يوميات كروفز في بغداد سنة 1831..عندما قضى الطاعون على نصف سكان بغداد

يوميات كروفز في بغداد سنة 1831..عندما قضى الطاعون على نصف سكان بغداد

د. صباح النّاصري
عندما نقرأ عن الأحداث الّتي جرت في بغداد خلال السّنة الرّهيبة 1831، وعن المصائب الّتي حلّت بأهلها ومحقت أغلبهم، يتملكنا الذّهول أمام قدرة الإنسان على تحمّل النّكبات، وأمام قدرته على مقاومة الأقدار وإعادة لمّ شمل من بقي من الأحياء حوله وإعادة تشييد داره وبذل كلّ جهوده في كسب قوته من جديد …

وبدلاً من أن يهجر المدينة أهلها ويتركوها للخراب، عادوا إليها ليدفنوا فيها موتاهم ويشيدوا ما تهدّم منها … وعادت الحياة إليها وكأنّ شيئاً لم يحدث.
وشاءت الصّدفة أن يقيم في بغداد تلك السّنة مبشر انكليزي اسمه أنطوني نوريس غروفس Anthony N. Groves ، وأنّ يكتب هذا المبشّر يومياته الّتي نشرت في كتاب في لندن في العام التّالي.
ومن قراءة هذه اليوميات يمكننا أن نتابع ما حدث في تلك السّنة الرّهيبة يوماً بعد يوم تقريباً. وتأتي أهمية هذه اليوميات من أنّها نصّ تاريخي بالمعنى الدّقيق للكلمة، أي أنّها شهادة شاهد عيان سجّل ما عاشه وما رآه وما سمعه بنفسه.
وأنطوني غروفس هذا كان مبشراً بروتستانتياً إنكليزياً، ولد سنة 1795، ودرس طبّ الأسنان ثمّ بدأ بممارسته، وتزوّج. وفي عام 1826 درس اللاهوت ليُكرّس كرجل دين، ودخل في الجمعية التّبشيرية. ولكنّه ترك الكنيسة الأنغليكانية وجمعيتها التّبشيرية وتقرّب من جماعة بروتستانتية.وفي عام 1829، سافر غروفس إلى بغداد بصحبة زوجته وولداهما وعدد من أصدقائه، وأقاموا فيها. ثمّ لحق بهم أصدقاء آخرون في العام التّالي.
وبدأ وباء الطّاعون في بغداد في آذار 1831، كما عانت المدينة من فيضان نهر دجلة مما نتج عنه موت أعداد كبيرة من سكانها، وعانت من الإضطرابات السّياسية.
وقد ماتت زوجة المبشر غروفس من الطّاعون ثم ماتت طفلتهما الّتي كانت قد ولدت في بغداد.
يوميات أنطوني غروفس :
تبدأ يوميات غروفس في 2 نيسان 1930، وتنتهي في 7 تشرين الثّاني 1931. وهي تملأ 288 صفحة من الكتاب الّذي يحتوي عليها: “يوميات إقامة في بغداد خلال عامَي 1830 و 1831”
كان داود باشا آخر المماليك الّذين حكموا بغداد. ودامت فترة حكمه من 1817 إلى 1831.ونحن نعرف من المصادر التّاريخية أنّ الباشا علي رضا دخل بغداد في 14 أيلول، وأنهى بذلك حكم المماليك الّذي دام حوالي 82 عاماً. وقد أمر علي رضا باشا بقتل كلّ المماليك الجيورجيين الّذين كانوا يحمون داود باشا، ولكنّه أرسل داود باشا إلى إسطنبول تنفيذاً لأمر السّلطان العثماني.
وفي حديثه عن الكوليرا الّتي قتلت أعداداً كبيرة من سكان كركوك :
“وقتلت في البصرة قبل عامين 1500 من سكانها الّذين كانت أعدادهم 6000، مما ترك كثيراً من الدّور فارغة وكثيراً من المراكب تطفو وحدها على سطح النّهر من هنا إلى هناك بعد أن فقدت مالكيها. وعندما يموت أحد في الدار يتركه الآخرون ويغلقون عليه الباب ويهربون.
24 أيلول، سمعنا أن ضحايا وباء الكوليرا وصلوا في كركوك إلى مائة شخص في اليوم. ولكنّ الوباء توقّف الآن.
