خلاص الروح والجسد في ليلة لشبونة

خلاص الروح والجسد في ليلة لشبونة

حسين الضو
قلبت الصفحة الأخيرة من رواية "ليلة لشبونة" للروائي الألماني إيريش ريمارك وتساءلت مباشرة إذا كانت الرواية حكاية شتات وضياع للهوية والشعور بالتيه وسط ما يخلفه الشعور بأنك مطارد من خوف ورعب، أم أنها رواية رومانسية وقصة حب تدور أحداثها في مسرح الحرب وما تخلفه من أهوال؟ هذا السؤال ليس لتحديد الصنف الأدبي كغرض ترفي لا يتعدى المعلومة ذاتها إن كانت رواية رومانسية أو تشويق وغموض أو غيرها،

وإنما وجدت نفسي أمام هذا السؤال لتحديد ماهية الصراع الذي يعيشه البطل شفارتس على مدى قصته التي رواها لأحد الغرباء طوال ليلة واحدة في لشبونة وهما يتنقلان من حانة إلى أخرى. ومعرفة الصراع هو ما سيحدد بواطن هذا العمل ودوافع شخوصه وبقية تركيبتهم النفسية، وهو أحد المحركات الرئيسة لأي عمل روائي.
ككثير من روايات أوروبا في منتصف القرن العشرين، تتخذ "ليلة لشبونة" من ثيمة الحرب العالمية الثانية وسطاً لمسرحة الأحداث، إذ تعد هذه الحقبة بكل ما تحملها من شتات ويأس وتوحش للإنسان منعطفاً ضيقاً ساهم في مراجعة الفرد لنفسه وما يُؤْمِن به من قيم ومعتقدات كان يعتنقها على مدى عقود. فالرواية تبدأ بالتقاء أحد الفارين من القبضة النازية ببطل الرواية الفار الآخر شفارتس، ويعرض هذا الأخير جواز سفره وهويته بالاضافة إلى تذكرتي نجاة للولايات المتحدة مقابل أن يستمع لقصة فراره كاملة هو وزوجته هيلين.
لا يمكن تغليب صراع على آخر، أي أن صراع شفارتس من أجل الهرب وحلم الوصول إلى أميركا وزوجته ليس صراعاً رئيساً في قبالة صراع الحب التي مرت به هيلين من أجل إنقاذ زوجها ومساعدته على الفرار بالرغم من مرضها وعلمها بنهايتها، بل أن كلا الصراعين تكامليان يصبان في تقوية ثيمات العمل الأخرى، كقيم حنان الأمومة وعطف وتضحية وعطاء الزوجة المُحبِّة والذي غالباً ما يعطي معنى لحياة كل أنثى.
تبدأ الرواية بالإشارة إلى أحد أهم مكونات حياة الفرد وهي الذاكرة، فما يقوم به الانسان وما يتخذه من أي قرار هو جزء منه طوال حياته، ويظل يلاحقه كجزء منه ومن حقيقة ذاته وأحد مكوناته التي شكلت ماهو عليه الآن، ولذلك قام شفارتس في أول خطوة للخلاص من ماضيه وما اقترفه من قرارات خاطئة بتفريغ ذاكرته، برمي هذا العبء الثقيل عن كاهله في محاولة أخيرة بائسة لترتيب أولويات قيمه وخلق معنى جديد لحياته بعد رحيل زوجته، ولكن في الوقت ذاته أراد أن يحفظ جزءا من ذلك الماضي، وهو صراع زوجته المتمثل فيما بذلته وضحت به من أجل خلاصه، إذ كان يخشى ضياع ذلك الجزء المقدس من ماضيه وعليه قرر أن يحفظه عند شخص آخر يبقيه في ذاكرته كامتنان بسيط يقدمه لزوجته بأن يبقي ما قامت به حاضراً حتى وإن كان في ذاكرة شخص آخر.
وفِي ذلك انتصار مبطن للحب كقيمة عليا على حساب الخلاص الجسدي حيث خسرت الشخصيتان شفارتس الأول والثاني حياتهما بالرغم من نجاتهما الجسدية، وخواء المعنى منها بعد خسارتهما لمن يحبان.
يبدو أن العودة هي قدر شفارتس دائماً، ومحاولته لتصحيح خطئه في ترتيب قيمه وأولوياته. حتى وإن كانت مهمته مستحيلة الا انها الخطوة الوحيدة لخلاصه وإضفاء معنى لحياته مرة أخرى، فالعودة الأولى التي لم يخبر بغرضها صراحة كانت من أجل زوجته إذ بالرغم من خلاصه الجسدي كان يشعر داخليا بالخواء وغياب المعنى والمشاركة والألفة، أما قرار عودته الأخير كان من أجل ما ضيعه من عمر دون الالتفات لتلك اللحظات الحميمية البسيطة مع زوجته وتعويضه بالانتقام لمن كانوا السبب، فثيمة الحب تظهر دائماً على طول الرواية وفِي لحظات قصيرة لكنها دائماً تشير للدور الكبير الذي يلعبه في تسيير حياة الفرد وتشكيل معناها.
لا يمكن تجاهل التطابق الكبير بين شفارتس الاول والثاني وكأن جميع الأفراد في حالة الشقاء سواسية، فعلى مدى سرده يؤكد شفارتس لمستمعه بين فترة وأخرى تشابه المسيرة التي قطعاها والمدن التي مرا بها وتشابه الأحداث بين حكايتهما وكأن شفارتس يحاول بشكل غير مباشر تحذير مستمعه الذي سيحمل هويته ويكون شفارتس آخر عن أخطائه ليتفادها إذ إنه كان على بعد خطوة متقدمة عن مستمعه وعالماً بقدر الآخر عن طريق علمه بقدره هو، وكأن التشابه في الهويات يتجاوز ماهو مدون في الأوراق، وأن حتى أقدارهم متطابقة، إلا أن مستمعه عن غير قصد يفوته كل ذلك بسبب موقفه اليائس والأمل بالذهاب لأميركا الذي يعميه عن ترتيب أولوياته بشكل سليم، وما جرى عليه في نهاية الرواية يؤكد هذا الشيء.
الطريقة التي تمكن بها ريمارك من الدمج بين هذين الصراعين أعطى تناغما متسقاً بين صراع خشن متمثل في الخطر الجسدي والتعذيب والفرار، وبين صراع آخر نفسي ناعم متمثل في العاطفة والمشاعر كمحرك داخلي يحول بين الفرد وقراراته، بالإضافة إلى ثيمات أخرى كالإيمان بالرب، والبيروقراطية، وماخلفته النازية من انهيار لأحلام الناس وتشبث يائس بأمل غير مبرر، كل هذا أنتج عملا روائيا في غاية الحميمية.
 عن: الحوار المتمدن