الذاكرة المضيّعة، ومآثر ماضٍ يقاوم الإنكار والنسيان:عبد عباس المفرجي ربّان قطار التحدي، شاهد فجيعتنا

الذاكرة المضيّعة، ومآثر ماضٍ يقاوم الإنكار والنسيان:عبد عباس المفرجي ربّان قطار التحدي، شاهد فجيعتنا

فخري كريم
يومها كنت هارباً من السجن، أبحث مع غيري عن أي وسيلة تفند ادعاء قيادة انقلاب ٨ شباط بتصفية الحزب واجتثاث تنظيماته وما يمتلك من وسائل للتعبير عن وجوده ودوره.
دون ان تدرك تلك الزمرة وقطعانها المنفلتة، أن أحلامنا عصيّة على التصفية والضياع، ومهما فعلت واستخدمت فأنها عاجزة عن النيل من مكانتنا ودورنا،

وإن استطاعت بفعل جرائمها واستباحاتها تعريض الحزب وقيادته الى خسائر فادحة في الارواح بالتصفية الجسدية او السياسية مما يعطل مؤقتاً ويضعف من امكانيات التحرك والنشاط في مواجهة المهام التي فرضها الوضع الصعب والمعقد الجديد غير المسبوق.
في تلك الاجواء الملبّدة بمخاطر التصفية، خارت قوى البعض، لكنها لم تستطع النيل ممن ارتبط وجودهم ومغزى حياتهم بتطلعاتٍ وآمالٍ راودت جيلاً وإن بدا متعباً من أخطاءٍ ادّت الى نجاح الثورة المضادة، وتكتيكاتٍ في مواجهتها، كانت هي الأخرى وراء تخدير اليقظة والاستعداد لإحباطها، بعد أن ظلت تحذيرات الحزب من تنفيذ خطط إنقلابٍ يستهدف جمهورية ١٤ تموز تترى وتتأجل، وليس دون ارتباطٍ بما أصاب العلاقات بين القوى الداعمة للثورة من تراجعٍ وانتكاسة وما تعرضت له العلاقة بين الحزب الشيوعي والزعيم عبد الكريم قاسم من جفوة وشكوكٍ وتقاطعٍ مما كان بين أسباب تسلل القوى المضادة وعودتها الى مواقع مكّنتها من إمرار (مخططها) الانقلابي في صبيحة ٨ شباط، وتوهُم الزعيم، وهو في مقره بوزارة الدفاع انها لن تكون سوى محاولة فاشلة، وحالت شكوكه من الحزب دون الإقدام على المبادرة في تسليح الجماهير المتجمعة أمام الوزارة تطالبه وهويخاطبها «مطمئناً» بتسليحها لمواجهة الانقلاب.
مر الإنقلاب، يشيع الموت في الشوارع، وينكّل بالمواطنين على «الشبهة»، فتحولت النوادي والمدارس وكل مسقوفٍ الى معتقلات بعد ان اكتظت السجون والمعتقلات بآلاف المواطنين.
في تلك الأيام الحزينة، تحولت المبادرات الفردية من الشيوعيين الذين أفلتوا من قبضة الحرس الفاشي، وتخلصوا من قيود السجن الى قوة استنهاضٍ، وإنبعاثٍ للأمل. وتحت ثقل جرائمها، وضغط الرأي العام العالمي وعزلة الانقلابيين، تصاعدت نشاطات الشيوعيين واتسع مداها، وتجرأت فعالياتها في اقتناص عناصر الحرس اللا وطني، وتحديها دون خوف، وبانت في الافق نهاية سلطة الجريمة بعد ان دب الخلاف والصراع على السلطة والخوف من الآتي، صفوف قادتها من البعثيين وحلفائهم الاقطاعيين ممن تضررت مصالحهم من قانون الاصلاح الزراعي، ورجالات العهد الملكي، وعملاء السفارة الاميركية والبريطانية، وشذاذ أفاقٍ تستقطبهم اجواء الجريمة والانتقام، والقومجية من العسكريين والمدنيين الذين جمعهم شعار «يا أعداء الشيوعية اتحدوا».!
في لحظات عودة الأمل تلك، أقدم العسكري الشيوعي الكادح حسن سريع ورفاقه من الجنود وضباط الصف على مغامرتهم الثورية باعلان انتفاضتهم على سلطة البعث. ومع ان ظروف نجاحها موضوعياً كانت مواتيةً، الا أن أخطاء تكتيكية وترددٍ غير مقصود، كان في مقدمة تلك الاخطاء، وفي مقدمتها عدم اطلاق سراح سجناء السجن رقم واحد حيث الضباط ونخبة المناضلين الصامدين، وكذلك التردد في اعتقال بعض قادة الانقلاب الذين وقعوا اسرى بأيديهم، بالاضافة الى ضعف التنسيق، مع قيادة الحزب وتنظيماته، كل تلك الاخطاء كانت وراء أجهاض الانتفاضة وسوق قائدها حسن سريع ورفاقه الى السجن ثم الإعدام.
في أجواء شيوع الخوف والقلق من تحديات اكبر تواجه سلطة الانقلابيين، حيث استطاع جنود وضباط صف من قيادة انتفاضة كادت ان تطيح بسلطتهم، قام البعث بإجراءاتٍ أشد اجرامية في تصفية المعتقلين بالتعذيب أو الاعدام وسوى ذلك من وسائل.