وفي يوميات 1831 كتب أنطوني غروفس :
“20 آذار 1831، إستدعى الباشا عشيرتين من العرب لتسانداه في صراعه المقبل [مع السّلطان العثماني] وأسكنهما في بغداد في الضّفة المقابلة من دجلة. ولعداوة بينهما، بدأتا تتقاتلان في الليلة الماضية، واستمّرتا في القتال حتّى هذا الصّباح. وقد طردت واحدة منهما من بغداد.
28 آذار، أعتقد أنّ وباء الطّاعون وصل ولا شكّ إلى بغداد. واستعدّ الماجور تايلور وكلّ العاملين في المقيمية البريطانية لترك المدينة والإلتجاء إلى كردستان. وقد اقترحوا علينا أن نصاحبهم.
29 آذار، زار الدّكتور Beagrie ومستر مونتفيوري Montefiore أمس عدداً من المرضى. وهما يعتقدان أنّهم أصيبوا بالطّاعون وإن لم يكونا متأكّدين من ذلك تماماً. وقد تأكّدا من ذلك هذا اليوم. وصاحبتُ مستر مونتفيوري في زياراته، ووجدنا أنّ عدد المصابين بالطّاعون وصل الآن إلى عشرين، وتتزايد أعدادهم ساعة بعد ساعة.
1 نيسان، ما زالت أعداد المصابين بالطّاعون تتزايد وإن خفّت سرعتها. وكلّ الّذين ماتوا من الطّاعون حتّى الآن هم من المسلمين واليهود. وقد ذهبت أعداد من اليهود إلى البصرة هرباً من الوباء. والأكراد الّذين جلبوا الطّاعون معهم من كردستان، هربوا أيضاً من المدينة. وتتجه قافلة من المسيحيين نحو الموصل الّتي كانوا قد هربوا منها قبل ثلاث أو أربع سنوات خوفاً من الطّاعون.
3 نيسان، غادرت مجموعات كبيرة من اليهود بغداد هذا الصّباح هرباً من الطّاعون، كما غادرها المسيحيون مسرعين في كلّ الإتجاهات.
4 نيسان، يبدو أن أعداد موتى الطّاعون لم ترتفع في اليومين أو الثّلاثة الأخيرة، ربّما لا أكثر من 150 في اليوم الواحد.
10 نيسان، يتفق الجميع على أن أعداد ضحايا الطّاعون في جانب الرّصافة خلال الأسبوعين الأخيرين وصلت إلى حوالي 7000. ولا يعرف النّاس المساكين ماذا ينبغي أن يفعلوا : فإذا ظلّوا في المدينة ماتوا من الطّاعون وإذا خرجوا نهبهم الأعراب، وإن أفلتوا منهم فسيعانون أيضاً من أضرار فيضان دجلة الّذي أغرق الآن كلّ الأراضي المحيطة ببغداد. ويقال إنّ الفيضان خرب حتّى الآن ألفي مسكن في جانب الكرخ.
12 نيسان، بلغت أعداد موتى الطّاعون مبلغاً رهيباً، فقد وصلت أعدادهم أولّ أمس إلى 1200.
13 نيسان، دخل وباء الطّاعون عند جيراننا الّذين أخرجوا من منازلهم ما يقارب الثّلاثين جثّة. وبدأوا يتصرفون تصرفاً غريباً، فبدلاً من أن يعزلوا أنفسهم بعضهم عن بعض لتحاشي الوباء فقد بدأوا يتجمعون ويلتصقون الواحد بالآخر بأكثر ما يستطيعون.
15 نيسان، أعداد موتى الطّاعون ما زالت مريعة : 1800. ومما يزيد الأخطار أنّ الجثث تركت في داخل المنازل، فقد هرب النّاس وتركوا موتاهم من غير أن يدفنوهم. وقد ألحّ بعض الشّباب في أحد أحياء بغداد على دفن موتاهم وتوصّلوا إلى ذلك مما دفع آخرين في أحياء أخرى إلى بذل نفس الجهود، وتوصّل الجميع إلى دفن كلّ الموتى في ليلة أمس.
16 نيسان، إرتفعت أعداد الموتى أمس ووصلت حدّاً لم تبلغه من قبل […] سكان بغداد لا يمكن أن يتجاوزوا 80 ألفاً، وقد هرب نصفهم من المدينة. ولهذا فإنّ موت ألفي شخص في اليوم لن يبقي كثيراً منهم خلال فترة قصيرة.
