يوسف إدريس وصورة الآخر

يوسف إدريس وصورة الآخر

محمد حافظ دياب
بدأ التوجه الى معرفة الآخر الغربي في الكتابة لدينا منذ مفتتح القرن الماضي عبر مقاربات الرحلات العربية، التي ساءلت وأولت هذا الآخر، وهيأت لولادة "مبحث الصورة" Imageologie في أدبنا الحديث. هكذا حظي موضوع العربي في الغرب بأعمال قصصية، عبر تطور فن القص في هذا الأدب، منذ رواية طه حسين "أديب" عام 1935، ورواية توفيق الحكيم "عصفور من الشرق" عام
1938 ،

وقصة يحيى حقي "قنديل أم هاشم" عام 1944، وان لم تتوقف مداومته بعدها لدى القصاصين العرب، من بين هؤلاء، أسهم يوسف إدريس بمعالجتين لهذا الموضوع في قصتين، تفصل بينهما أحدى وعشرون سنة:
أولهما "السيدة فيينا" المنشورة 1959، والثانية "نيويورك 80" الصادرة عام 1980. واختيارنا لهاتين القصتين صادر عن كونهما يمثلان انحرافا عن شبه الاجماع في رؤية الآخر، والتي بدت مع أعمال الرحلات العربية مفرقة في ابتعاث استيهامات خلخلة الاصطدام الحاد بالغرب، أو مثقلة بالكنائية allégorique، القائمة على المفارقات الانثروبولوجية والتأسيس على "النحن" و" الهم " أو الحديث عن "أزلية " الصراع بين الشرق والغرب على نحو يلغي تاريخيته، أو غياب الاحساس به بتجريده من طابعه المتوتر، واسباغ أناقة المبارزة الارستقراطية عليه، وكلها ملامح تبدت في أعمال الاربعينات والخمسينات القصصية.
دليلنا على ذلك، أن قصتي إدريس يعلنان التبرم من الصياغة التقليدية، التي تعهد بطرفي العلاقة (شرق/غرب) الى الفئة المثقفة، فيكون فيها العربي طالبا مبعوثا الى الخارج للدراسة، والمرأة الغربية زميلة له في الغالب، اضافة الى اتساع رقعة القصتين ما بين فيينا ونيويورك، بما يخرج بهما عن الجغرافيا المعهودة (باريس - لندن) ليضاعف من انتاج دلالتهما.
كيف تتحدد معالم موقف إدريس من هذه العلاقة كما تجسدها القصتان ؟ ما هي التقنيات الفنية التي آزرت طرح الكاتب ؟ وهل كان لسياق السنوات الاحدي والعشرين الفاصلة بين القصتين ردة فعل من رؤية الكاتب ؟ ان هذه الاسئلة ومخارجها، هي التي تشكل قلق وطوح هذه المساهمة، والصعيد الذي تطمح الى الوقوف فيه.

من فيينا الى نيويورك:
ونبدأ بالقصة الأولى "السيدة فيينا" حيث "درش" البطل موظف حكومي، له زوجة وابن صغير يحبهما، أرسل ضمن وفد في مهمة رسمية الى أوروبا بضعة أيام. وهو مولع بالنساء، وصاحب خبرة ومغامرات في هذا المضمار. لكنها محصورة في نساء بلده. صحيح أنه جاء الى أوروبا في مهمة رسمية، إلا أنه لم يكن لديه سوى مأرب واحد: "أن يجرب المرأة الأوروبية"، و" أن يغزو أوروبا المرأة". يتجول درش في شوارع فيينا مبهورا بجمال النمساويات اللاتي: "فيهن تتركز روح أوروبا". على أنه لا يسعى وراء أي امرأة أوروبية، فهو مصمم الا يكون له شأن بفتيات الشوارع المحترفات، انما يريد اللقاء: "مع سيدة أوروبية أصيلة ذات شخصية، تريده هو ولا تريد نقوده، وتعطيه نفسها بإرادتها" . انه يطلب أكثر من اللقاء الجنسي، فبغيته هي معرفة الآخر الأوروبي. وحين تموج الشوارع في فيينا بالبحارة الامريكيين. فانه لا يخشى منافسة منهم، لأنه يعلم أن طلبتهم "أوروبا العابثة" أما هو. "فيبحث عن اوروبا السيدة".
