غرامشي  بين الحقيقة والمسرح

غرامشي بين الحقيقة والمسرح

علي حسين
في العام 1930 كان انطونيو غرامشي، قد انهى سنتين من الحكم الصادر ضده بالسجن عشرين عاماً، بعد أن اعتقله رجال موسوليني وأودعوه أحد مراكز الأمن الفاشي، ايقن انذاك انه محكوم عليه بالموت البطيء بسبب مصاعب والآم حياة السجن.. في تلك الأيام الكئيبة كرس غرامشي سنوات السجن للتأمل والكتابة، كتب " كراسات السجن " و كتاب " تأملات في الادب والفن " خصص فيه فصلاً مطولاً عن لويجي بيراندللو يكتب فيه:

" في بيراندللو نجد كاتبا صقليا يمكنه أن يدرك الحياة المحلية في لهجاتها وفلكلورها، وفي الوقت نفسه نجد فيه كاتباً إيطالياً وأوروبياً، لا بل نجد فيه أكثر من هذا الوعي النقدي لصقليته وايطاليته ولإوروبيته ".

غرامشي الذي ولد عام 1891 عاش طفولة صعبة، وسط عائلة فقيرة جداً، وكان جميع أفراد العائلة يحاولون المساهمة في النفقات يكتب غرامشي:" بدأت العمل عندما كنت في الحادية عشر من عمري، وكنت أكسب تسع ليرات في اليوم أي ما يعادل ثمن كيلو غرام من الخبز، مقابل عمل عشر ساعات يومية، وكثيراً ما كنت أقضي الليل في البكاء سراً لأني كنت أشعر بالالم في كل أنحاء جسدي. لم أعرف إلا الجانب القاسي في للحياة ".
عندما حوكِم غرامشي طالب ممثل موسوليني بأن يوقف هذا الدماغ عن الاشتغال. وعندما طلب القاضي من غرامشي أن يلتمس العفو أجاب:" هذه طريقة تعني الانتحار، وليست لي أي رغبة في الانتحار، لأنني لا أريد العيش مستعيرا شخصية انسان آخر، لست شخصية من شخصيات مسرح بيراندللو تستبدل قناعها بين لحظة واخرى.. أنا اسمي انطونيو غرامشي ".
هل يستطيع كاتب أن يبين لنا كيف ولِدت إحدى الشخصيات في خياله أو لماذا ولدت.. يقول بيراندللو إن سر الخلق الفني هو نفسه سر الخلق في الطبيعة. ويضيف بيراندللو إن أي امرأة ترغب بان تصبح أمّاً، لكن الرغبة وحدها لاتكفي. وتصحو ذات يوم من نومها فتجد إنها قد أصبحت أمّاً، من غير أن تعلم متى حدث لها ذلك. وكذلك الشأن عند الفنان. إنه يختزن نفسه كثيراً في البذور الحية، ولكنه لايدري متى و لا كيف أستحالت إحدى هذه البذور إلى كائن ينبض بالحياة. وفي المقدمة التي كتبها لمسرحية " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " يقول:" وجدت هذه الشخصيات الست أمامي، أحياء بحيث أستطيع أن ألمسهم، وأن أسمع أنفاسهم، لقد ولدوا أحياء. وها هم يطالبون بحقهم في العيش ".
منذ الصفحة الأولى نحن في مسرح يتهيأ لتقديم عمل مسرحي جديد، حيث المخرج والممثلون منشغلون باعداد هذه المسرحية التي تروي امرأة تزوجت من رجل وأنجبت منه الابن الاكبر. بعد ذلك حدث أن أغرمت بسكرتير الأب وعشقته فأنجبت منه الأولاد الثلاثة الباقين، بمن فيهم فتاة. ثم فقد كل من الأب والأم الأصليين أثر الآخر، ودار الزمن دورته… وحين مات عشيق الأم، وجدت هذه نفسها وأطفالها في البؤس فعادت لتقيم في المدينة نفسها. وهنا وقعت الفتاة بين براثن امرأة تدعى مدام باتشي تمارس مهنة الدعارة، وفي منزل الدعارة الذي تملكه مدام باتشي،يلتقي الأب بالفتاة ويقيم معها علاقة من دون أن يعرف من هي. لكن الأم تدرك يوماً ما حدث وتسرّ الى زوجها بالحقيقة. ويشعر الرجل بالعار إزاء ما فعل ثم يدعو الاسرة لتقيم لديه، لكن ابنه لا يطيق وجودهم وتبدأ الشرور بالاستشراء… حتى تُقتل الطفلة غرقاً في الحوض، وينتحر الفتى الصغير مطلقاً النار على نفسه، وتذهل العائلة أمام ما يحدث، لكن الفتى الشاب سرعان ما يلتقط أنفاسه ويبارح المكان ساخراً. وهنا تتوقف المسرحية الأصلية التي كان المخرج ينفّذها حين تظهر الشخصيات لكي تطالب بحقها في حياة أخرى ونهاية أكثر اكتمالاً، لينقلنا بيراندللو الى عالم الوهم بالوقت نفسه لا يريد أن يغادر الواقع ونجد الشخصيات وهي تحتج:" إن المؤلف الذي وهبنا الحياة، كما ترى ياسيدي، لم يُرد أو يعد قادراً من الوجهة المادية على أن يسلكنا في عالم الفن. وكان ذلك منه جريمة حقاً ياسيدي، لأن من يسعده الحظ فيولد شخصية حية يمكنه أن يسخر حتى من الموت، إنه اسمى من الموت. إن الانسان الكاتب، أداة الخلق، يموت، أما مخلوقاته فلا تموت أبداً ". إن الشخصيات الست التي تبحث عن مؤلف هي هذه الشخصيات الفنية التي لاتقل حياة عن الشخصيات الواقعية. بل إنها لتمتد خلال الزمن وتسخر من الموت وتتحرر من سجن القبر. يسأل بيراندللو: أين هاملت ودون كيشوت وفاوست ومدام بوفاري، لن نجدهم تحت شاهدة من شواهد القبور.. إنهم أحياء..يموت الشعراء والكتاب الذين ابدعوهم ولم يموتوا هم.