عفيفة لعيبي: جسد المرأة.. وسيط مادي للتعبير عن الفكرة

عفيفة لعيبي: جسد المرأة.. وسيط مادي للتعبير عن الفكرة

د.جواد الزيدي
على الرغم من الكتابات النقدية واشارات المنافذ الاعلامية الأخرى التي تم تسليطها على تجربة الفنانة العراقية عفيفة لعيبي ، الا أن هذا ليس كافيا وموازيا لحجم اعمالها على المستويين المعرفي والجمالي ، لأنها نهلت بشكل مباشر من تجارب عديدة عندما تتلمذت على يدي الريادات الأولى من الشكيلية العراقية التي تعلمت أيضا في مناطق منتجة للفن الحديث في العالم ،

وأخذت مباديء الرسم الأولى في معهد الفنون الجميلة لتتشكل مهاراتها الأولى ، فضلا عن أسباب أخرى تتعلق بالبنية الاجتماعية والشرقية التي شاءت ايضا على عدم تقديم تجربة لعيبي للعلن والاحتفاء بها كما يجب هي وعائلتها الفنية ، حيث يتم الحديث عن اخويها فيصل وغازي لعيبي ، وعدم تسليط الأضواء على محاولاتها الجمالية . بيد أن نشاطها ودراستها التي بدأتها بدراسة الفن الجداري في معهد سوريكوف وتدريسها في معهد الفنون الجميلة في اليمن الجنوبية ومشاركتها زملاء لها ينتمون الى مدارس فنية متعددة ، ومن ثم هجراتها المتعاقبة الى موسكو وايطاليا، يعني أنها نهلت الفن من منابعه الرئيسة وتعددت آفاق تجربتها ، واجتذابها الى الفنانين الروس المشتغلين على الايقونة والموضوعات الدينية ، وأثر الفنانين الايطالين السائرين على درب تمثيل الموضوعات نفسها فيما بعد .
بيد أن هذه المرجعيات الجمالية المتعددة ، على الرغم من أهميتها ألا أنها لم تقف عائقا أمامها لكي تؤسس ملامح تجربتها الخاصة وتنهل من تجربتها المحلية والشرقية ، فقد ذهبت الى مدرسة بغداد للتصوير وتلقفت طبيعة الألوان وعلاقاتها البنائية ، فضلا عن طبيعة الإنشاء التصويري ضمن هذه المنظومة البصرية ، واقترابها من الفعل الجداري في الفن ، كونها تربت على هذه الأساليب من خلال معرفتها بذلك في ضوء النماذج الفنية العراقية القديمة ودراستها التخصصية للفن الجداري في معهدها الموسكوي ، وهكذا حاولت أن تزاوج بين كل هذه الاتجاهات والمعارف لتكون ثمرة توصلها لهذا الاسلوب ، وتتسم به تجربتها وتعلن تفردها عن الآخرين ، بالأضافة الى خصوصية هذا الاشتغال على مستوى التشكيل النسوي العربي والعراقي ، كونها ذهبت الى مسارات في تعضيد الرؤية الفنية تختلف عما ذهب اليها الآخرون أو الأخريات من الفنانات ، كونها لم تتمسك بالتقنية أو تصعيد قيم الجمال فقط ، بل حاولت جاهدة الى المغامرة في أكثر من ذلك وأبعد ، لأسباب موضوعية تتعلق بالنشأة والتكوين الأول والدراسة والانتماء الفكري واقتران الفعل الجمالي بهموم اجتماعية ومرامي انسانية كبرى تتجاوز النوع البشري أو الحدود المحلية والمناطقية .