بعد محاولات فاشلة ومع ليلته الأخيرة بالمدينة، ينجح درش في مسعاه فيحصد ثمار الصبر والجسارة والخبرة في المغازي النسائية، حين يجتذب سيدة نمساوية جميلة ومحترمة، يلتقيها في طريق عودتها الى دارها، فيتوجهان معا اليها ويعرف أن لها أسرة من زوج مسافر في رحلة عمل وطفلين. لكن الحيرة تتولاه في أمر هذه السيدة طيلة الفترة التي يقضيانها. انه غير واثق من أفضل سبل التعامل معها: "هذه المرأة تكاد تفجر عقله من الحيرة، لم يعد يدري ن كانت شيطانا أم ملاكا، ساذجة أم ماكرة، تضحك عليه أم هي معجبة به، وتحيره ابتسامتها التي لا معنى لها. وهزة كتفيها التي قد تعني لا وأيضا تعني نعم".
تبدو تفاصيل الموقف في ظاهرها محملة بنبرة الشك وعدم الثقة التي تطبع العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب. وحين يضمها اليه ويقبلها للمرة الأولى، فانها تتأوه قائلة "ستكسر ظهري يا افريقي"، مخاطبة إياه بصفته العرقية المخالفة لعرقيتها. ويكشف تطور الموقف أن السيدة فيينا ليست أقل فضولا نحو "آخرية" autrite درش مما هو نحوها، فحماسها لاستكشافه يضارعه حماسه نحوها. تقول له: "اننا هنا في الغرب نسمع عن الشرق كثيرا، وعن غموضه ورجاله وسحره، وطالما داعب خيالي الأمير الشرقي الأسمر. داعب خيالي وأنا بنت مراهقة،وحتى وأنا متزوجة وأم. وحين رأيتك خيل الي أنني عثرت عليه وأنها فرصة العمر". لحظتها يدرك درش أنها تنتظر منه أن ترى فيه فحولة الشرق، فيصمم على حد عبارته ذات التضمين الجنسي أن: "يرفع رأس افريقيا والشوق عاليا".
ويمضي الكاتب في تطوير الموقف. على نحو يسعى به للتدليل على أوهامنا وتصوراتنا الخاطئة عن الآخر، وبالتالي انتظارنا منه أن يطابق صورته الزائفة لدينا، كل هذا من شأنه أن يعوق اللقاء الحضاري الحقيقي. وهكذا يوظف إدريس سلسلة من التفاصيل، تتم من خلالها وبالتدريج ازاحة الصورة الوهمية، المؤطرة، للمرأة الأوروبية وضمنا لحضارتها من ذهن درش، واحلال أخرى واقعية محلها. فحين يمسك بيدها، تسترعي انتباهه: "أصابعها الرقيقة، القوية من الضرب على مفاتيح الآلة الكاتبة حتما، فيشعر نحوها بلحظة زمالة غريبة تربطه بها". وعندما يلج شقتها، يصدمه ضيقها وانتشار أشياء مألوفة في أرجائها، ويشتد احساسه بالصدمة، ان لم نقل بالخيبة،عندما يدخل الحمام الصغير، فيلمح فيه حبل غسيل مشدود بين جدارين، مثل الذي تستخدمه زوجته في منزله، وتتدلى منه ملابس داخلية للأطفال. لحظتها يطرح درش على نفسه سؤالا يبدو ساذجا، الا أنه بالغ الدلالة: ما فائدة أوروبا اذن اذا كان ناسها يستعملون نفس الأشياء التي نستعملها؟". ان ما يصدم درش هو ادراكه أن الآخر عادي لا غرابة فيه. إنه في النهاية يضاهيه، ولا يمت بصلة الى الصورة المضخمة التي رسمها له في ذهنه.
وحين يراوده الذي في جسد السيدة عن نفسه، فانه يثبط، بدل امتلاك لحظة الارتواء. في البداية، وحين تجاوبه السيدة عاطفته الفائرة بمثلها، نراه يفرح قائلا لنفسه: "النساء في الشوق جثث لا نستطيع أن ننالهن إلا رغما عنهن. حتى لو كن يذبن غراما فيك. لا يرضيهن الا أن يؤخذن عنوة، ولكن المرأة هنا يا سلام: تقبلها فتقبلك، وتحضنها فتحضنك، تأخذها فتأخذك". لكن سرعان مايجفل من حيويتها وحماسها، ويسائل نفسه: "لماذا لا ترقد مستسلمة، وتدع له مهمة الرجل ؟ لماذا لا تتمنع قليلا ؟ ان التمنع يضفي على الأنثى أنوثة، ويكسب الرجل رجولة. وايجابيتها هذه الزائدة عن الحد تضفي على أنوثتها رجولة، وعلى رجولته سلبية الأنثى". ويبلغ في انزعاجه من تحقق تساؤله حد العجز عن القيام بمهمته، فلا ينجح الا حين يغلق عينيه ويتخيل زوجته.
