سعدي الحديثي ربابة الفرات العالي

سعدي الحديثي ربابة الفرات العالي

حسين الهنداوي
منذ اكثر من اربعة عقود وسعدي الحديثي يغني الفرات كله كما لم يغنيه أحد من قبل. ومن يغني الفرات يغني العراق بداهة: كلاهما رديف الخليقة والخير والحيرة الابدية، وكلاهما يكون هائما وجميلا ومبدعا او لا يكون. لكن الفرات العالي والمتيم والعذب هو ما يمور به وجدان هذا الفنان والشاعر الذي سعى الى تحويل غناء البادية الى فنّ بذاته من مجرد أعراف،

بالغا مكانة متميزة بين رموز الابداع وتحديث الابداع الغنائي الرافديني والعربي المعاصر، وشاقا طريقه بنفسه الى كل العالم، وغالبا في ظروف عسيرة للغاية وحصارات لا تحصى ولا تنتهي رافضا الاحتراف والاتجار بالفن في الوقت ذاته.
الفنان سعدي الحديثي في صورة خاصة
ولأن الفرات أكثر الانهار انتماء الى الصحراء اذ تحضنه ويعانقها معظم الطريق من منابعه حتى المصب، ناشرا فيها الغلال والالوان والرؤى، لا يكاد فن سعدي الحديثي، المولود على ضفاف الفرات والصحراء معا، ان ينضب او يبخل بشيء مستلهما ثراء قصصهما الاولى واغانيهما العريقة، ومستظلا بعز كل تلك الروح السارحة عن سبق اصرار في السمو والحنين والعتاب، تلك الروح القلقة كما لو الى الابد، البدوية الصدق والشجون غالبا، والمتهيأة للترحال القسري بين حين وآخر لا سيما نحو دواخلها الحميمة وبغداد قطعة من هذه الدواخل دائما، بل القطعة الاغلى.
هذه الانطباعات والاحاسيس هي لدي حصيلة تأمل ذكريات تناثرت لحظاتها على امتداد ما يقارب اربعة عقود من الزمن هي الاخرى، اذ تعود الى نهاية الستينات الماضية وفيها من الصور والالوان والوشائج كمّا كبيرا يجعلها متابعة واقعية وعن كثب و ورومانسية القصد اصلا.
ففي ثانوية الشعب في الكاظمية، في نهاية 1963، سمعت اولى الكلمات عن فن سعدي الحديثي انما كمدرس يحبه تلاميذه الى درجة التباهي، حيث كان زميلي في مقاعد الثانوية صديقي الشاعر د. حميد الخاقاني قد انهى دراسته المتوسطة في ;مدرسة الفجر للبنين في ضاحية محلة النواب بالكاظمية، فنال، كما يعتقد، حظ ان يكون بين معلميه فيها مظفر النواب وسعدي الحديثي معا ;وتلك نعمة ; كما قال في مداخلة في برلين مؤخرا.
بيد ان لقائي الاول مع سعدي الحديثي كان في كلية الآداب بجامعة بغداد التي دخلتها في عام 1966. فقد جمعتنا فيها حتى 1970 بعض اسعد سنوات حياة اكاديمية في كل تاريخ العراق الحديث ربما. كان سعدي الطالب في قسم اللغة الانكليزية اكبر منا عمرا ببضع سنوات. واثرى تجربة بكل شيء تقريبا، وهو ما سنعرفه شيئا فشيئا ببطء عفوي فرضه تواضع جم وصمت لافت عن الحديث عن النفس صار من المواقف المشهور بها بيننا.
سفرة طلاب جامعة بغداد اليساريين الكبيرة الى سدة الهندية في نهاية 1967 التي نظمها اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية (القيادة المركزية) غدت تحديا سياسيا لامعا صار يتسارق مجده لاحقا كثيرون، الا انها كانت فرصة جميلة فعلاً في تعرفنا على الموهبة الفنية الفذة لسعدي الحديثي ذلك الطالب العائد الى الدراسة الجامعية من جديد اثر قرار لحكومة عبد الرحمن عارف بإعادة السجناء السياسيين الى كلياتهم ووظائفهم شرط التزامهم القطعي بتعهد مكتوب بالابتعاد عن اي نشاط سياسي مهما كان والا الفصل من الدراسة.