وهذا يحتم علينا العودة الى مناهلها الفكرية والسياسية ، حيث أنها نشأت وسط عائلة فنية تمتهن الفن وتتعاطى الفعل السياسي ، فكان لجذرها السياسي اليساري أثره المهم في تحديد البوصلة ، اذ آمنت بعدد من المباديء واليقينيات التي ألقت بظلالها على منجزها الابداعي ، وراحت تديم التفكير بالايقونة او العلامة الرئيسية التي تتخذها علامة مهيمنة في عملها الابداعي تكون معبرة عن تطلعاتها الفكرية وعن نوعها الانساني (المرأة) ، فكانت جميع اعمالها تحتفي بالصفة الانوثية ، بوصفها مركز الكون والحد الفاعل في معادلة الوجود الانساني وتمثل شيئا خاصا ومهما للرجل علىى الدوام . ومن هنا أثمرت تأملاتها في موضوعات السياسة والمجتمع والسياسة والذوق الى الوصول الى هموم المرأة ومشاغلها من خلال تمثيلها بأوضاع شتى حاولت استجلابها من التجربة الحياتية التي تعرفت عليها وضمن توصيفات اجتماعية مقرونة بالفعل السياسي ، حيث رسمت المرأة المقهورة والمحاصرة بانظمة التخلف والدكتاتوريات الشمولية ومقارنتها في ظل الأنظمة الديموقراطية من خلال تواجدها في ايطاليا وهولندا وأماكن أخرى من العالم . وبهذا وجدت ضالتها في هذه الموضوعات التي ابتكرت لها صورة بصرية معبرة بشكل مبسط ، وكانت تأثيرات الواسطي ومدرسة بغداد للتصوير الاسلامي حاضرة بقؤة ، اذ أن أشكالها لا تحتوي على العمق التصويري أو البعد المنظوري ، وجاءت مسطحة ثنائية الأبعاد دون أدنى مبالغة في تحوير الشكل وتغريبة ، لأنها غلبت المضمون على بنية شكلية قائمة على الترميز والتشفير ، لأن رمزها الانثوي موجود في حياتنا اليومية ولا تحتاج الى بناء مجرد ، واكتفت بتمظهر حالات المرأة من (الضجر ، والتأمل ، والسعادة ، والكبت ) وجلسات السمر مع العائلة ،أو مشاركة المرأة في الأعمال المنزلية والمرأة الحالمة أو التي تعيش في حديقة ، فضلا عن الاقتراب من البعد الاسطوري المتصل بالتراث العراقي المحلي والذهاب بموضوعاتها الى مناطق الخيال ، لكي تكون صورتها معادلا موضوعيا عن واقع المرأة المعيش .
ولقد كانت ملامح أشكالها تنتمي للملامح العراقية السومرية من أجل تأكيد خصوصيتها العراقية مع الاحتفاء باللون المبهر والمحتكم على ابعاد تعبيرية تسهم في ترسيخ البعد الوظيفي بما يحكم حياة المرأة ويمكنها من مقاربات مع مفهوم الاغتراب والاستلاب وما يخلفانه من انفعالات وتداعيات على حياتها الداخلية ، لذلك فأن تصويرها للمرأة بأشكال عدة ، أنما أرادت منه أن تمنحها تعدد مواضع الحياة في واقعها الفعلي وتعبر عن رفضها للسلطات والعبودية والأعراف المجتمعية ومباديء العنصرية ، فرسمت المرأة بجناحي طائر ، أو امرأة وهي تعزف على الة الكمان ، او هي في السوق ، وقرب البحر وتغلب على جميع أشكالها حالات الانتظار والضجر أو التأمل التي تأتي نتيجة العزلة وانعكاساتها على منجزها الفني ، ويلتصق في الوقت نفسه بمفهوماتها العامة وقناعاتها تجاه الخارج الموضوعي ونظرتها للفن بشكل عام ، والتي تريد منه أن يقدم فكرة أو رسالة محددة ومتعينة . ولهذا لجأت الى تثويرة الفكرة والرسالة من أجل تكريس المضمون المؤثر، فضلا عن التقانة اللونية المتقنة الأداء والتي تؤشر حضورها في الرسموية العربية والعراقية والتي أضحت الآن واحدة من التجارب النسوية العالمية.