البصير يوثق أحداث الثورة العراقية الكبرى

البصير يوثق أحداث الثورة العراقية الكبرى

د. نجاح هادي كبه
لُقِّب محمد مهدي البصير بلقب شاعر ثورة العشرين بامتياز، لأنه الشاعر الوحيد الذي مهد للثورة “قبل وبعد” وكانت قصائده تفعل في نفوس العراقيين فعل السحر فتثير فيها عواطف النخوة والغيرة على وطن محتل وقد حفظت قصيدته “لبيك أيها الوطن” شفاها في كل أندية بغداد ومحافلها وطارت إلى المدن جميعها تردد في التظاهرات واجتماعات التنديد، يقول فيها :

ان ضاق يا وطني عليَّ فضاكا
أفلتتسع بي إلى الأمام خطاكا
أجرى ثراك دمي فإن أنا خنته
فلينبذني ان ثويت ثراكا
بك همت بل بالموت دونك في
روحي فداك متى أكون فداكا
لقد أصاب البصير الألم والحسرة حين لم تحقق ثورة العشرين طموح الشعب العراقي بما كان يطالب الإنكليز، وزاد ألمه وحسرته حين رأى بأم عينيه ان لا مفر من مهادنة الإنكليز لأخذ استقلال العراق كاملا.
فاعتزل البصير السياسة في بداية سنة 1930م بعد ان تهيأت له الفرصة للسفر خارج الوطن لإكمال دراسته إضافة إلى أنه يرى بعد عقد كامل من النضال ان الذين عمل معهم كانوا يسعون في حقيقة حالهم لتحقيق أمانيهم واستلام مناصب الدولة، فمتى ما تحقق لهم ما يريدون؟ انقلبوا على مبادئهم.
لقد تحول البصير بسبب أوضاع وطنه المؤلمة إلى شعلة من الوطنية خطيباً وشاعراً وسياسياً ومؤلفاً، فقد وثق أحداث الثورة العراقية الكبرى بكتاب ضخم بجزأين، وذكر منعم حميد حسن هذا الكتاب على أهميته نادر ولا يصل إليه طالبه بسهولة لأنه لم يطبع إلاّ طبعته الأولى. ويقع في جزأين. وقد طبع الجزء الأول منه في سنة 1923م والجزء الثاني في سنة 1924م بمطبعة الفلاح ببغداد وعدد صفحاته 609. حسن، 1980م، ص : 77.
يبدو ان هذا المؤلّف بصمة دالة على وطنية البصير، لأنه دوّن الحالة الجهادية للثورة وقرن العمل بالقلم لأنهما سلاحان لا ينفصلان، لاسيما ان البصير أهمل تدوين مذكراته الذاتية آخذاً بالحسبان أهمية تدوين ما اختزنته ذاكرته عن الثورة، قال حميد المطبعي:إهماله في كتابة مذكراته…إذ اكتفى بكتابة ورقة ونصف بعنوان “من أنا” وكان عليه وعلى أي رائد ان لا يترك شخصيته نهباً لتفسيرات الآخرين، فبوجود مذكراته يقضى على التأويلالمطبعي،2007م، ص 14.
فهل يعني هذا المؤلّف ان جعل منه البصير جزءاً من شخصيته بوصفه جزءاً من الثورة العراقية الكبرى؟ فالثورة العراقية الكبرى –كما أرى- ومحمد مهدي البصير كأنهما جسد واحد.
تأتي أهمية كتاب تاريخ القضية العراقية الكبرى لأن المؤلف قد عايش الأحداث التي مر بها العراق وشارك فيها بنفسه وعرف تفاصيلها وأسرارها.
الكتاب نادر بمعلوماته إذ سلّط فيه البصير الضوء على حقبة سياسية حساسة من تاريخ العراق الحديث تمتد من الحكم العثماني وإعلان الدستور وقيام الجمعيات الوطنية والقومية ونمو الحس القومي وموقف العثمانيين تجاه الشعب العراقي والعربي والوقوف ضد سياسة التتريك ثم تناول بالشرح والتفصيل الاحتلال الإنكليزي للعراق وقيام ثورة العشرين ومشاركة الضباط العراقيين للثورة الشريفية في الحجاز وغيرها.
