في ذكرى رحيلها في 12 كانون الثاني 1976..أغاثا كريستي في العراق

في ذكرى رحيلها في 12 كانون الثاني 1976..أغاثا كريستي في العراق

جبرا ابراهيم جبرا
في شهر نيسان من ذلك العام 1949 أقيمت حفلة تمثيلية باللغة الانكليزية في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب حاليا) وفي مناسبات كتلك كنت ترى حولك معظم مثقفي بغداد من عراقيين وأجانب لأن المدينة لم تكن بعد قد اتسعت كثيرا عمرانا وسكانا وكان المرء يشعر أنه يكاد يعرف كل من يستحق أن يعرف في المدينة وأنه بالمقابل معروف لديهم جميعا.

وكان أساتذة الكليات والخريجون الجامعيون (القلائل بالنسبة لما تحقق بعد ذلك بعشرين سنة) تجمعهم بأعداد كبيرة المناسبات الثقافية كالمحاضرات العامة أو المعارض الفنية (على ندرتها) أو حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي تقدمها الفرقة السمفونية العراقية الناشئة أو المسرحيات التي تقدمها بوجه خاص الفرق الزائرة وفي تلك الحفلة في فترة الاستراحة خرجت مع رفيق لي إلى قاعة المرطبات كغيري من المتفرجين وإذا نحن أمام مالون وزوجته نشرب القهوة لم تكن البيبسي أو الكوكاكولا قد دخلت العراق بعد.وعلقنا على ما رأينا من تمثيل تعليقا عابرا وتسألنا عن نقطة أو نقطتين ولما عدت إلى الكاونتر لأضع عني فنجان القهوة قابلني دزموند ستيوارت وسألني متفكها هل وجدتم حلا للجريمة؟ لم أفهم قصده وقلت أية جريمة؟ أجاب: جريمة من اختراع السيدة التي رأيتك تتحدث أليها.
فقلت: أسف لا أفهم قصدك.
قال: ألم تكن تتحدث إلى اغاثا كريستي؟
أدهشني سؤالك وحسبته مازال يتندر وقلت ببساطة: كنت أتحدث إلى ماكس مالون وزوجته وهتف ظننتك تعلم المسز مالون هذه هي كاتبة الروايات البوليسية أغاثا كريستي.
-. مستحيل!!.
-. أذهب أليها وتأكد..ولكن أفراد الجمهور بانتهاء فترة الاستراحة كانوا قد عادوا إلى مقاعدهم في المسرح وعدت إلى مقعدي وأنا لا أصدق ما سمعت أهذه حقا أغاثا كريستي التي قرأت لها الكثير من الروايات البوليسية منذ سني حداثتي أزورها وأناقشها ولا يخطر ببالي لحظتين أنها أمسكت يوما قلما بيدها لم استطع متابعة النصف الثاني من المسرحية في انتظار نهايتها وبدت كأنها لن تنتهي إلى ان أسدل الستار أخيرا وتحرك الناس مغادرين مقاعدهم بعد التصفيق بينما تركت رفيقي وأسرعت من بينهم باحثا على المسز مالون إلى أن لمحتها عند الباب الخارجي واقفة مع زوجها بانتظار سيارتهما ذهبت أليها وسألتها مباشرة , هل أنت حقا أغاثا كريستي؟ ضحكت السيدة الفاضلة وأجابت ببساطة , نعم. قلت: يؤسفني جدا أنني لم أكن اعلم بذلك. قالت: أحسن! أحسن! متى تزورنا في نمرود؟.
بعد ذلك عرفت أن مؤلفة الروايات البوليسية المشهورة كانت قد احتفظت بالاسم الذي اكتسبته منذ ما قبل العشرينات عن زوجها الأول الكولونيل كريستي وبعد أن هجرها ثم مات كانت شهرتها أوسع من أن تجعلها تتنازل عن هذا الاسم كلما أصدرت رواية أخرى من رواياتها التي راحت تتوالى بانتظام وسرعة تترجم إلى لغات العالم , وتدر عليها أرباحا طائلة , ولما تزوجت العالم ألآثاري ماكس مالون بعد لقائهما في العراق وبالتحديد في أور أخذت ترافقه إلى أقطار الشرق العربي حيث كان يعمل وقيل أنها كانت تنفق من أموالها الخاصة على بعض مشاريعه الأركيولوجية وجعلت من بعض تجارها في هذه الأسفار خلفيات لعدد من " الجرائم " المثيرة في رواياتها التي كان يحل ألغازها بين الحين والآخر البطل الذي ابتدعته لأول مرة عام 1920 المفتش البلجيكي هركيول بوارو – كما في جريمة في قطار الشرق السريع (1934) و موت على النيل (1937) وغيرها.