وفي مواجهة خوفها ورعبها، قررت تصفية سجناء معسكر الرشيد في معتقل رقم واحد وغيره حيث كان المئات من الضباط والكوادر المدنية من أعضاء وانصار الحزب، بوسيلة جهنمية من ابتكارهم، تجعل من موتهم بالمئات مجرد وفاة طبيعية، من شأنها تبرئتهم امام الرأي العام العالمي بالوسائل التي باتت مفضوحة في اوساطها
بعد ساعتين تقريباً من تغير الموقف لصالح سلطة الانقلابيين، واخماد انتفاضة ٣ تموز «مأثرة حسن سريع ورفاقه»، طالب عبد السلام عارف في الاجتماع الطارئ لما عُرف بـ»المجلس الوطني لقيادة الثورة» الذي كُرس لدراسة «حركة حسن سريع» واتخاذ ما يلزم بشأنها، بضرورة الانتقام العشوائي من المعتقلين الشيوعيين، ومعه اصطف كل من احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الغني الراوي وعدد آخر من العسكريين . وانتهى الاجتماع الثاني الذي عقد في وزارة الدفاع ايضاً الى قرار باعدام جميع الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن العسكري رقم واحد، وتجاوز عددهم الف معتقل، لكنهم اتفقوا في ساعة متأخرة من تلك الليلة على تشكيل محكمة عسكرية تتولى محاكمة المتهمين المشاركين في الانتفاضة التموزية والتخلي عن فكرة الاعدام العشوائي والاكتفاء باعدام من يجري اختيارهم من الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن رقم واحد، لكن سرعان ما تحول العدد المحدود الى ما يزيد عن ٥٢٠ معتقلاً من داخل السجن العسكري رقم واحد ومن خارجه، وليضم الى جانب العسكريين، كفاءاتٍ من ذوي التعليم العالي والخريجين من مختلف الاختصاصات والمثقفين ومنهم نخبة من خيرة اطباء العراق يعكسون خارطة المجتمع العراقي ومكوناته الدينية والقومية والسياسية، تمت تسميتهم مباشرة مما كان يسمى بـ»المجلس الوطني لقيادة الثورة». وقرر المجلس المذكور اعدامهم خارج بغداد بعد نقلهم الى سجن «نكرة السلمان» الشهير، الذي يقع قرب الحدود العراقية - السعودية. ولتنفيذ تلك المجزرة ، تم ابتكاروسيلة غير مسبوقة، تودي بحياة السجناء المفترض نقلهم الى نكرة السلمان الصحراوي، بالاعدام «خنقاً» و»شيّاً» قبل الوصول الى السجن، مما يجنبهم تحمل مسؤولية اعدامهم امام الرأي العام الذي اتسعت حملات استنكارهم واحتجاجاتهم في مختلف انحاء العالم، وادت الى تشديد الخناق على سلطتهم وعزلها.
وتمثل الابتكار الجهنمي، في قطار الموت، كوسيلة لتنفيذ المجزرة الجماعية..!
ومن هذا القطار، حيث أُريد له أن يكون «فرناً» و»محرقة نازية» بامتيازٍ بعثي مبتكر، إنبعثت مأثرة بطلٍ من ذلك الزمان... الزمن الذي قل مثيله بالتضحيات والإقدام والبسالة الإنسانية التي تهزم الموت بالفداء، والامل بالتوحد بمفهوم جديدٍ للحياة، يعيد انبثاق حياة تتعانق فيها قيم الجمال والعدالة والانعتاق من كل ما هو رث وبائد، وغريب عن مرتجىً، مؤجلٍ يريد ان يتحرر من الأسر..
ذلك البطل الذي شاء له أن يرمز لكل اسماء ومآثرحقبة الاحزان والفقدان والفجائع ، ويصبح حامل مرارتهم بالنكران، كان اسمه عبد عباس المفرجي ربان قطار الموت الذي صار-القطار- ايقونة الوطن..!
عبد عباس المفرجي، ولد عام ١٩١٤ في كرادة مريم. بعد عام ١٩٣٢ اكمل دراسته الابتدائية ليصبح مساعداً لسائق قاطرة هندياً وربما انكليزيا، حيث لم يكن هناك سائق قطار عراقي، ليتقدم ويصبح اول سائق للقطار في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي في العراق.
وفي مسيرة تكوين وعيه الطبقي، انخرط في النشاط النقابي والوطني. ليصبح من منظمي إضراب عمال السكك الحديد في بداية تأسيسه بدعوة من الحزب الشيوعي. وليسهم في نهاية عام ١٩٤٥ في تهريب عددٍ من كوادر المؤتمر الاول للحزب في قطار طوروس الى تركيا وكان من بينهم القائد النقابي المعروف وصديقه الشخصي عبد تمر.
وظل المفرجي يتابع نشاطه النقابي، غير هيّابٍ بالمخاطر التي قد تتسبب في فقدان عمله ان لم يودي به الى الاعتقال والسجن، فكان على رأس متظاهري عمال السكك عام ١٩٤٨، وهو ما أدى الى فصله ومطاردته من قبل اجهزة الامن والتحقيقات الجنائية.
وتبدّت شجاعته المهنية في مظهرٍ مشهودٍ، عند افتتاح جسر الصرافية من قبل الوصي على العرش عام ١٩٥٢، اذ كان بين فقرات مراسيم الافتتاح عبور القطارعلى الجسر، وهو ما اقدم على قيادته، بعد تخاذل السائق الهندي ورفضه القيام بذلك.
