بسرعة، ومن ثم ذهبنا إلى الزقاق المجاور لوزارة الدفاع المؤدي إلى القصر العباسي للتوصية على صنع شاهد القبر. وطلب الشهيد محمد حسين أبو العيس أن يُكتب اسم فهد على الشاهد «يوسف سلمان فهد»
وما زلت أتذكر اننا عندما ذهبنا لتسلم شاهد القبر قبل الرابع عشر من شباط، مبكرين في الصباح، كان صاحب المحل قد جاء على غير عادته يوميا، وأخبرنا انه جاء هذا اليوم على غير عادته لأن هاجسا خطر بباله ان الشاهد يعود لرجل مهم، وسبب عدم معرفته المسبقة بمن يعود إليه الشاهد هو انه لم يكن عراقيا.
ولما استكملنا كل شيء يخص القبر قبل الرابع عشر من شباط 1959 قررت قيادة الحزب الاحتفال بالمناسبة في المقبرة، وأصدرت قيادة منظمة بغداد، وكنت في قوامها، وكان سكرتيرها عضو اللجنة المركزية، يوم ذاك، الرفيق الفقيد صالح مهدي دكلة، تعليمات تقضي بأن تنظم كل منظمة من المنظمات التابعة لها حشدا للمساهمة في الاحتفال قبل ظهر يوم الذكرى وأوعزت بأن تذهب الحشود إلى المقبرة دون أن تتسبب في قطع المرور في الشوارع، والاكتفاء بتنظيم المواكب في بداية الشارع الذي تقع فيه المقبرة، أي السير بضع عشرات من الأمتار قبل دخول المقبرة.
وهكذا كان، وامتلأت المقبرة بالمحتفلين حتى غصت بهم وغطت القبر عشرات الأكاليل من الزهور وباقات الياس. وألقى الرفيق الشهيد محمد حسين أبو العيس كلمة بالحشود مجد فيها تضحية الرفاق الشهداء الخالدين، وكل شهداء الحركة الوطنية،وعاهدهم على مواصلة السير على دربهم حتى يتحقق شعار حزبنا «وطن حر وشعب سعيد» وبعد ذلك انفضت الحشود بهدوء.
ولم «تخرق» توجيهات قيادة منظمة بغداد سوى منظمة واحدة، هي منظمة عمال محطة كهرباء العباخانة في شارع الرشيد قرب السيد سلطان علي، فقد عز على العمال انهم لم يشاركوا في الاحتفال في المقبرة ظهر ذلك اليوم، لانشغالهم بالدوام، ولذا انتظموا في موكب مهيب، وهم بملابس العمل، بعد انتهاء الدوام في ذلك اليوم الشتائي البارد، واخترقوا شارع الرشيد حاملين الأكاليل والشعارات التي تمجد الشهداء ليصلوا إلى المقبرة مع اقتراب الغروب.

عن كتاب " شهادة على زمن عاصف" إصدار دار المدى