وكان الموسم الذي تقضيه مع زوجها في العراق منذ سنوات يبدأ في أواخر الشتاء وينتهي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة في أواسط الربيع. ولم تكن تطيل البقاء عادة ببغداد , بل تفضل الوجود بين الحفريات وتلالها وأكوام ترابها. والعمال والباحثين واللقى الثرية التي يعثرون عليها بين أونة وأخرى. وهناك تكتب وقد عزلت نفسها بشكل غريب وغير متوقع عن المدينة المعاصرة وحياتها لتحيا في جو العلاقات والأماكن والشخصيات التي يختلقها خيالها بعيدا عما يحيط بها كل البعد , مكانا وزمانا وأناسا , بحيث بقي عالمها الروائي عالم سنوات العشرينات بل شكلا معينا منه رفضت أن تغير شيئا فيه , رغم التغييرات الكاسحة والسريعة التي عرفتها المجتمعات والعادات في لندن وعواصم العالم كلها طوال الثلاثينات والعقود التالية ذلك لأنه العالم الذي يخدم حاجتها الخيالية الملحة عليها استطاعت أن تجعل منها متعة مطلقة ولعبة ذهبية مثيرة. للملايين من الناس. وقد قرأت لها أيامئذ روايتين تقع أحداثهما في العراق. هما , جريمة في وادي الرافدين و جاءوا إلى بغداد فوجدت أن الأجواء والشخصيات في كليتهما لا تختلف كثيرا عنها في رواياتها الأخرى ذوات الخلفيات الانكليزية اللهم باستثناء بعض الوصف لأسواق البصرة في الواحدة وبعض الوصف لفندق " زيا " وصاحبه ببغداد في الثانية فهي لا تدعي أن همها في ما تكتب هم اجتماعي أو سياسي أو تسجيلي أنما هي الحبكة البوليسية البارعة تطالبها بتحريك شخوصها ضمن حدود لعبتها الذهنية الأساسية ولا يبقى للجو المحيط بالحدث شأن يتعدى ما يقدمه من دور الخلفية غير المحددة لهذه اللعبة. التي تكاد تكون رياضية صرفا في تركيبها ومنطقها على العكس بالضبط مما فعل دزموند ستيوارت في سنوات الخمسينات وما بعدها في رواياته التي تجعل أحداثها في العراق ثم لبنان وأخيرا مصر فضلا عما فعله في متابعة الخلفيات المكانية المتباينة جدا في ثلاثيته السلالية تعاقب الأدوار.
عند وصولنا إلى موقع الحفريات. استقبلنا روبرت هاملتون بحرارة وبدأ في حالة غريبة من الإثارة والفرح وبادرته بالقول بأنه على غير حاله المعتاد فقال وهو يقتادنا إلى بقعة من العمل طبعا لقد عثرنا هذا الصباح على لوحة (ستبلا) هائلة انها صور شلمانصر الثالث واقفا بامتداد قامته ها هي أنها تحفة , تحفة ثمينة جدا أتريان هذه الرموز هذه الكتابة. كان شلما نصر الثالث أبن أشور ناصر بال الثاني الفاتح الكبير الذي نقل العاصمة من مدينة أشور إلى نمرود في القرن التاسع ق. م وكان أول من دأب على تخليد أعماله في جداريات من النحت الناتئ في الرخام المحلي وقد حفرت ببراعة مذهلة بتفاصيلها الدقيقة لكي تبطن جدران القصر وأروقته بمساحتها الكبيرة المسترسلة إضافة إلى التماثيل الضخمة وأستمر أبنه على غراره بحيث امتلأت نمرود بأعمال فنية متفردة تصور حياة تلك الفترة ومنها العاجيات البديعة النقش التي اكتشفت الكثير منها ماكس مالون في بئر عميقة في ركن من أحدى باحات القصر يبدو أنها كانت قد ألقيت فيها. حفظا لها من أيدي الأعداء عندما هاجموا المدينة.
لم تكن اللوحة الرخامية التي اكتشفت ذلك الصباح كبيرة ولكنها في حالة ممتازة فضلا عن دقة وجمال نحتها والتراب مازال عالقا على حوافها ومما كدت أمد يدي طالبا لمسها حتى منعني هاملتون هاتفا. لا , لا أرجوك! يجب معالجتها علميا قبل أن يلمسها أحد.