صبيحة ٣ تموز، كنت في مدينة الثورة متخفياً في منزل احد اقاربي، بعد ان انتقلت اليها مع «عائلتي الثانية»، عائلة صديقي الاثير جعفر الصفار، اتابع تطورات الموقف، وما ينبغي ان يكون عليه تحركنا، اذ كان احد الرفاق على صلة برفاق الفقيد حسن سريع، وفي ظهيرة ذلك اليوم عاد الرفيق ليخبرني أن الحركة أُجهِضت، ومع ذلك فأن الاوضاع مضطربة وقادة السلطة في حالة قلقٍ والحرس القومي يبدو عليه الارتباك، لكن علينا أن نأخذ الحذر، وعليك أن تنتقل الى مكان آمن خارج مدينة الثورة، لأن مداهمات واسعة ستجري فيها. ثم تتالت الاخبار عن المأثرة المجيدة التي حاكت «كومونة باريس» وابطالها الذين اجترحوا تلك المعجزة واعادت الى الإذهان مأثرتها، مستمدة ايمانها وجسارتها من طاقة التحدي والجرأة التي تجسدت في بطولات رفاق « كومونة بغداد « ، في قصر النهاية ومعتقلات البعث الملوث بالجريمة المنظمة.
مساء ذلك اليوم غادرت مدينة الثورة مع العائلة، التي ساعد وجودها معي في السيارة على النفاذ من كماشات الحرس القومي الذي كان قد طوق المدينة وسد منافذها، وباشر تمشيطها بحثاً عن الشيوعيين والسلاح الذي كان قد وزع على عدد محدود من الرفاق المتأهبين للتحرك مع ساعة الصفر وبوادر نجاح الحركة في معسكر الرشيد.
في تلك الليلة التي نام فيها عبد عباس المفرجي والقلق يظلل رقدته بما عرفه عن الحركة وما آلت اليه. لم يكن على يقين مما تواتر من اخبارها. لكن اعتقال اخيه كان مؤشراً على أن محاولة الإنقضاض على نظام القتلة قد باءت بالفشل. وشاء قدره وحظوظ مئاتٍ من رفاقه المعتقلين في سجن رقم واحد، أن يأتيه الامر العاجل بالانتقال الى المحطة، ملتقى تحرك القطارات في الاتجاهات المختلفة، ولم يكن يعرف من حاملي أمر المهمة الجديدة سوى، أن عليه نقل حمولة من الحديد الخاص الى السماوة.
حال وصوله الى المحطة، انتبه الى وجود العديد من المسؤولين العسكريين وحرسهم، ومسؤولين حزبيين، وثُلّة من الحرس القومي، لكن ما أثار فضوله وشكوكه وجود عبد السلام عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح التكريتي ومصطفى الفكيكي وقياداتٍ أخرى.
وعلى خلاف ما كان عليه الوضع في الايام الاعتيادية، وجد أن العربات جاهزة مقفلة باحكام، وسط حراسة مشددة، وعليه ان يقود القطار، كما جاءته الاوامر الى السماوة التي تستغرق الرحلة اليها اعتيادياً عشر ساعات، لكن عليه كما جاء في توجيه المسؤول ان يتحرك ببطء وتؤدة، دون اي مراعاةٍ لزمن الرحلة والوصول.!
يكتب الروائي والكاتب الصحفي الاستاذ كريم العبيدي في جريدة المدى التي كان يعمل فيها، وهو يصور تلك البطولة للسائق عبد المفرجي، ولأبطال قطار الموت:
« فجأة، تحولت خمس عشرة عربة من قطار حمولة قديم يستخدم لنقل الاغنام والماشية والاخشاب والحديد، الى قطار موت ورعب، قاده المرحوم عبد عباس المفرجي (اقدم سائق قطار عراقي) من المحطة العالمية في بغداد الى السماوة، في رحلة غرائبية، اختصر زمنها من عشر ساعات الى ستة (قرون) حمر مشحونة بكل اصناف الآلام والرعب والضياع، ومليئة بالمفاجآت والمعجزات الكبار التي حالت دون وقوع ابشع جريمة سياسية واخلاقية في تاريخ العراق الحديث والقديم في آن واحد..!»
في ذاكرة إبنائه، ان والدهم اشار الى انه لم يكن يعرف عن حمولته سوى ما قيل له انها «حديدٌ خاص».
الإ ان الشك لازمه بسبب تأكيد المسؤولين بضرورة قيادة القاطرة ببطء شديد. ولم يعرف الحقيقة الا بعد ان جاءه كما يتذكر ابناؤه «شابٌ في الثلاثين من عمره، اثناء توقفه قبل منتصف الطريق في احدى المحطات»، وقال له «خالي، تعرف ان حمولتك ليست حديداً، بل بشراً، هم من افضل ابناء شعبنا»...!
يقول الرفيق فاروق مصطفى رسول في سيرته: لم يكن عبد عباس، يعرف ان في حوزته نعشا في شكل قطار سدت جدرانه ومنافذه وطليت ارضيته بالزفت، ولما علم بذلك انتفضت قيم الانسانية والكرامة لديه.
أدرك في تلك اللحظة ان من كانوا في المحطة من مسؤولين وقيادات عليا، خططوا لاعدام «صفوة ابناء العراقيين»، شيّاً، وخنقاً، وهي وسيلة لا تتفتق الا من اذهانٍ مشبعةٍ بروح الجريمة والانتقام مجردين من اي مشاعر انسانية.