ويتذكر الاديب المترجم ملهم النقيب عن تلك السفرة ما يلي:
كنت جالسا الى جانب سعدي الحديثي طوال الطريق وكان الآخرون يغنون وانا اغني معهم. ويبدو ان غنائي قد استفزه لقبحه فأخذ يدندن مع نفسه وهو ما ابهرني على الفور. فقد كانت تلك المرة الاولى التي اسمعني فيها صوته الذي لم يكن احد في الكلية قد سمعه قبلي مطلقا. وعند نزولنا من الحافلات بدأت اشيع الخبر وهو يعترض الى ان اضطر في نهاية الامر الى النزول عند الحاحنا وصعد ليغني بصوت لا زالت رخامته تحيا الى اليوم في اذني:
يا ساعَه يا يُوم كِلّي يا شُهرْ يا سَنَه
إنْظَلْ برِجاكُم يو لا يِنكِطِعْ ياسَنا
إسْأَلْ طِبيبِ الّذي بحالِ الوِلَم ياسنا
ما خَبّركْ بصْواب كلبي؟ شْكال؟
صندوك كلبي إمتلى مِنِّ الهموم أَشْكال
لا يَا لّئيم اللي ما تبالي بِالزِّمان إشكال
كلي الفرَج.. يا ساعَه يا يُوم كلّي يا شهر يا سنه..
لكن متعة هذا الاكتشاف لن تتوقف بعدئذ. وكالمحظوظين برحمة غير متوقعة رحنا، نحن زملاؤه الاقرب في الكلية، نتلذذ باستراق التسمع بين فرصة واخرى الى عَتابة عابرة او سْويحْلي او كِصيدْ او نايل او ريلْ وحمدْ تفلت كقطعة روح من بين اعماق حنجرة نافرة ومضغوطة اصلا، سرعان ما تترك مكانها لشرح جذل عن معنى كلمة او اخرى لم نفهمها في البدء تماما. ثم كجرح شجي تسامى الصوت من جديد:
هَذوله إحنَه سَرَجْنا الدمْ عَلَه صْهيلْ الشِكرْ يـَسْعودْ
خَلّينَه زِهرْ لِنْجومْ مِن جَدْحْ الحِوافرْ سودْ
تِجّادحْ عْيونْ الخيلْ وِعْيونْ الزِلِمْ بارودْ
وياخذْنا الرسَنْ للشَمِسْ مِن زودْ الفرحْ وِنْزودْ
يَسْعودْ إحنَه عيبْ إنهابْ، يا بيرغْ الشرجيَّة
خَلّه الدمْ يِجي طوفانْ، كِلنَه إنخوضْ عِبرية

الفنان سعدي الحديثي يتوسط نخبة من زملاء في كلية الاداب مطلع عام 1968
فهذه، كانت التصديحة الاروع والاحلى التي حركت اشجان كلية الآداب تلك اليسارية والارستقراطية العطر في ذات الوقت، لنكتشف عبرها مذهولين روعة هذا الصوت القادم من اعالي الفرات مثقلا بالصدق والتحدي كما بالمحبة لكل جنوب، ونابضا بالعراق الابهى والاسمى في كل زاوية من قلبه تماما كما تحملها روح كلمات قصائد مظفر النواب اعلاه والعشرات غيرها التي منحها صوت سعدي الحديثي بعدا خلابا ومتساميا اضافيا.
وتدريجيا رحنا نكتشف ان طالب اللغة الانجليزية هذا يمتلك ايضا خزينا معرفيا لامعا جعله محيطا بأعذب شعر واغاني البدو مع نظرات جديدة وعميقة ومبتكرة عنه. لكننا اكتشفنا علاوة على كل ذلك مواهبه الادبية الاخرى التي لم تكن ترجمته لنصوص حول الادب السوفييتي; نشرتها مكتبة بغداد في كتاب بهذا العنوان في 1968، الا جانبا واحدا منها.