بعد واحد وعشرين عاما من نشر "السيدة فيينا"، يعود إدريس الى الموضوع نفسه مرة أخرى في "نيويورك 80". تحكي القصة لقاء كاتب من مصر (يتوارى إدريس خلف قناعه) مع سيدة أمريكية في أحد الأماكن العامة بمدينة نيويورك، ويفاجأ بداية تعرفه عليها بقولها له: "أنا ممن يسمونهم
المومسات". ينزعج الكاتب، ويسائل نفسه، كيف لها وهي جميلة أن تبيع جسدها، كيف تضحى: "هذه التحفة معروضة للبيع" . تدرك ما يدور في خلده، فتجيبه "ولدت في غابة لم اصنعها انا ولكنها كائنه وموجودة". يدخل معها، هازئا، في حوار حول الثمن الذي تتقاضاه، فتجيبه بأرقام مضبوطة، وبحسب الوقت الذي عليها أن تقضيه. يتذكر القروش القليلة التي تحصل عليها فتيات الليل في القاهرة. وعبر تواصل الحوار بينهما، يكتشف أنها حاملة لدرجة الدكتوراة وعالمة في النفس واخصائية في علاج القصور الجنسي، وتظل تبرر له اتخاذها مهنة البغاء،لكنه يرفض امتهان الجسد، قائلا لها: "أنت في رأيي انسانة محترفة، لا علاقة لها بالاحساس أو بالشعور أو حتى بالانسانية". ولحظتها يتذكر ا`نه كاتب، وانه لابد ان يكون له رأيه في هذه "المسألة" فيستدرك: "اني لمشمئز من حضارة تصعد بسمو علمها الى القمر، ولا زالت تنحط بجسدها الى مدارك الرقيق الأبيض والأسود". تعرض عليه أن تقضي الليلة معه فيرفض: "أنت قطعة متخلفة عقليا، ألم تفهمي بعد أن المسألة الجسدية المحضة لا تعني أية متعة بالنسبة لانسان مثلي ؟" يغادر المكان عائدا الى الفندق، لكنها تتعقبه الى غرفته، وتعاود عرضها حتى لو دفعت له هي، لا هو يصمم على الرفض، فيكون حكمها عليه (وعلى الحضارة التي يمثلها استتباعا) ليس بأهون من حكمه عليها، اذ تسمه بأنه ما زال "طفلا عاطفيا ونفسيا". وتحاول أن تشرح له أن العلاقة الجنسية المحضة ليست الا دليلا على درجة من النضج لا يزال هو دونها. ولا تحسبنا بحاجة الى تبيان أن هذا الحديث عن العاطفة ونقصان النضج، يصبح على الشرق وروحانيته ومثاليته، مقابل خسية الغرب وعقلانيته وعاديته. ينتهي الجدال القائم بين الرجل والمرأة حين تنهار وتفقد أعصابها بتأثير من حدة رفضه لها، فتغادره بعد مشهد صاخب لتنتهي القصة. نهاية مفتعلة بلا مراء، وبعيدة عن الاقناع. اذ أننا عاينا الطرفين طيلة الحدث على قناعة دوجماتية بنظرة كل منهما الى العالم. كما رأيناهما ندين في الجدال والمحاجة لا يعجز أحدهما عن الانتصاف لموقفه الحضاري بشتى التبريرات.