وهنا تبدأ مأثرة اقدم سائق قاطرات في العراق، اذ قرر خوض تحدٍ قد يكلفه حياته، لان عليه ان يقود باقصى ما يستطيع من سرعة، ففي ذلك فقط بارقة املٍ قد تنقذ المحشورين في عربات حديدية غير مبطنة، محكمة الاغلاق، عارية الا من القار الساخن جداً، وهي تسير تحت اشعة شمس تموزي حارقة، الحرارة في الظل تتجاوز ٥٠ درجة مئوية..!
نسي عبد عباس المفرجي، كل المحذورات الفنية، وهو يطلق مكبس سرعة القطارباقصى ما فيها من طاقة الانزلاق فوق السكك التي تمتد الى السماوة، محطة الخلاص والمجهول الذي ينتظره. ولم يعد يعنيه، او حتى يخطر بباله المتعب، سوى بلوغ الحد الاقصى من السرعة، وانقاذ وديعة قطاره. ووصل..
يقول القاص حسب الله يحيى:
سائق القطار يتنفس بارتياح وهو يصل قبل الموعد المقرر له بساعات مما جعله يدرك جيدا.. نبل.. لم يكن يدري انه يقودهم إلى الموت فإذا به يقودهم إلى الحياة
فكر عبد المفرجي وقد وصل القطار الى محطة السماوة ورأى الحشد المنتظر:
من اين لهذا الجمهور المحتشد من علمٍ بحمولة القطار من البشر، مع انه قطارلنقل الماشية والحديد والبضائع؟
اي دافع انساني يقف وراء هؤلاء الشيوخ والنساء والاطفال ويحركهم، وهم على اختلافهم يحملون الماء والخبز والفاكهة وكل ما يمكن من حمله، وكأنهم يعرفون ان ذلك هو زاد انقاذ ارواح من حاول المجرمون اعدامهم خنقاً او شيّاً.؟
استعاد البطل صورة الشاب الثلاثيني وهو يخبره بحقيقة حمولة قطاره بجسارة، ودون خوفٍ من العسس الذين يخفون هويتهم الامنية باقنعة فلاحين من الفرات وركاب عاديين. وأي جسارة تحرك هذا الحشد في اجواء إشاعة الموت العشوائي من قبل قطعان الحرس القومي.
ويفكر، كيف يقول الانقلابيون ان الحزب الشيوعي قد انتهى..؟
سمع وقد استغرق في تساؤلاته، صوتاً يحذر من اعطاء الماء لركاب القطار لأن في ذلك موتهم المحقق، صرخ وهو يقول: انا الطبيب رافد صبحي اديب، اعرف ما اقول، اسعفوهم بالماء المشبع بالملح.
الروائي حيدر حيدر يذكر الحادثة في روايته (وليمة لأعشاب البحر)
بدأ الحشد المساق داخل الجحيم الى حتفه يتلوى ويترنح ويهوى ويصرخ ويتقيأ، وفي مدار النار ورائحة القار والغثيانات التي قذفتها الاحشاء، سُمع صوت غريب، غامض، شبيه بدوى رعد او خفقة طائر جارح ينقض.
توقف القطار في الديوانية المحطة الوسطى بين بغداد والسماوة، كانت انباء القطار قد تسربت الى شيوعيي المدينة قبل الانطلاق من العاصمة.
وخلال الاستراحة القصيرة اخبر سائق القطار بالمؤامرة التي يجهلها: قطارك مليء بالمعتقلين الذين سيموتون خلال ساعتين احتناقا اذا ما واصلت هسه السرعة البطيئة.
ولكنني احمل بضائع وركابا، هذا ما قيل لي!
انظر الى حركة الحراس حول القطار وفي الممرات الخارجية، سراً دار الحوار بينه وبين رجل غريب لا يعرفه.
قطارك يحمل الف انسان أقفلت عليهم المقصورات ليموتوا في الطريق.
كانت حركة الحراس ونظراتهم مريبة، لم ينزل من القطار اي مسافر كما لم يصعد احد، داهم السائق ارتياب وباغته شعور قابض للقلب. أيكون مخدوعا حقا؟ وهل غرروا به ليتحمل زهق هذه الارواح البشرية، المحاصرة في قطاره؟ كان الرجل الذي انفرد به منفعلا يرتعش وهو يرجوه ان يصعد الى القطار ويسرع قبل ان تحل الكارثة، لقد اقسم له بالله ورسوله وكتابه انه صادق، وسيتأكد من الامر فيما بعد، صدقني، اكثر من الف روح انسانية بين يديك، بالامكان ان تنقذهم اذا ما اسرعت، انها عملية اغتيال ان يتأكد اذ يسمع صوتا او جلبة داخل المقاصير المغلقة، باغته رجل لا يعرفه: ابتعد من هنا.. بادره الساق، انا قائد القطار. انت من تكن؟ وقال الرجل: ليس هذا من شأنك القطار يحمل اسلحة والاقتراب ممنوع.
كان القطار يخترق السهب مضاعفا سرعته، سباق الموت والحياة في اللحظة التي هبط فيها على السائق وحي اوحى له بان قطاره ليس اكثر من تابوت مصفح وضع فيها بشر سيسوقهم الى المقبرة.
الى ان يموت وتطويه الارض، سوف لن ينسى سائق قطار الموت ذلك المشهد الشبيه بيوم الحشر والقيامة، لحظة ما وصل قبل الموعد المحدد وفتحت الابواب للموتى فانهاروا على ارض المحطة خارج احشاء الجحيم.
