ساحة التحرير.. خيام تقف في وجه السلطة وأغنيات  وكرة قدم وشوربة صباحية

ساحة التحرير.. خيام تقف في وجه السلطة وأغنيات وكرة قدم وشوربة صباحية

 فاضل النشمي
قبل نحو شهر، لم يكن في ساحة التحرير أكثـر من تسعين خيمة، ينام فيها المعتصمون. كان عدد الخيام يكفي ويفيض، ليس لأن أعداد المعتصمين قليلة، إنما لأن أعداداً منهم تفترش الشوارع والأرصفة وتلتحف السماء. فطقس العراق في شهري تشرين الأول ومنتصف تشرين الثاني تطيب نسائمه ويرقّ هواؤه، لذلك كان الشباب لا يكترثون كثيراً لمسألة النوم، فحيث ما تسهد عيونهم يمكن أن يغمضوها.

أما مع حلول النصف الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر والنصف الأول من شهر كانون الأول ومع الانخفاض المتواصل في درجات الحرارة، أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، لذلك بدأ منذ نحو ثلاثة أسابيع يزداد باطراد عدد الخيام وربما تجاوزت الـ250 خيمة.
عند مدخل الساحة من جهة شارع السعدون نصبت خيام جديدة وامتدت لتشمل جميع مقتربات الساحة تقريباً، في الشارع المؤدي إلى ساحة الطيران والآخر المرتبط بساحة الخلاني، وفي نفق التحرير الذي كان خالياً تماماً.
خيام تتوزع في كل مكان من الساحة على أمل أن تقي المعتصمين ولو بدرجة معقولة برد الشتاء وأمطاره التي لم تتساقط لحسن الحظ بغزارة حتى الآن ما قد يؤدي إلى انسحاب المعتصمين اضطراراً، وهي أمنية غالية على قلوب السلطات وأتباعها على أي حال.
في جو تقل درجة حرارته ليلاً عن 8 درجات مئوية، تغدو الأمور صعبة على مواطني المناطق الحارة مثل العراق، إذ أنهم لم يألفوا البرد وصيفهم تزيد درجة حرارة بعض أيامه على الخمسين درجة.
مع ذلك، وهذا ربما أحد أسباب مطاولة "شباب تشرين" وصمودهم لأكثر من شهرين في ظل أقسى الظروف، يكاد لا يسمع المار من هناك وحتى في هذه الساعة المتأخرة من الفجر عبارة تذمر واحدة، وإن سمع فقد تتعلق بنقص التجهيزات أحياناً أو عدم المعرفة الدقيقة بالوقت اللازم للبقاء في الساحات لتحقيق المطالب.
ليست جميع الخيام مخصصة للنوم. بعضها للمؤن وآخر لمعدات الطبخ، وثمة خيم مخصصة للطبابة ومعالجة المرضى. لا عدد ثابت بالنسبة لسكان الخيمة. أحياناً يكثر ليزيد على العشرة في الخيم الكبيرة، ولا يتجاوز الثلاثة أو الأربعة في الخيمة الصغيرة. بعض الخيام من النوع الصغير الذي يتسع لشخص واحد للمبيت ونادراً ما تجد وسائل التدفئة في الخيام. بعض الشباب يعمدون إلى حرق الأخشاب في الشارع أو قريباً من الخيمة للتدفئة والتخلص من الإحساس بالبرد ولو إلى حين.
أثناء دخولنا ساحة التحرير بحدود الساعة الثانية فجراً شاهدنا أربعة فتيان، بملابس شبه صيفية، يرقصون بمرح على أنغام موسيقى أغنية حماسية حول المظاهرات وانتفاضة الشباب من النوع الشائع جداً هذه الأيام. في إحدى الخيام سمعت مجموعة من الشباب يرددون على وقع آلات إيقاعية أغنية شهيرة لمطرب محلي. حاولنا الدخول والسلام فلم أفلح. كانت (أبواب) الخيمة مغلقة بإحكام تلافياً للبرد. عند مدخل ساحة التحرير واجهتنا عبارة "أنا أحب التحرير" كتبت بالحروف الإنكليزية ووضعت مؤخراً في الساحة. وقفنا عند منتصف اللوحة من الجهة المقابلة وقمنا بالتقاط مجموعة كبيرة من الصور على أمل أن تكون إحداها قابلة للنشر. لفت الحاحي أحد الشباب الواقفين، فسألني قائلاً: "لماذا تلتقط هذا العدد الكبير من الصور؟"، لم أشرح له وباغته بسؤال آخر: هل أنت خائف؟ فرد لا طبعاً ولماذا أخاف. كان تقديري أنه تعرض للإحراج فاضطر ليكذب، فمسألة التقاط الصور من قبل الغرباء لا تحظى بالترحاب دائماً في ساحة التحرير نتيجة خشية كثيرين من أن يكون المصور أحد عناصر الأمن أو أفراد "الطرف الثالث" كما يسمونهم. عقب سؤالي بادرته مبتسماً: لا تخف عزيزي إنما أنا صحافي وأعمل على قصة عن ساحة التحرير في هذا الوقت من الفجر. فضحك هو الآخر بين مصدق وغير مصدق وطلب أن نلتقط معاً صورة للذكرى!
بعد ذلك، ذهبت إلى خيمة تحت نصب "الحرية" فيها أصدقاء "ثوريون". بعد التحية والسلام والحديث الصاخب عن الثورة ومآلاتها، طلبت من أحدهم أن يصحبني بجولة في الساحة وصولاً إلى المطعم التركي أو ما بات يعرف بـ"جبل أحد".
عند استدارة ساحة التحرير المؤدي للجبل، شاهدت مجموعة من الشباب وهم يلعبون كرة القدم، وعلى بعد أمتار قريبة منهم ركن شاب متبرع سيارته "الكيا" وقام بتوزيع حساء العدس (الشوربة) على المارين.
سألني رفيقي: هل أجلب لك صحن شوربة؟ أجبت: سيكون من المناسب جداً أن تدفئ أحشائي بصحن ساخن. ذهب مسرعاً وجلب صحنين، التهمناهما على عجل وتوجهنا إلى المطعم التركي.
خلال سيرنا، لم ينس صاحبي أن يشرح لي أن السيارات عموماً، وهي قليلة أصلاً، لا تدخل إلى الساحة إلا بموافقة المشرفين فيها من المعتصمين. طبعاً ضمنها سيارة صاحبنا أبو الشوربة!
عند مدخل "جبل أحد" بدت الأمور بالنسبة على أقل تقدير ليست بالسهولة المتوقعة، رفيقي كان يعرف، لكنه اضطر تحت إلحاحي أن يأخذني على قدر عقلي! على البوابة حراس لا يسمحون بصعود أحد وخاصة الغرباء منهم إلى الطوابق العليا. لكن لحسن الحظ ولوجودي مع رفيق "ثوري" ومعروف لديهم سمح لنا بالصعود إلى الطابق الرابع فقط، مما أتاح لي التقاط صورة لساحة التحرير التي بدت لي كشجرة عيد ميلاد من هناك.
عند عودتنا شرح لي صاحبي أن الإجراءات المتخذة ضرورية لاعتبارات عدة، منها منع دخول المندسين وجماعات "الطرف الثالث" وعدم التطفل على المتظاهرين الذين هم بحاجة ماسة إلى الراحة بعد يوم طويل وشاق من العمل والهتافات والتظاهر.
تفهمت الأمر رغم شعوري بنوع من خيبة الأمل لحرماني من الصعود إلى الطابق الرابع عشر والأخير من البناية. شكرت رفيقي "الثوري" ثم غادرت التحرير.