سؤال التواصل والتمايز:
يريد إدريس من قرائه أن ينظروا الى القصتين في سياق واحد، باعتبارهما تنويعتين للحن مشترك، يؤكد ذلك أنه حين نشر القصة الثانية "نيويورك 80" سنة 1980، أدرج معها في الكتاب نفسه القصة الأولى "السيدة فينا" التي سبق له نشرها سنة 1959، محرفا عنوانها الى "فيينا 60"، في محاولة منه لمحاكاة عنوان القصة الثانية، ولفته النظر الى المساحة الزمنية بين تاريخي كتابتهما، ومع ذلك ورغمه، فواقع الحال في القصتين يشي بتمايز النظرة الى الآخر عبرهما:
فعن "السيدة فيينا" يوحي مقول القصة أن أي حضارة لا يمكن أن تحقق ذاتها في مواجهة الآخر، سوى بالقبول الكامل بالذات وهو ما نستبينه بالأخص حين يذكر إدريس أن بطله درش لم يستطع أن يكمل مضاجعته للسيدة النمساوية، الا حين أغلق عينيه وتخيل زوجته. وتتأكد هذه الرؤية كذلك، اذا أخذنا في الاعتبار وجهة نظر هذه السيدة، فبعد أن يفرغا من الفعل الجنسي، تلتقط صورة زوجها وتلثمها، ثم لا تلبث أن تقول لدرش الناظر اليها في ذهول، انها طوال رقادهما معا كانت تفكر في زوجها: "لم أكن أعرف أنه رجلي الافريقى الذي كنت أبحث عنه".
لا مندوحة أن ادريس يحاول بذلك أن يكون متوازنا ومنصفا في تصويره طرفي معادلة الذات والآخر، إلا أنه يؤكد رؤيته في الوقت نفسه، وهي الرؤية التي يلخصها المبدأ الباختينى شديد البساطة: "اننا نخفق في النظر الى أنفسنا ككيات، ولذا فإن الاخر ضروري"، وهو عين المبدأ الذي يجسده ادريس من أن تصوراتنا الزائفة أو المبالغ فيها عن حضارة ما أخرى، تنبع من العمق من تصور فهمنا لحضارتنا نحن، وأن لقاء صادقا بين حضارتين لا يمكن أن يكتمل قبل الادراك الصحيح لامكانات الذات أولا.
على أن هذه الرؤية المتوازنة سنميع تماما في «نيويورك 80» ليحل محلها علاقة مثقف شرقي متعال بإزاء الغرب، يظهر بتعففه ازدراءه له وتعاليه عليه، في صورة حادة الاستقطاب وعدم التماثل بين "الأنا" و "الأنت". ففي "نيويورك 80" بعكس «السيدة فيينا»، لا نفاذ مع الآخر، بل حفاظ كل من الطرفين على موقعه وقناعته. هل ترده الابداع يمشي بعد فترة ضد انتساب الكاتب الأول ؟ أم أنه تحول جغرافيا الحدث من أوروبا في "السيدة فيينا" الى امريكا في "نيويورك 80"، قد استتبعه التحول في رؤية الكاتب ؟ على معنى أن أمريكا تمثل أبعد نقطة في الغرب مكانيا وحضاريا، وأن أقسى القيم الغربية وأبعدها عن أن تكون مقبولة تتمثل في الوجه الأمريكي للحضارة الغربية وليس في أوروبا فتلك الأخيرة أقرب الى الشرق، وهي مثله جزء من العالم القديم، أو بتعبير توفيق الحكيم: "بنت آسيا وافريقيا اللتين ارتبطتا بالزواج في طور من أطوار التاريخ، وأنتجتا مولودا جديدا".
على أنه يمكن استيضاح تحول رؤية الكاتب في طبيعة شخصيات القصتين: ففي "السيدة فيينا" يقع اللقاء بين امرأة عاملة محترمة وربة أسرة تمثل روح أوروبا وبين شخصية مصرية نمطية تمثل روح الشرق. أما في "نيويورك 80" فالغرب تمثله بغي شديدة الفخر بمهنتها، على حين أن الشرق يمثله كاتب ومفكر وكأنما يريد ادريس أن يضمن نوعا من الندية بين بطلي قصته، فيما ينغمسان فيه من جدال، فنراه يؤهل المرأة فوق ما هو اعتيادي من حرفتها، فيجعل منها حاملة درجة دكتوراة وعالمة في النفس واخصائية في علاج القصور الجنسي، إلا أنها تنبذ هذا كله بمحض ارادتها، وتمتهن بيع جسدها لأن عائده المادي أكبر. لا يملك المرء