كانوا في النزع الاخير، مبللين بالعرق والقيء والشحوب والغازات الخانقة والدوار وغياب الوعي وسود القار.
رآهم يهوون كما تهوى الطيور المهيضة واكياس القش، يتنهدون ويئنون.
- ما زالوا احياء. قالها السائق لنفسه وهو يقتعد رصيف المحطة، من خلال دموعه التي انهمرت، رأى الاهالي الذين وصلتهم الاخبار، كيف اندفعوا بجرار الماء المثلج ليسقوا العطاش المشرفين على الهلاك.
بوغت وهو يرى الطبيب يصرخ بالاهالي: ابعدوا الماء عنهم.
ذعر من الحكيم اللعين الذي يمنع الماء عن الرجال الاحياء، صحا من رقدته وصاح: انا انقذتهم من الموت وانت تريد قتلهم. أهذه انسانيتك؟
دفع الطبيب قبضتي السائق: اسمع يا مخبل! الماء والثلج يقتلهم احضرنا لهم ماء ممزوجا بالملح لتنضح الاملاح المترسبة في الخلايا الآن انتهت مهنتك وبدأت مهنتي.
واستطرد الطبيب، صح انا طبيب اما انت فتساوي الف طبيب، لقد تحديت عزرائيل ايها الرجل الطيب وانتصرت عليه.
رأى سائق القطار الحشود وهي تتوزع على السجناء ، يتقاسمون الادوار في الوصول الى السجناء كل حسب ما ينبغي ان يقوم به من اسعافٍ غذائي. وشاهد وهو في حالة استغراب ان العشرات يتوافدون لينظموا الى الحشد وهم يحملون المؤن...!
وما اثار شديد استغرابه ان افراد الشرطة التي رافقت السجناء في القطار، لم تخفي تعاطفها معهم مبدين الود وهم يحمّلون سيارتهم بالمؤن التي جاء بها المواطنون ليتزود بها السجناء وهم في طريقهم الى سجن نكرة السلمان الصحراوي القابع على الحدود العراقية..
ويقول الروائي غائب طعمة فرمان في روايته (المرتجى والمؤجل):
ولكنك كنت لي كالنجم العادي تبدد لي ظلام عربات الحمولة لذلك القطار المنحدر خلسة كالأفعى الى صحراء الجنوب، ولانك ولدت لتعيش، ولتعيش حياة لا يتم فيها ولا ضياع كان علي ان اقاوم واعيش.. هكذا كنت اقول لنفسي، وانا ممدد في عربة بضائع مغلقة خانقة الانفاس، حيث كان الهواء اثمن من الطعام والماء، وحيث كانوا يجرون الشيوخ الى خصائص العربات ليستنشقوا هواء الحياة فلا يموتوا كنا مكدسين في العربة كالاكياس، وكان من المفروض ان ينقلونا الى السماوة، والمسافة بينها وبين بغداد تستغرق عشر ساعات تكفي لان تخنق اكثرنا قوة وشبابا ليصلوا الى السماوة جثثا هامدة، الى هذا الحد، يا حسان، بلغ الحقد احيانا ولكن سائق القطار قرر بسليقته الخاصة ان يضاعف سرعة القطار وان يقطع المسافة بخمس ساعات.
هناك يا ولدي اناس يصورون انفسهم سائقي قطار الامة والوطن، ولكنهم يسوقون قطارهم الى الجحيم، والدمار اما هذا الرجل البسيط صاحب عشرين سنة خدمة في سياقة القطارات فقد ابى شرف مهنته، كما ابت كرامته ان يحمل في قطاره احياء، ليصل بهم موتى، فقرر مضاعفة السرعة. ويقال كانت المحطات مندهشة لوصول القطار قبل الموعد المحدد له، ولم يعبأ سائق القطار بذلك وسار مقداما حتى وصل الى السماوة فقفز من قاطرته وصرخ للناس.
يا ناس يا عالم، عندي الف وخمسمئة رجل سيموتون من العطش بعد ساعة، اذا لم تهرعوا اليهم بالماء والغذاء، وهرع الناس الطيبون اليهم، كل بما في بيته، ونجا الركاب من الموت المخطط لهم، وان ينجوا من التعذيب ذلك تاريخ بشع لا اريد ان اسوقه اليك وعندما ستكبر ستعرفه وتأخذه لعبرة، لقد ولدت في سنة من ابشع السنين. !