يظهر البصير آراءه الوطنية والقومية بصوت عربي فيسمي الثوار العراقيين بالثوار العرب مثل غيره من شعراء تلك الحقبة وخطبائها، أمثال : محمد علي اليعقوبي ومعروف الرصافي والشيخ علي الشرقي وسواهم، وما شدّني إلى هذا الكتاب ما ذكره البصير عن القائد الانكليزي “هولدن” في ثورة العشرين، وما أبدعه قلم البصير في وصف قابليات الثوار العسكرية على الرغم من الظروف الموضوعية التي كان يمر بها العراق، قال البصير: في منطقة الرميثة لاحظت ان الثوار يحفرون الخنادق شمالي غربي البلدة ويبدلون العملة على صورة منظمة… ويوثق البصير حنكة الثوار العسكرية أيضاً : وكان الثوار قد تحصنوا بترعة يابسة حفرت فيها الخنادق وعلى جوانبها القرى الأمر الذي لم يبق للقواد الإنكليز شكاً بأن ضباط الترك هم الذين كانوا يتولون قيادة الثورة، وكان عدد الثوار لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل، وشرع قائد الحملة “كوننغام” بإطلاق النار في 20/1 ساعة بعد الظهر من يوم 19 تموز واشترك في القتال ثلاثة أفواج، وعلى الرغم من كثرة جنود هذه النجدة، فانها لم تتمكن من ان تزحزح الثوار عن مراكزهم، مع ان القتال قد استمر ثلاث ساعات ونصف ساعة، وبعد قليل وصلت فرقة “الكركا” مجهزة بمدافع ميدانية وحظيرة رشاشات وعلى الرغم ما أبدته من البسالة والاستماتة فانها لم تفلح…لأن العرب قد أخلوا الخنادق ليلاً بعد ان دافعوا عنها النهار طوله وكان الانسحاب منها ليلاً… وأطرى ” هولدن” على بسالة الثوار ومهارتهم، قال انهم كانوا يظهرون كل الحذق باختيار الزمان والمكان للقيام بحركاتهم الحربية، وانهم كانوا أولي براعة فائقة باقتلاع السكك الحديد، وبقطع طريق سير الجنود ومنعهم من الماء، وانهم كانوا عارفين بمواضع الضعف والخلل في الوحدات العسكرية البريطانية وحيث ان ذخائرهم الحربية كانت قليلة، فانهم لم يكونوا ليطلقوا بندقية واحدة إلاّ وهم واثقون من إصابة المرمى، وقد أظهروا كل الحزم والعزم في تعقب القوة المتراجعة… ويضيف القائد هولدن ان هذه المزايا تدل كل الدلالة على مهارة ضبطهم العجيبة ومقدرتهم الفائقة الفصل التاسع، ص : 208-210.
يفند البصير مسألة اشتراك ضباط ترك في الثورة بقوله :
ان العرب الثائرين قد مارسوا الحروب فيما بينهم ومارسوها في اشتباكاتهم مع الحكومة العثمانية، وهم أذكياء جداً، فحصلوا على هذه الخبرة العملية في الحرب بذكائهم وفطنتهم قبل كل شيء وبالممارسة الطويلة للحرب المختلفة ص : 211. والحقيقة كما تتراءى لي ان عرب الرميثة ومنهم قبيلة بني حجيم من الظوالم وسواهم ليسوا ببعيدين عن تراثهم العسكري العربي الحضاري…فهم على صلة وثيقة به من طريق احتكاك رجال الثورة بقوادهم في النجف وكربلاء، ومعلوم ان قواد الثورة كانت لهم ثقافة عامة وأخرى عسكرية تاريخية مثل إلمامهم ببطولات الرسول ? والإمام علي ? في معاركهما ضد البغي والعدوان والتسلط، ولابد انهم قد أفادوا تجربة من تلك المعارك وخططها. وكان لرجال الفكر في بغداد والنجف وكربلاء والحلة دورهم في ذلك لاسيما في بغداد ممن عرفوا بالوطنية والقومية من أعضاء الجمعيات والأحزاب السياسية آنذاك فثقافة الثوار امتداد للإشعاع الحضاري العسكري والعلمي الذي تميزت به الأمة العربية والإسلامية بادية ومدينة عبر العصور.
قال البصير: ونحن لا ننكر ان فريقاً من الضباط المنتسبين للجمعيات في بغداد حاربوا في بعض مناطق الثورة إلاّ أن الوقائع المذكورة لم تقع باشتراك أحدهم فيها البتة ص: 210.