هنا إلا أن يتساءل عما إذا كان الرمز الى أوروبا بشخصية امرأة محترمة، مقابل الرمز الى أمريكا بعاهرة محترفة، لا يشير على صعيد دلالي ضمني الى أن نظرة الكاتب الى أوروبا، بوصفه شرقيا، لا تتطابق مع نظرته الى أمريكا، على معنى أن أمريكا تمثل لديه حضيض المادية الغربية والابتذال القيمي، على نحو لا يبرز في تصويره لأوروبا. لعل الأمر يتضح أكثر اذا واصلنا تحديد وجه أخر للتمايز بين القصتين، وبخاصة ما يتصل بقلب الأدوار الجنسية / الحضارية. فقد رأينا في "السيدة فيينا" أن الطرف الفاعل المبادر كان درش، الذكر الشرقي، فيما الأنثى الأوروبية تجاوب حماسه بمثله.. أما في "نيويورك 80" فالعكس هو القائم، حيث المومس الأمريكية هي التي تطارد البطل الشرقي مطاردة حثيثة، حتى يؤول الحال بها أن تعرض عليه شراء جسده منه، بدل بيع جسدها له. ورأينا أيضا في "السيدة فيينا" أن درش كان مصرا على الا يعرف أوروبا من خلال مومس، وفي "نيويورك 80" نجد البطل شديد الاشمئزاز من فكرة مقايضة المتعة بالمال. وليس من شك، كما يتبين من نسيج القصة أن رفض هذا المبدأ، انما هو كناية عن رفضه لحضارة مادية تجرد الناس من بشريتهم، وتحدد لكل شيء قيمه دولارية". فهل تخص رؤيه ادريس المتحولة الغرب الجديد (أمريكا) وحده، دون الغرب القديم (أوروبا)؟

الشعرية المتورطة:
كيفما كان الأمر، فلسنا فقط في القصتين قبالة حالة من التحول الفكري، بل بإزاء حالة من الالتباس التجنيسي الذي يبعدنا عن تعيين شكل الابداع القصصي لهما.
فللوهلة الأولى يمكن أن نعتبر "السيدة فيينا" قصة طويلة، على الأقل باعتبار نشرها ضمن مجموعة قصصية. أما "نيويورك 80"، فيضيف ادريس تحت عنوانها عبارة "رواية" وان جاز القول انها تتقنع تحت رداء شفيق من الروائية، لا يعدو أن يكون كساء لتغليف أفكار الكاتب المباشرة.
ان كلا العملين يوقعان أي محاولة لجنسيهما في حيرة، فالتجنيس بحد ذاته عملية اختزال، اضافة الى افتراضه أن تكون الأجناس المقارنة قابلة للمطاوعة، كي يمكن للنقد أن يحدد هويتهما. وهنا، وبخلاف ما يسجله الكاتب، يكاد الظن يدرجهما في اطار السيرة الذاتية Autobiographie تتسم عموما بواحدية الصوت، وعلو الذاتية، ورجحان الفكرة أو الرؤية الواحدة، لغلبة حضور صوت صاحبهما في انتاجهما، وفي صياغتهما، وفي منطق وعيهما بالذات والمجتمع والعالم وعيا ذاتيا. ومع ذلك ورغمه، فللمسألة قرون أخرى يجدر الامساك بها.

ولعل اللياذ بالأطر المرجعية، الظاهرة والكامنة، والتي استعانت بهما القصتان في معمارهما الفني، يقودنا للتعرف على تجربتهما الجمالية وهويتهما الأدبية. وهنا نجد أن القصتين يلتغمهما أكثر من إطار مرجعي: خطاب الأدب الشعبي، والخطاب الكرنفالي discours Carnavalesque أنه، وخطاب الدراما المرتجلة Commedia dell, Arte تؤازر كل منها أدوات فنية حينها توميء الى مرجعيتها.
فمن ناحية، وامتياحا من خطاب الأدب الشعبي، يلفت الانتباه تزايد وجود الكليشيهات والتعبيرات الجاهزة في القصتين، يقدمها الكاتب حين تأزف المناسبة، أما بغية تبيان الحالة النفسية للشخصيات في مختلف المواقف، من مثل قوله: "أصبح بعدها القرار في خبر كان..."، و "كم أخذ من مقلب..."، او بهدف التعليق التفسيري أو الجانبي على الأحداث، بمثل قوله: «هذا هو الشغل المضبوط..» وكلها عبارات يضعها الكاتب بين قوسين، ويسوغها في مختزلات كلامية شائعة.