هل بقي في ذاكرة العراقيين من اجيال ما بعد تلك المرحلة المأساوية، الوقائع التي تفضح الاكاذيب والدعاوى التي تداولها البعثيون وبعض القوميين على مر السنوات، بل حتى الآن وهم يبررون ارتكاباتهم اثناء حكمهم الاسود بعد ٨ شباط . ثم بعد استيلائهم على السلطة في انقلاب ١٨ تشرين ١٩٦٨ وعلى امتداد حكمهم حتى لحظة سقوطها في ٢٠٠٣ من أن التعذيب والاعدام والتصفيات التي رافقت انقلاباتهم، منذ صبيحة ٨ شباط وطاولت الشيوعيين، انما لانهم كانوا من «مرتكبي الجرائم ضدهم في فترة ما يسمونه بالمد الاحمر، أو من الذين قاوموا انقلابهم الدموي وقاموا بتعذيبهم في المعتقلات وتسببوا بسجنهم ..؟
هل في ذاكرتنا الجمعية عدد القتلى والسجناء من البعثيين وانصارهم طوال الفترة الممتدة من ١٤ تموز الى ٨ شباط . ومتى تولى الشيوعيون ادارة اجهزة الامن والمخابرات والمؤسسات القمعية الاخرى. بل هل صحيح ان الحزب كان يقود سلطة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، ولو لفترة قصيرة، الا اذا كان نفوذ الحزب في الشارع هو المقصود بحكم الشيوعيين؟. مع العلم ان شعار « حزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم « وهو شعار رفعته الجماهير في المظاهرة المليونية بمناسبة عيد العمال، بمبادرة منها دون تخطيط من قيادة الحزب وهو ما كان من بين اسباب الافتراق مع قاسم واستمرار تدهو العلاقات بينهما بحيث ضمت السجون والمعتقلات عشرات الآلاف منهم، رغم استمرار الحزب في رفع شعار:
تضامن كفاح تضامن...!
وفي قطار الموت وجه من وجوه الحقيقة التي تفضح كل تلك الادعاءات:
كان جميع ركاب قطار الموت من سجن رقم واحد، من الذين تم اعتقالهم قبل الانتفاضة ببضعة اشهر، عشيّة انقلاب ٨ شباط ولم يكن لاحد منهم علاقة او مساهمة في انتفاضة ٣ تموز، بل لم يتم اطلاق سراحهم يوم الانتفاضة، وكان من شأن ذلك تغيير موازين القوى لصالح المنتفضين . وهم من اختارهم شُذّاذ الآفاق من قادة انقلاب شباط، للامعان في الانتقام وتعميم الرعب بين اوساط المناضلين وعموم العراقيين. وتلك كانت هوية واهداف الانقلاب الذي لا بد من اعتباره، المنعطف التاريخي الحقيقي لكل ما اعقبه من تحولاتٍ سياسية، وحروب وتدمير للبنى وتصفياتٍ طاولت عشرات الآلاف من خيرة نساء وابناء العراق وارتكاباتٍ لم يسبق لها نظير منذ تأسيس الدولة العراقية في أوائل عشرينيات القرن الماضي. ومجرد استعادة المراحل التي اعقبت تلك الجريمة، يتضح انها كانت الاساس لما انتهت وآلت اليه اوضاع البلاد ونظام الحكم فيه، من إفقارٍ وفسادٍ وتبعيةٍ وسطوةٍ لاشباه بشرٍ، وانحطاطٍ للقيم ورثاثة تكاد تخنق المجتمع، وتأتي على ما تبقى من صروح العلم والمعرفة والتعليم في ظل نظامٍ يعيد انتاج ما بدأه البعث منذ انقلابه في ٨ شباط ١٩٦٣.
وقد أكد قرارالاعدام الجماعي بوضوح، على طابعه الانتقامي من القوى والعناصر الوطنية، العسكرية والمدنية، بدافع افراغ المجتمع وتصفية الحركة السياسية من كفاءاتها الموصوفة، وإضعاف قدرتها على رفد نضال الشعب العراقي لتحقيق تطلعاته الوطنية في نظامٍ ديمقرطي تعددي يحقق له الحرية والعدالة الاجتماعية وينتصر لحق الشعب الكردي في اطار النظام الاتحادي ، ولتمكين البعث من الاستمرار في بسط نفوذه وتكريس سلطته الغاشمة والانفراد بها، وتنفيذ سياساتها ، من تعريب وتبعيثٍ للمجتمع، وكامل نهجه الظلامي الفاشي على الضد من ارادة الشعب وتطلعاته. وهذا ما فعله البعث وقيادته الممثلة بالبكر وصدام حسين ومن والاهما بعد انقلاب ١٩٦٨ اذ تحقق لهم ما ارادوا من هدفٍ مباشرٍ تمثل في اعادة الاعتبار للبعث و تجاوز جرائمه «ضد الانسانية» بما اتخذوه « ذراً للرماد « من قرارات مخادعة داخلية وخارجية «كان الهدف منها، تبرئة ذمتهم وتبييض تاريخهم الدموي « ، تمهيداً للانقضاض على ما تبقى من قوى الحركة الوطنية وبشكل خاص الحزب الشيوعي الذي تعرض في ٨ شباط الى اكبر حملة تصفية دموية وسياسية، والحركة القومية الكردية التي تعرضت هي الاخرى الى حروبٍ متصلةٍ من السلطات المتعاقبة، وتكبدت آلاف التضحيات، وفجعت بمجزرة حلبجة والانفال وسواهما من جرائم ضد الانسانية، لتصبح في نهاية المطاف ضحية اتفاقية الجزائر التي ابرمها صدام حسين مع شاه ايران. وتخلى بموجبها كثمن لتصفية الحركة القومية المسلحة آنذاك، عن شط العرب.