سألته مازحا عن قيمتها فأجاب. لا تثمن بمبلغ.. مليون دينار على الأقل وستكون في الأرجح من حصة المتحف العراقي ببغداد. في هذه الأثناء جاءنا ماكس مالون مبتهجا ومنفعلا كزميله , وقال " أنتما أول مشاهدين علمائيين لهذه اللقية المدهشة والآن تفضليا معنا فالمسز مالون في الانتظار.
وتحت ظليلة معدنية السقف ممتدة وجدنا أغاثا كريستي ومعها سكرتيرتها و اثنان أو ثلاثة آخرون من الأركيولوجيين من ضمنهم الأستاذ وأيسمن الخبير بالمسماريات , وكان قد قرأ الكتابة المنقوشة في لوحة شلمانصر. وتبين أنه يقرأ النقوش المسمارية كمن يقرأ العربية أو الانكليزية وكانت الروائية الكبيرة قد هيأت الشاي الانكليزي مع شيء من الحليب البارد و المعجنات و الزبدة و المربى كأية سيدة في منزلها في لندن. وشاركناهم جميعا في الاحتفال باكتشاف مهم آخر يضيف تفصيلا جديدا إلى معرفتنا بتاريخ هذا الوادي العظيم.
ويومها رأيت الغرفة الصغيرة المبنية من اللبن المجفف بالشمس التي جعلت منها أغاثا كريستي كتبتها وملجأها بين الأطلال وتماثيل الثيران المجنحة والجداريات الرخامية المنحوتة التي كانت بعض بقايا القصر الملكي وعلى مرأى من رأس مرمري هائل الحجم ملقى على الأرض قال مالون أنه كان من أول ما اكتشف لايارد من تماثيل هناك عام 1945 حين راح العمال الحفارون يقفزون ويتصايحون حال أخراجه من التراب قائلين أنهم اكتشفوا رأس نمرود الجبار.
ولا بد من القول أنني يوم زرت نمرود للمرة الثالثة أو الرابعة في صيف عام 1986 أي بعد هذه الزيارة بخمس وثلاثين سنة وفي عز الشمس " آب اللهاب " مع أعضاء رابطة نقاد الفن في العراق أصبت مع زملائي بالنشوة القديمة نفسها لرؤية بقايا تلك المنحوتات المذهلة أبدا. وزرنا غرفة مغلفة فتح لنا بابها الخشبي البدائي احد حراس الموقع. وإذا هي غرفة أغاثا كريستي الصغيرة إياها وقد حفظت كما كانت في الأربعينات والخمسينات وقد جعلتها المؤلفة غرفة انكليزية رغم ضيقها الشديد بما فيها الموقد الانكليزي (فايريلبس) مع رفه التقليدي (مانتل بيس) وفي الموقد تحرق الاحطاب في الليالي البارد ة وهي تخترع ضوء مصباح نفطي تلك التداخلات والعلاقات الخفية والظاهرة في جرائم تجعل لحبكتها المعقدة سحرا يتخطى الزمان والمكان. وأغلب الظن أنها في ربيع تلك السنة بالذات (1951) كتبت في تلك الغرفة الطيفية الصغيرة مسرحيتها التي سمتها (المصيدة) والتي أفتتح موسمها بعد ذلك بسنة واحدة في لندن. فنجحت نجاحا عجيبا وبقيت فيما بعد تمثل كل ليلة طوال خمسة وثلاثين عاما. فحطمت كل رقم قياسي في العالم بهذا الشأن.
في أوائل الستينات وقد تخطت الكاتبة السبعين من عمرها وكانت زيارتها لبغداد قد جعلت تتناقص سألتها يوما كم رواية كتبت حتى الآن؟ فقالت: أحصيتها منذ مدة فوجدت أنها اثنتان وخمسون رواية. ولكنني قبل أيام قرأت مقالة عني أنني كتبت ستة وخمسين رواية أعتقد ان صاحب المقالة أقرب إلى الصواب مني , ثم أضافت مستضحكة. في الواقع , عندما تتخطى الرقم الخمسين لا يعود للرقم أهمية.
فقلت: سيدتي المهم هو أن يكون لدى المرء دائما ما هو جديد يريد أن يقوله ويستحق القول وعندما سألتني بمكر لطيف وأنت كم كتابا كتبت حتى الآن؟
هززت رأسي ضاحكا ولم أجب.
عن: ج. الجمهورية 1985