ويلفت الانتباه كذلك لجوء الكاتب الى اعادة ترتيب الألفاظ وتغيير مواضعها من الجملة بما يخالف الترتيب النحوي المألوف من مثل قوله: "عجيب أمرها..."، "وفيهن تتركز روح أوروبا …" و"عضلاتك ليست لينة..."، و" فتاة كان تماما لابد يحبها..."، وذاك استخدام يشكل بعدا إدراكيا لوعي الكاتب بالمكونات المتشابكة لجزئيات صياغته، ويكثف المستوى الجمالي للتعبير، وهو ما يمثل إحدى السمات الغارقة لخطاب الأدب الشعبي.
ولعل دلالة تسمية الأبطال في القصتين هي التي توحي بالأوضح الى مرجعيتها في خطاب الأدب الشعبي، وان لوحظ أن سميولوجية التسمية فيهما تنطوي على قاعدتين متباينتين للاحالة الدلالية: ففي "السيدة فيينا"، جاء فعل الامتناع عن تسمية بطليها بمثابة اطلاق حرية لا محدودة، تفسح المجال أمام تأويلهما الى نمطين يمثل كل منهما حضارته. انه "داللامسمى l'innommable الذي يلغي الخاص الظاهر، ليحل محله العام المضمر، بواسطة استخدام الكنية بديلا عن الاسم. فالبطل يكنى بـ "درش" وتلك كنية مصرية لاسم "مصطفى" تصلح علما على المصريين بعامة. كما أن البطلة تكنى بـ "السيدة فيينا"، أي أنها تحمل اسم المدينة الأوروبية العريقة التي تمثل حضارتها، والتي لها حضورها في الابداعية المصرية. ولعل كون درش في القصة لم يشأ أن يتعرف على اسمها، ليس حذفا غير مقصود من قبل الكاتب، فكل منهما في عين الآخر ليس مجرد فرد، وانما ممثل لحضارة، وبهذه الكنية، لا يعدو الاسم الرسمي الذي أغفله الكاتب سوى هوية ظاهرة مقارنة مع الهوية الحقيقية التي تؤسسه وتخترقه، لدرجة تتحقق معها المطابقة الكاملة، فينبعث وهم الهوية بسبب هذه المطابقة، التي تحقق تداخل الكنية مع اسم الجماعة، فتوفر تلاحم الرابطة بين الفرد وجماعته.
أما في "نيويورك 80" فان تسمية البطلين تبدو واضحة: فالبطل اسمه "عوض"، والبطلة اسمها "باميللا جراهام" وكلا التسميتين بمثابة علامة، أو أيقون Icone عليهما، فاسم "عوض" يشيع في التصور الشعبي بمصر، وتتشظى حمولته المعتقدية والدينية ما بين التعويض عن موت سابقين، والايمان بما يأتي به الله وكذلك الأمر بالنسبة لاسم البطلة، فكل منهما يعيد ذاكرة موروثه الحضاري.
ويثير الانتباه هنا لجوء ادريس في العملين الى تذكير الشخصية الشرقية (درش في «السيدة فيينا»، وعوض في "نيويورك 80")، مقابل تأنيث الشخصية الغربية (السيدة فيينا في العمل الأول، وباميللا جراهام في الثاني)، وان قدم الأنثى الغربية على صورة من البوح والجهارة غير المواربين بالحياء، حتى ما يتصل بالفعل الجنسي.
ومن ناحية ثانية تبدو في القصتين كذلك ملامح من الخطاب الكرنفالي كما حددها ميخائيل باختين , M.Bakhtine وبخاصة ما يتصل بتعددية الأصوات وازدواجية القيم.
ففي "نيويورك 80"، يتضح ملمح "غيرية الأنا" alterité de moi التي تميز موقع ادريس من تواصله مع راوي القصة وبطلها. فالبطل مفكر وكاتب يتوارى ادريس خلف قناعه، وهو ما نستبينه في التفاصيل التي تنطبق على حياة ادريس وشخصيته، بل وملامحه. اذ يعطي بطله عينين خضراوين (لون عيني ادريس)، على ندرة ذلك بين المصريين الذين يفترض أن البطل يمثلهم نمطيا ان البطل هنا شاهد على كاتبه وراويه ادريس وهم جميعا يشكلون صورة واحدة، لكنها موزعة بينهم، تلك ازدواجية لا تحطم فضاء المعنى، بل تعمل على توسيع فضائه.
هناك كذلك وفي مسعى استيضاح ملامح الخطاب الكرنفالي في القصتين، بناؤهما من خلال "تركيبة حوارية" combinataire، بما تعنيه من صلة الذات بالأخر، وما توحي به من ازدواجية القيم بين الشخصيات، وان ازداد وضوح هذه التركيبة في "نيويورك 80"، حيث تسودها مقاطع حوارية مطولة الى حد الملالة في أحيان، تربط بينها مقاطع سردية.