كما سنعرف ان هذا الشاب المنحدر من عائلة بيت قرقاش المشهورة بتكيتها في مدينة حديثة، لم يكن يساريا وحسب، وهو امر مدهش وحده آنئذ من أبناء بلدة تقليدية الصيت متبعثنة المزاج بشكل ميئوس منه، بل كان سجين ضمير أممي أمضى عدة سنوات قاسية في المعتقلات دون جرم على الاطلاق، وبتهمة تهديد أمن الدولة، لمجرد رفضه شتم رموز سياسية وطنية أمام الجلاد.في تلك السنوات بدا سعدي نجما سلفا. بل النجم بين فناني تلك الكلية التي كانت تمور بالابداع والخلق الجمالي والفني من كل نوع ولون اصيل ويكفي ان نذكر من تلك الاصالة الصافية فيلسوفا موهوبا كمدني صالح ومفكرا كمحمد مبارك المثقف اليساري العائد ايضا الى الكلية بعد سنوات في السجن، وشاعرا مجددا كعبد الرحمن طهمازي بين آخرين كان مجرد حضورهم يضفي بهجة زاهية على كلية الآداب تلك بين نظيراتها في العراق والعالم العربي. وثمة اسباب عديدة وقفت وراء ذلك الصعود والتميز. فهذا فنان رفيع المهنية والذوق الغنائي والجمال الصوتي المتعالي وتلقائي التواضع والشفافية في آن، فنان لا يغني ابدا نزولا عند رغبة احد وانما فقط حين كان يحس الحاجة الداخلية عنده - او عندنا احيانا- للغناء. وفوق كل ذلك كان الاول الذي علمنا يوما، نحن الفراتيون الاقحاح القادمون من قلب ارض الفرات، ان هذا النهر هو هو في كل مكان: منبع للحياة والبراءة والجمال والكبرياء والذاكرة. النهر الذي كان يسقي الجنة وبعد ان انتهى الله من جميع اعمال الخلق حوّل مجراه ليسقي الارض ولم يكن قد نبت بعد في الارض شجر بري ولا عنب بري وأسماه فراتا (كماجاء في سفر التكوين من العهد القديم).

نهر الفرات امام مدينة حديثة
وكما ان سعدي وريث وفيّ ودؤوب لكل تلك الثروة الغنائية الاصيلة التي يمثلها غناء البادية العراقية، فانه وريث كبير ووفي كذلك لكل ذلك التراث الخصب والخبرات العراقية في الموسيقى والشعر الشعبي البدوي والجنوبي، كما تشهد على ذلك مؤلفاته العديدة بدءا من أغاني الجوبي في اعالي الفرات; اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لندن عام 1984 وانتهاء بدراساته ومقالاته ومحاضراته الكثيرة عن الغناء البدوي والشعبي والفولكور المنشورة وغير المنشورة.
وروى لنا الصديق ملهم النقيب ايضا ان سعدي الحديثي أصطحبه مرة الى منطقة (ابو غريب) لزيارة شاعر وراوية بدوي طاعن في السن اسمه (ابو عيادة) كان بمثابة الحافظة التي يستقى منها الكثير من (الكصيد) والاخبار والسير;وكان اللقاء طويلا رغم تقدم (ابو عيادة) في السن بل ان حافظته بدت عجيبة الى حد اثار شجون سعدي للغاية. وعند عودتنا الى بغداد ركبنا في سيارة أجرة، وكنا الوحيدين فيها مع السائق. ودون ان يطلب منه احد الغناء سمعت سعدي يدندن مع نفسه بقصيدة طويلة سمعها من ابو عيادة، فأذا بسائق السيارة يهتز طربا فيما راح سعدي يتحفنا بمقطع اثر آخر طوال الطريق الى بغداد كما لو ان حاجة داخلية ماسة دفعته الى ذلك. ولقد كانت برهة السفر تلك لوحة غنائية رائعة رغم عفويتها سمعت فيها من الشعر البدوي ما لم اسمعه قط من قبل.