حين أصدر الحاكم المدني للاحتلال پول بريمر قرار اجتثاث البعث، كرست مقالتي الافتتاحية ضد القرار، مؤكداً على ان مواجهة البعث ونظامه الاستبدادي، واستباحاته لا يتم عبر قرارات ادارية، وإنما من خلال طائفة من التوجهات الفكرية والسياسية والاعلامية التي تشرّح طبيعة البعث الفاشية ونظامه واهدافه ونوازعه ودوره. وأكدت كما ورد في عنوان المقال، على الاجدركان يتمثل باصدار قرار بـ»اجتثاث الاستبداد»، مستدركاً ، ان اجتثاث الاستبداد، لا بد أن يستند الى قاعدة قانونية يكرسها الدستور، وهو ما يتطلب أن يؤطّر « النظام السياسي الديمقراطي» . ولم اكن بما اقترحت اهدف الى تزكية حزب البعث وقيادته وادواره المشبوهة ، وانما كنت أنطلق من ضرورة ارساء اسسٍ تكون كفيلة بمنع امرار استبداد جديد يعيد انتاج ما عانى منه العراق وشعبه وقواه الوطنية طوال عقود اغتصاب البعث للسلطة بشكل خاص . وهو ما لم يحصل كما هو عليه واقعنا المرير اليوم، اذ اصبح الدستور «حمّالة اوجه»، وظلت القوانين النافذة اليوم، بطابعها المتعارض مع تطلعاتنا في حماية حقوق المواطنة المتسيّدة وما يرتبط بها من عدالة اجتماعية ودولة قانون ومؤسسات ديمقراطية، هي التي تؤسس لكل ما يتعرض له العراق والعراقيين من انتهاك حقوقهم، وتهميش ارادتهم، واعادة انتاج الفساد والنهب المنظم، والسلاح المنفلت خارج اطار الدولة ومؤسساتها الشرعية، وبقاء رموز الفساد وتمزيق نسيج المجتمع والارتكابات التي ظلت تسجل ضد مجهول، بما في ذلك تسليم ثلث مساحة العراق الى داعش الارهابي والتسبب بخسائر فادحة في الارواح والممتلكات، وتحويل العراق الى نموذجٍ في ذيل حتى اكثر الدول تخلفاً وفساداً وتراجعاً في كل ميدان، الصحة والخدمات والتعليم وسوى ذلك مما يدخل في اساس التقدم والتطور الحضاري.
ورغم كل ذلك فان الرموز والقيادات المستفزّة بوقاحتها تظل في صدارة المشهد السياسي والحزبي، وتلوّح بسطوتها وتمارس دوراً من خلف الستار لإعاقة اي امكانية لمعافاة العراق، والاقتصاص من مرتكبي الجرائم واللصوص النهّابين.
كان يقيني وانا اكتب مقالي ضد قرار بريمر، ان ظروفاً تؤشر الى امكانية ان نكون في مواجهة اوضاع تتبدد فيها احلامنا، وان قرار الاجتثاث سيثير الهلع في صفوف مئات الآلاف ممن انظموا الى البعث تحت شتى الاسباب، دون ان يكون الايمان به من بين تلك الاسباب. في حين ستفلت القيادات والكوادر التي ظلت حتى اللحظة الاخيرة ادوات اجرامية بيد صدام حسين بايمان من الاجتثاث والمساءلة ، سيتسللون تحت مختلف الشعارات الى قلب السلطة وقمة هرمها وينفذون الى كل مؤسسات الدولة اللا دولة، سواء «تعمّموا»، «والتحوا» أو «تشيّعوا»، ويصبح كل عراقي رهينة لهم وموضوع تهميش واقصاء.!
هل كان عليّ ان اخضع لعواطفي واتجاوز قيمي، واستجيب لدوافع الانتقام والتصفية كما فعل القادة الذين « انتقوا» ركاب قطار الموت وكانوا في وداعهم في مشهد يجسد نزوعهم المجرد من كل نزعة انسانية، بل قد تتجاوز ما تتصف به بعض الحيوانات المتوحشة..
لقد ضاعت حقوق مئات الآلاف من ضحايا النظام السابق، لان بريمر والقيادات المتنفذة يومذاك رفضوا اعتماد العدالة الانتقالية، ليضع كل من انتهك حقوق الانسان واستباح كرامته امام القانون. هل كان هذا ممكناً؟
كيف ذلك والقيادات المتنفذة في كل مفاصل القرار، ومجلس النواب يصر على ابقاء القوانين والتشريعات التي اعتمدها النظام السابق..؟!
وماذا عن ذاكرة الوطن المستباح..؟
انها كما يبدو في حالة غيبوبة قد يودي بها اذا لم تستيقظ الى الانطفاء..!
ان الذاكرة الجمعية تفرض على كل وطني حريص على مستقبل بلاده وحماية شعبه من ضياع رصيد تجربته بوقائعها وشخوصها وتواريخها، باعتبارها ضمانة لتقويم حاضره ومستقبله، المساهمة في اضاءة نضالات جيلنا هذا بما تحمله ذاكرته قبل ان تضيع تحت ثقل الاحزان والخيبات واليأس.
لكن هذه الذاكرة تحتاج اولاً الى جهد الشيوعيين وحزبهم، ومساهمات قادة وكوادر الاحزاب الوطنية والقومية الذين لم يتورطوا في تلك الارتكابات، أو إنتموا، ثم استيقظ وجدانهم وحسهم الوطني.
ان وقائع غير قليلة تنفي مثل هذا الجهد والمساهمة، اذ يستمر الحزب وهو حامل الهم الاول وصاحب التضحيات الاكبر في التعامل مع التاريخ الذي يعيد تكرار نفسه.
ان وثائق رسمية امنية تنام في ادراج الحزب وذاكرة رفاقه تدين العشرات ممن خانوا الامانة وتعاونوا مع اجهزة النظام الامنية والقمعية بمستوياتٍ مختلفة وفيهم من كان عيناً مباشرةً وشى بالتنظيمات السرية وتسبب في استشهاد العديد منهم، وهم الآن يتحركون ويتصرفون بحرية وتحدي.