اضافة الى هذين الملمحين، تسود الصور المعبرة عن المواقف الجنسية، حيث تراسل الحواس، والعزف على خوالج الجسد الأنثوي المسكون بهواجس الاثارة، وهو ما يوضحه قول الكاتب على سبيل المثال: "ظل يلامس رقبتها بشفتيه حتى أحس بجلدها يقشعر تحت لفح أنفاسه.."، أو "هذه الأفخاذ المسحوبه وكانها لفرس عربي أصيل، وكأنها منحوته مشدودة …".
ومن ناحية ثالثة، تتجل في العملين كذلك سمات من الدراما المرتجلة،كما عرفها المسرح الايطالي القديم، وهو ما يتبدى في سلوك الأبطال، وفي لغة التعبير: فارتجال الأبطال هنا يصب في مجرى انجازها لحدث غير مألوف، وخضوعها لاندفاع واحد لا غير، يستمد حضوره من تلقائية حدسية، كمحاولة لهدم الطقس الاجتماعي، عن طريق تفجير الدينامية الفردية، أو كاستعادة لهوية أساسية عبر محو المسافة أو غيرية المظاهر الرسمية..
أما ارتجال لغة التعبير، فيتمظهر في اغواء ادريس للغة، ما بين استعمال الفصحى (مثل قوله: "سادر في غيه..."، "ويستضاع العمل.."، و"دلف الى جوارها..") واستيعاب لغة التخاطب الشعبي (من مثل: "انت مكسح بدل أنت كسيح"، و" أنت مجعلص بدل سمين"، و"يترازل على الفتاة بدل يثقل عليها"، و"امرأة ستأتي بدل امرأة محافظة"، و" الكار بدل المهنة"...)، اضافة الى ايراده رطانة أجنبية (من مثل: مغنطته بدل جذبته"، و" الكونت جرسون بدل عامل المقهى"، و"التعبيرات السكس بدل التعبيرات الجنسية"…).
الأمر هنا يتجاوز حدود الجمع أو الخلط بين تقليدية الفصحى وعفوية العامية وعجمة الرطانة، لينطوي على توفيق فني تذوب في اهابه الحدود. انها غواية اللغة غير المقدسة، حين تفتح نفسها على التلقي، فتسمح للذين كابدوا سلطة اللغة المسيطرة، أن يكتشفوا لغتهم فيها وعبرها ومعها، كالشأن في الدراما المرتجلة.
وهكذا فإن تراوح الشكل في القصتين بين خطاب الأدب الشعبي والخطاب الكرنفالي والدراما المرتجلة، يرجح استنباط الاستنتاج القائل بأنهما يخترقان الصفاء النوعي للأجناس الأدبية المستقرة Les genres littéraires établis، وأنهما يستمدان البرهان عليهما من نفسيهما وغيرهما معا، وهو ما يتفق مع ما يذهب اليه باختين من: "ان الجنس الأدبي هو دائما نفس الجنس وآخر: جديد دائما وقديم في الوقت نفسه فهو يولد مرة ثانية، ويتجدد في كل مرحلة من مراحل التطور الأدبي، وفي كل عمل فردي".
ان مسألة الشكل ليست شكلية، بل معرفة موضوعها الشكل، أي بنية القول وان بدت صعوبة الكشف عن حوافر. تراوح الشكل في هذين العملين: هل هو قصدي؟ هل أنه اجراء استطيقي؟ أم حتمية ناجمة من تداخل أطره المرجعية ؟ أم ترده تراوح ادريس في نظرته نحو الآخر، فتراوح استتباعا تعبيره الفني عن هذه النظرة ؟
اشكالية التحول:
ويظل السؤال مطروحا: ما الذي حدا برؤية الكاتب الى اتخاذ هذا المنحى المتطرف في النظرة الى الآخر، خلال الواحد والعشرين عاما، فارق النشر بين العملين ؟
ان تأسيس علاقة بين قصتي ادريس بما هو خارجهما، عليها الا تتم وفق تزامن تقليدي، يتوافق فيه ايقاع التتابع النصي مع منطق التتابع السوسيوتاريخي أو الشخصي للكاتب، بل وفق منطق آخر يتأسس عبر علاقة تراكب لها استقلاليتها النسبية. انه تراكب التضاد، الذي لا يجنح الى المماثلة بين الابداع وفضائه الاجتماعي والتاريخي وشخصية صاحبه.