اما القصيدة تلك التي يختلف الباحثون والرواة بشأن نسبتها الى شاعر بذاته فتعد اليوم بين اجمل الشعر البدوي الحديث ومطلعها:
نطيت رجمٍ وثاري الليل ماسيني
; بْدّيَرْ غربه يْعَلّي السيل ما جاها
اضحك مع اللي ضحك والّهَمْ طاويني
طَويَة كْربْ الطلَبْ لو وشَّلو ماها
علامِج ما تِذِرفينْ الدمع ياعيني
على هَنوفٍ جِديد اللبسْ يزهاها
هبتْ هبوب الشمال وبردها شيني
ما تِدْفي النار لْيا حِنّا شعلناها
ان الوصول الى هذه الاصالة المتميزة في الاداء والذوق والمؤالفة والتوثيق الشعري والموسيقي التي لدى هذا الفنان تعود بلا شك الى ما فيها من خصال تلك الروح البدوية غير المستقرة في اي مكان او في اي زمان ربما، لكن الغائرة الجذور والجروح في عالمها الخاص الوجودي جدا. وسعدي الحديثي المترعرع في عائلة دينية يخبرنا بانه بدأ وعيه العالم الذي يحيط به بتقليد جده في كل شيء، وذلك منذ الثالثة من العمر عندما بدأ بمحاكاة طريقة تلاوته للقرآن الكريم وطريقة صلاته وتمتماته وكيفية نطقه الحروف واداء الكامات. ذلك الجد لم يكن الوحيد في التأثير عليه لكنه ;كان هو الاقرب إلى روحه وصاحب الاثر الابلغ في صقل مواهبه الصوتية والذوقية ونزوعه الى التصدي لتقلبات الريح والتقاليد والقيم البالية.
وكما لا يمكن الكلام عن سعدي دون الكلام عن مدينة حديثة، لم يعد ممكنا الكلام عن حديثة دون الحديث عن ابنها الموهوب هذا، حامل طيبها الى كل العراق والعالم.;
ففي تلك المدينة الفراتية التي تشبه تشكيلة من جزر، والعذبة الهواء بالفطرة، كانت نشأته الفنية الاولى حيث يخبرنا بأن البيت الذي نشأ فيه حتى الخامسة من عمره كان له دور في تكوينه: كان ظهر البيت إلى الصحراء وواجهته على حقل من النخيل وبعض الاشجار وهناك ما بين نهر الفرات والحقل نحو 400 متر، وكان عندنا حوالي 40 رأس غنم فهذه حياتنا وفي هذا الجو عشنا. وفي حديثة بدأ تعلم المراقبة والانصات ثم وجد نفسه يحفظ كماً هائلاً من الاغاني الفلكلورية ومن القصيد البدوي، كما زادت قدرته على الغناء وعلى التعبير.وعن نشأته الاولى، سيخبرنا سعدي لاحقا ان مواهبه في التلاوة والغناء بدأت تظهر جلياً بعد التحاقه بالمدرسة الابتدائية فصار يكلف بالادوار المسرحية التي تتطلب الغناء، وكذلك بالغناء في الافراح العائلية، فيما غدت فصول الإنشاد الديني في الاحتفالات الدينية، وخاصة في تكية جده الشيخ خيرالله في ليالي الجمع، حقلا خصبا لتعلم الغناء وضبط الاداء وحفظ الكلمات.. ثم جاءت الطلعات إلى البادية والاستماع الى شعراء وعازفي البادية لتسمح بإثبات ملكته الذوقية والغنائية حيث بدأ كما يقول أغني كما يغني اهل الريف: اضغط على حنجرتي واخرج صوتاً يطرب له المحيطون بي ولكني تعلمت من البدو كيف يخرجون الصوت من الرأس وهم يؤدون العرضة وكيف يخرجونه من الصدر وهم يغنون مع الربابة وفي اغاني السامري، وحين جئت إلى بغداد وكانت لغتي الانكليزية قد تطورت ففتحت لي عالماً جديداً ووقعت على كتب علمتني كيف أُطور لياقتي الصوتية، فدخلت مرحلة جديدة رغم تأخرها رفعت من قدرتي وميزتني عن معارفي من المغنين بل وعن الكثيرين من المحترفين في الغناء العراقي.
في هذه المرحلة الجديدة، صار هذا الفنان يتدفق كنبع صحراوي مفرد وثر ودائم مضفيا بهذا تواصلا لم يكن موجودا من قبل في اغاني البادية العراقية. ومعه باتت انغام كل الهلا بْحبَيبي الجاني زْعَلانْ، طابجْ ورده وخزّامَه والوسطْ عْرانْ و ولِچْ عَرنَه ولچ خانه، يَوَلّي وينْ ربيانه، و يا بو چَرِدْ ناعورْ چردَكْ دِ ديره، مثل الرمَد بالعين عشكْ الزِغِيره، وياعين مْولَيتينْ وْعينْ موليه، وعَلّماني يُمَّه الماني، وعالميجَنَة وعالميجنة وعشرات النصوص الغنائية، البدوية االمحضة في الاصل، من مكونات ذواتنا العاطفية المدينية، هذه المرة، الاكثر نبضاً وحميمية بعد ان كانت مجرد تراث متوار او ناءٍ او مجهول.