بين هؤلاء المندسين ، وكلاء ومتعاونون مع اجهزة البعث، رجال اعمال، وصحفيون وكتاب وتدريسيون، بل و»مفكرون» يملؤون شاشات التلفزة العراقية والعربية ، ويتقدمون بمآثرهم ويعكسون خياناتهم، باعتبارها خلافات في الرأي، وتقاطع مع الحزب في الموقف من الحرب والكفاح المسلح والتنظيم المتخلف عن مواكبة الديمقراطية والحداثة. ولا بأس ان لا نأتي على ذكر من أُنتخب نائباً، او احتل مواقع قيادة في اجهزة السلطة القائمة وتسلل الى تنظيمات وقيادات الاحزاب الحاكمة وميليشياتها، لأن ذلك قد يسئ للمصالحة الوطنية ويعرض شدة الورد للذبول والتآكل ..
وليس ذلك فحسب بل ان البعض من هؤلاء صارمنظّراً لتاريخ الحزب والحركة الوطنية، واخطر ما في ذلك، تحول كتاباتهم واحاديثهم الى مصادر «موثوقة» لطلبة الدراسات العليا واطروحاتهم..!
ان الذاكرة المطلوبة لا ينبغي ان تكون «تشهيرية» و «تسقيطية» تعتمد تلفيق الوثائق والوقائع، وليس عليها ان تتناول حتى سيرة من لم يعد يشكل في ممارساته وسلوكه خطراً على الذاكرة الوطنية، ولا يدعي خلاف ما كان عليه.
لقد باتت ذاكرتنا في حالة سبات، يُخشى عليها من الانطفاء. وربما يسيء البعض من المناضلين واسر الشهداء الظن كما لو ان نسيان استذكار مآثرهم انما هو موقفٌ مقصود..!
ليس ذلك كله نسيان، أو عدم وفاء، بل هو عطبٌ في الذاكرة، والنكران فيه مجرد سهو غير مقصود.
هل يكفي هذا لاشعار عائلة عبد عباس المفرجي بوفائنا لبطولة ومأثرة والدهم، والمئات من ابطال استشهدوا، وتعذبوا، وعانوا هم واسرهم من مرارات كانت تبدو «تجاهلاً وعقوقاً»..؟
وها ان الذاكرة الوطنية تعبر عن فخرها وتمجيدها، لمن كان من «حمولة» قطار الموت الذي صار بفضل جسارتهم وبطولاتهم ومأثرتهم «أيقونة» من ايقونات الوطن. وها هي الذاكرة تستعيد بطولة يحيى نادر الصفار، الشهيد الوحيد من قطار الموت الذي قضى خنقاً، واعيد من محطة السماوة الى مثواه الاخير..
لم ينتهي المشهد المأساوي بعد النزول في محطة السماوة ، بل كان على السجناء قطع الطريق الصحراوي الحارق الى سجن نكرة السلمان
وضع ضباط الامن المرافق للقطار ، الاصفاد في يدي سائق القطار عبد عباس المفرجي ليساق الى بغداد حيث التحقيق والاعتقال. لكنه يتذكر فيما بعد بعض من كان في قطاره المحموم في الثالث من تموز ١٩٦٣.
وهؤلاء بعض من استعاد ذكراهم، وتمثّل مأثرتهم:
- الضابط محمود جعفر الجلبي / عضو محكمة الشعب معتقل في سجن رقم (1) وسجن بعقوبة ونقرة السلمان.
- الضابط لطفي طاهر/ شقيق المرافق الضابط الشهيد وصفي طاهر.
- الضابط ساجد نوري / حماية الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.
- الضابط نوري الونة.
- الضابط حسن عبود.
- الضابط غضبان السعد.
- الضابط غازي شاكر الجبوري.
- الضابط ابراهيم الجبوري.
- الضابط عبدالسلام بلطة.
- الضابط الطبيب رافد صبحي اديب.
- الضابط الطيارعبد النبي جميل.
- الضابط الطيار حسين علي جعفر.
- الضابط طارق عباس حلمي.
- الضابط عزيز الحاج محمود.
و من المدنيين:
مكرم الطالباني , عزيز الشيخ محمود , عبد الوهاب الرحبي , كريم الحكيم , الدكتور احمد البامرني , علي حسين رشيد , جميل منير العاني , شاكر القيسي , حامد الخطيب , فاضل الطائي , عبد الصمد نعمان , علي ابراهيم .
هل في ذاكرة العراقيين اليوم بعضاً من مآثر هؤلاء الابطال..؟
انا أذكر بفخر انني شاهد على بعض تلك المآثر. لعلي استطيع الكتابة عنها في المذكرات المؤجلة.

رحل عبد عباس المفرجي اول سائق قطار عراقي، عام ١٩٨٧ ،و صار رغم بعض النكران رمزاً لمآثر الزمن المضيء رحل الى مثواه الابدي بعد ان شبع اعتقالاً ومطاردةً وسجناً . وقيل انه مات مسموماً بعد ساعات من اطلاق سرحه.ا تبتئس ايها الاسم المبَشِر بين الاسماء، فقدت رحلت قبل ان ترى الزمن جميل وهو ينطفئ .!
من يدرى ايها الجسور المتفاني ، فربما سنموت نحن من شدة اغترابنا حين لن يبقى من يتذكرنا بكلمة وداع.؛!