ذلك أن المسافة بين عامي 1969 و 1980 مكتظة بالتفاصيل وممهورة بالأزمات، والتحول ما بين العملين هو دالة هذه المسافة، بما يشي أن هذا التحول ليس عاطلا من الدلالة الشخصية أو التاريخية، لأنه من قلب هذه الدلالة.
ففي بداية نشاطه مع مقتبل الخمسينات، نظر ادريس الى العالم الخارجي كوطني غيور. كان هذا العالم يعني له أوروبا في المقام الأول، وبريطانيا بالأخص. ومثل مثقفين كثيرين في مصر والعالم العربي، توزع بين كراهية السيطرة الأجنبية على بلده، واعجابه بمنجزات الحضارة الغربية. وأدرك بوضوح،وان يكن بصعوبة، أن مصر والبلدان الناشئة الأخرى لو حصلت على نوع من الاستقلال السياسي والاقتصادي، فان عليها أن تكيف نفسها مع الأساليب والتكنولوجيا الغربية، وهو ما كان يبدو في حد ذاته اعترافا بتفوق الغرب.
وعقب ثورة 23 يوليو 1952، ساهمت كتابات ادريس الابداعية في المساعدة على صوغ ايقاع الحياة المصرية واستكمال مهاو الثورة الوطنية، لكن الصراع تفاقم في الستينات حول مستقبل التطور الاقتصادي والاجتماعي اللاحق، في ظروف تجاوزت فيها مصر مرحلة الاستقلال السياسي، وازداد الاحتكاك بين مصالح الشرائح المختلفة، وكان على الكاتب الذي تربى على مفاهيم الوحدة الوطنية قبلا، أن يقرر موقفا جديدا له، لكن الأمر لم يكن سهلا في ذلك الظرف المعقد، مما أدى الى نشوء أزمة روحية عند كثيرين من المثقفين، ومنهم ادريس. وكانت ارهاصاتهم في ذلك الحين تدفعهم الى رفض كل نوع من (الاكراه)، والدفاع عن حرية الفرد بمختلف اشكالها. هذه الأفكار والمفاهيم الجديدة أخذت تخترق وحدة وتكامل عالم ادريس ورأسماله الرمزي، فراح يحاول العثور على فهم جديه للواقع بنفي كل آخر داخله. وقبل وفاة عبد الناصر بشهور ثلاثة، كتب قصته (الرحلة) متنبئا فيها بموت هذا "الآخر الداخل". يقول الراوية الذي يحمل جثة أبيه في عربته: "وداعا يا سيدي يا ذا الأنف الطويل.. أنت الوحيد في الدنيا الذي كنت أخافه، كنت دائما هناك في بيتنا تربطني، تشدني... لماذا كنا نختلف ؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيي وأقبل رأيك ؟ لماذا كنت دائما أتمرد؟ لماذا كرهتك في أحيان ؟ لماذا تمنيت في لحظات أن تموت لأتحرر؟ ".
وحين سلمت السبعينات للثمانينات، كانت مصر تبدل ثوبها بمنظومة أخرى من قيم الانفتاح والاستقطاب الاجتماعي الحاد، واجهتها دوريات الماستر وكراسات المواهب الشادة، قبالة الأقلام المموهة بصمتها وزورها، وهكذا قذف شح مناخ الابداع، وضرورات الممارسة العملية للكتابة بادريس الى ايقاع السياسة اللجوج، والتعمد بمائها، فكانت مقالاته الصحفية التي أعتقد أن بمقدوره خلالها أن ينتقي من حروق الواقع ما يمكنه رتقه، لكن الحروق كانت تتسع وتمتد وتستعصي على الراتق.
وهكذا، ففي المسافة الفاصلة بين عامي 1969 و 1980 باخت المسرات، وبدا ادريس يبدل في وجهي حلمه، وفي اهابه يراوح نظرته للآخر. لقد تغير ادريس. اشتبكت المسافة الى عينيه بغبار اللحظة، وانقسم على نفسه بمزيج من الشجاعة والحذر والمجازفة، وباتت جدلية الذات والآخر لديه وكأنها عبء يسائل دوائر مخاطبتنا، داخل اشكالية حقيقية للأصالة والمعاصرة، مازالت بعد أسيرة شرط ولادتها.

ذات صلة