وفن سعدي الحديثي ثري وأصيل ليس من الزاوية الجمالية والفنية وحسب انما من الزاوية السياسية اذ من خلال تأمله نتأمل شجون مرحلة تاريخية كاملة من حياة العراقيين والعراق الحديث بكل ما حفلت به تلك الحقبة من عطاء وبطولة وآلام وانقلابات لا سيما وإن جزءا كبيرا مما يجب ان يقال عن تلك الحقبة اضحى قيد النسيان بل التشويه والاهمال المنظم احيانا من قبل جماعات طارئة او غريبة عليه او معادية له وتخشاه بالتالي كمرجعية حضارية وانسانية.
فقصائد مظفر النواب وكذلك أغاني البادية العراقية بصوت سعدي الحديثي تظل شاهدا على روعة عراق الستينات التي سرعان ما ستنطفئ جذوتها الخلاقة تلك تحت ضغط سموم ودمامة وهمجية البطش البعثي الذي داهم العراق اثر انقلاب عسكري في 17 تموز 1968. بيد انها تظل شاهدا ايضا على ان العلاقة بين هذا الفنان والشاعر مظفر النواب لم تكن مجرد علاقة مغني بمؤلف كلمات انما كانت علاقة انسانية صافية.. فسعدي الحديثي كان مناضلا يساريا عانى هو ايضا وطويلا الاعتقال والاضطهاد والنفي والسجون وهو في مقتبل العمر. وهي اهوال لم نكن جربناها بعد آنئذ ولم نكن نعرف عنها سوى ما كان يصلنا عنها في القصص والاحاديث;
ومن المناسب أن اذكر شيئاَ عن نوعية المحاكمة التعسفية التي ألقت بسعدي الحديثي في سجن نقرة السلمان الصحراوي مطلع 1964، كما رواها مرة لي بنفسه:
تبرع بعض زملائي الطلبة والقوا القبض عليَ داخل كلية الآداب، وهي حكاية طويلة.. اما ما جرى اثر ذلك حتى الوقوف أمام الحاكم في قاعة المحكمة فكان ما يلي: بعد سبعة عشر شهراً من التوقيف والتحقيق والنقل من موقف إلى موقف ومن سجن إلى سجن والتعرض إلى اصناف الإهانات والضرب فقط وليس التعذيب كما جرى لغيري تمت إحالتي إلى محكمة عسكرية بتهمة الإنتماء إلى منظمة محظورة وعقوبتها القصوى ستة أشهر! وبعد الأستجوابات الروتينية المعروفة تطورت المساءلة وتركزت على ثلاث أسئلة لا غير: هل مصطفى البارزاني وطني أم عميل؟ وهل الحزب الشيوعي وطني أم عميل؟ وهل عبد الكريم قاسم وطني أم عميل؟ كان جوابي هو لا أدري في الحالات الثلاث ولم أكن مجابهاً أو متحدياً قط، لكنني كنت صادقاً تماماً، إذ رغم موقفي المختلف مع تلك الجهات الثلاثة، لا دليل يدفعني الى التشكيك بوطنية أي منها. الا ان جوابي ذلك فجر غضب الحاكم الذي انتفض ممتعضا خاصة عندما رفضت الطعن بالبارزاني، وراح يضغط علي كي أقول عن الاخير بأنه عميل، ثم سألني بنبرة غاضبة هازئة: وهل انت عربي؟، قلت: نعم سيدي. قال وكيف تثبت لي انك عربي؟ قلت: أمي وأبي عرب أقحاح ونسبي الى بني هاشم من قريش، وأنا أعشق لغة العرب وأحفظ شعرهم الفصيح وقصيدهم البدوي وأعتز بالتراث العربي وأفخر به لأنه تراث أجدادي. وهنا ارتفعت حدة غضبه ليسألني صارخا: كيف اذن إن كنت عربي وتجهل إن كان البارزاني وطنياً أم عميلاً؟! قلت له أتريدني أن أشرح لك كيف؟ قال نعم، كيف؟! قلت: في العهد الملكي وصفوا البارزاني بالعمالة والطرد إلى خارج العراق، ثم وجدناه بعد أكثر من عشر سنوات يعود إلى الوطن ويستقبل كرمز وطني إثر ثورة تموز 1958، وبعد فترة قصيرة راحت حكومة عبد الكريم قاسم تصفه بالعمالة وبدأت الحرب مرة أخرى، ثم سقطت حكومة قاسم وجاء البعثيون بانقلابهم الدموي وعاد البارزاني وطنياً معززاً مكرماً، ثم في أقل من ستة أشهر تغيرت الدنيا فوصمته سلطة البعث بالجرم والعمالة. وعندما حدث انقلاب عبد السلام عارف عاد البارزاني وطنياً من جديد، ثم ها هو الآن عميل كما تقول الحكومة.. هذه حكومات يا سيدي لديها علاقات رسمية وشخصية مع هذا الرجل ولديها وفود مفاوضة ومخابرات واستخبارات ومخبرين من جميع الأوصاف ومع ذلك لم تستطع كل هذه الجهات أن تحسم إن كان وطنياً أو عميلاً!! كيف تريدني أن أُقرر أمراً وليس عندي أي دليل؟ هنا بلغ الغضب أقصاه لديه، فقرر اضافة مادة جديدة- غير المادة التي جئت بموجبها والتي تحكمني ستة أشهر- وهي المادة 31 (تهديد أمن الدولة) وحكمني بموجبها بالسجن لثمان سنوات اضافة إلى ستة أشهر وسنتين أخرى تنفيذاً لحكم غيابي سابق. لكن غضبه لم يقف عند هذا الحد. اذ بعد ان أصدر الحكم أشار بحاجبه إلى الحراس بأخذي، فتصورت الأمر قد انتهى لكني فوجئت بعشرات الأيدي تنهال من ورائي عليَ بالضرب في قفص الإتهام وأمام أنظاره وأنظار هيئة محكمته! ما كان بمقدوري أن أفعل أي شيء إزاء استمرار الضرب إلا الصراخ بوجهه هو وهيئة محكمته بكلام تحول إلى مادة للتندر من قبل المحكومين الآخرين لأنني كنت أُردد عبارة (مجرمون.. احكموني تسعين سنة لماذا تضربوني؟)، اذ يدور التندر حول لماذا قلتُ تسعين سنة ولم أقل مائة؟!

مشهد من مدينة حديثة الغنية بالنواعير
ويذكر الشاعر العراقي الفريد سمعان ان سعدي الحديثي حل مع مظفر النواب في قاعة رقم عشرة من سجن نقرة السلمان الصحراوي - المخصصة لاستيعاب ستين فردا فضمت اكثر من مائة واربعين معتقلا- بسبب افكاره السياسية على الارجح. وفيما كان مظفر النواب يشترك في القاء قصائده المتمردة، كان سعدي الحديثي، كما روى سجين كان معهم، يصعد بمقام يشد الابصار والايدي ويخرج الاذان عن صمتها وتتوقف الحركة برهة.. واحيانا يستجيب مظفر له ويصبح العشاء غنائيا اذا صح التعبير، اذ شكل سعدي مع مظفر ثنائيا في الغناء والشعر أضاء ليل السجن الصحراوي ذاك وابدع في تجديد الأغاني الشعبية والبدوية بالنسبة لسعدي خاصة الذي اعتبر الأغنية الملتزمة بما فيها الوجدانية، هي رسالة كما ان القصيدة الشعرية هي عند مظفر النواب رسالة أولاً وقبل كل شيء.