19 نيسان، ما زال النّاس يموتون بأعداد كبيرة كلّ يوم. وبين جنود الباشا، مات في بعض الكتائب الّتي تضمّ 700 جندي أكثر من 500.
20 نيسان، مازالت الحالة بنفس السّوء، وما زال مستوى مياه دجلة يرتفع. وإذا ما استمر في الإرتفاع فستغرق المياه هذ الجانب من المدينة كما أغرقت الجانب المقابل من النّهر، وسيضيف هذا بؤساً على بؤس النّاس المساكين.
22 نيسان، توصلت إلى الخروج من المقيمية هذ اليوم محاولاً إنقاذ بعض الأشياء الّتي اكتسحتها المياه والّتي ملأت كلّ السّراديب. وقد هالني منظر المدينة المرعب، وصعوبة الحصول على النّجدة من أي نوع كان وبمقابل أي ثمن.
24 نيسان، ما زال وباء الطّاعون يهاجمنا بعنف شديد، وقتل خادمَي جارنا. […] وقد حفرت قبور جوار دارنا. ولم يعد في المدينة قماش قطن، والنّاس يطوفون في أرجائها بحثّاً عن بعض أذرعة منه ليكفّنوا بها موتاهم. ولا نستطيع الحصول على الماء بأي ثمن، وعلى كلّ حال لم نعد نرى باعة الماء. وقد مات خلال هذا الشّهر أكثر من 30 ألف شخص.
25 نيسان، أجبرت اليوم على الخروج من المقيمية بعد أن أسقطت مياه الفيضان جداراً منها، ولم أجد إلّا مشاهد موت وخراب. ولم أرَ احداً في الدّروب ماعدا من يحمل جثّة ليدفنها أو من أصيب هو نفسه بالطّاعون. وأمام أعداد من الأبواب ألقيت أكوام ثياب نزعت عن الموتى. ولم يعد مكان حول الجامع يدفن فيه الموتى فحفرت القبور في كلّ مكان من الدّروب، وفي الإصطبلات الّتي خلت من خيولها المقتولة.وارتفع مستوى المياه، وستفيض عمّا قريب لتغرق المدينة. وقد بعث الباشا من يطلب من الماجور أن يربط مركبه قرب السّراي [ليخرجه من المدينة] إذا ما فاضت مياه دجلة.
مات أمس بائع قماش قطن الأكفان الّذي يسكن على بعد بابين من دارنا. وكان قد رفع أسعار الواحد منها من 45 قرشاً إلى 95 قرشاً. وازدادت أسعار الصّابون أربعة أضعاف. واستطعت ملأ كلّ جرار دارنا بماء اشتريته عشرين مرّة أكثر من سعره.
26 نيسان، لم أستطع الحصول على تعداد الموتى منذ عدّة أيّام، ولكنّ الشّاويش الّذي يعمل عند الماجور ذهب ليزور الباشا هذ الصّباح. وكان الباشا في حالة ذعر شديد، يريد أن يترك المدينة ولكن لا يعرف كيف. وقد ذكر له الضّابط المسؤول عن تعداد الموتى أنّ أعدداهم بلغت 5000 في اليوم الواحد، لكنّها انخفضت أمس إلى 3000 وانخفضت أيضاً هذا اليوم. ولكن يبدو لي أن ذلك لا يعقل ولا يصدق. وقد عاقت المياه الّتي فاضت النّاس عن الهروب. ونرى أطفالاً تركوا وحدهم بلا معيل يسوعون في الدّروب والطّرقات.وقد قتل الطّاعون نصف جنود الباشا وعدداً كبيراً من عبيده الجيورجيين الّذين هم في نفس الوقت من مقرّبيه المخلصين.
27 نيسان، أنسانا الفيضان هذا اليوم وباء الطّاعون، فقد انهار جزء من سور شمال شرق المدينة في الليلة الماضية ودخلت منه سيول المياه إلى الأحياء السّكنية. وقد غرقت محلّة اليهود وتساقطت 200 دار منها. كما انهار جزء من سور القلعة.
28 نيسان، جرف الفيضان 7000 دار من طرف المدينة إلى طرفها الآخر، ودفن المرضى والمحتضرين والموتى والأصحاء في نفس القبر الواسع الفوهة. ومن استطاعوا الخلاص هربوا من دورهم المنهارة حاملين ما استطاعوا أخذه والتجأوا في دور هرب أهلها من الطّاعون الّذي كان قد حلّ فيها.
عن: مدونة الدكتور صباح الناصري (بين دجلة والفرات)