من جانبه كتب الفنان التشكيلي يحيى الشيخ السجين السياسي السابق في سجن السلمان مع مظفر النواب وسعدي الحديثي: كان مجلسنا أغاني مبحوحة وقصائد ونوادر وحكايات وكل ما ينفينا الى خارج السجن... واحد من بغداد والآخر من حديثة والثالث من العمارة... ثلاثة مشاريع لثلاثة مصائر
ويضيف سياسي آخر كان في ذلك السجن: ان مظفر وسعدي التقيا ايضا في أمسيات مشتركة كانت يتم تنظيمها من قبل اولئك السجناء في ساحة كرة السلة داخل السجن;نشدا خلالها كلمات الحب والثورة، عبر صوت واحد في صوتين انطلق جامعاً قلوب تلك الآلاف التي تطحنها آلام السجن وبعدها عن الشعب الجريح ومع صوتهما وبفعله تمتلئ ربايا السجن من كل جهاتها بالسجانين يتفرجون ويسمعون، قد يفهمون ما ينشده سعدي ومظفر وقد لا يفهمون. ويذكر السيد محمد علي الشبيبي في مؤلفه ذكريات الزمن القاسي عن تجربته في ذات السجن: ان الأماسي تكون ذات نكهة خاصة عندما يحييها مظفر النواب وسعدي ألحديثي بصوته ذو النبرة المتميزة بطريقة غنائية يتناوب عليها الإثنان. كان صوتهما يملأ فضاء ألسجن حتى يتخيل لك أن هذا الصوت ألجميل الذي يجمع بين صوت إبن المدينة وصوت البدوي إبن ألصحراء يخترق هذه الصحراء الشاسعة ليصل الى أطراف ألقرية.. كان صوتهما يشق سكون ليل الصحراء الصيفي ليقول لكل من يسمعه نحن هنا نحطم قيود ألسلطة الدكتاتورية ونتحدى ارهابها بصوتنا، رغم تعسفها وإضطهادها لنا سوف نبق ننشد للحياة وكلنا أمل بأن قضية الشعب ستنتصر
هذا الرصيد من التاريخ والتضحية لا نجده الا لدى ندرة من الفنانين والشعراء العراقيين او العرب الآخرين. واذا كان عقد هذا الثنائي النضالي سيضطر الى الانفراط، فانه سيعود بعد 1995 الى التألق من جديد كثنائي ثقافي في المنفى هذه المرة ليثمر عن تسجيل عدد من الاشرطة والاسطوانات، وعن احياء عدد من الامسيات الشعرية الغنائية البديعة في لندن اولا ثم في السنوات الاخيرة في برلين وشيكاغو وهارفرد وبوستون ودبي والبحرين وغيرها من عواصم الدنيا نالت اصداء فنية واسعة، انما دون احتراف ودون اتجار دائما.
وكما كتب أحد النقاد مرة، فان السر في عظمة غناء سعدي الحديثي انه يرفض مصاحبة اي آلة موسيقية لغنائه ويعتمد كليا على صوته وكلماته. السر الآخر برأينا هو اننا امام فنان يعيد للعراق كإعادة فلذة الكبد، فنّا رفيعا كاملا وموثقا كان قد هاجر من موطنه الاصلي على ضفاف دجلة والفرات إلى مصر مرورا ببلاد الشام منذ ازمنة سقوط بغداد تحت حكم المغول عام 1258، ولم يعد منه في العراق سوى تلك القطع الموسمية والمتقطعة التي كنا نسمعها من اشهر مغني البادية العراقية قبل سعدي لا سيما جبار عكار وملا ضيف الجبوري وابو جيشي مطلك الفرحان وكذلك حضيري ابو عزيز في النايل الجنوبي وآخرون. وسعدي الحديثي يتميز عليهم جميعا ايضا بكونه ليس مجرد قامة صوتية مثقلة بالخصب والاصالة، انما في كونه ايضا شاعرا وخبيرا منهجيا فريدا في توثيق موسيقى البادية، فهو يغني أغاني البادية القديمة ويجددها وينظّر لها ويؤسس لفن الموسيقى الشعبية مادة معاصرة تواكب تطور هذا الفن عالميا.
لم أسمع أحلى من صوته الجميل سيكتب الكاتب الكويتي محمد الرميحي اثر استماعه لسعدي الحديثي يؤدي مجموعة من نصوص الغناء الشعبي البدوي في امسية حضرها في دبي عام 2003.
وبالفعل، انها عالم رحب بالفطرة وانساني هي حنجرة سعدي الحديثي الرخيمة، حيث يشعر كل مستمع بشوق ما للتماهي للحظة او اخرى مع تهاديات صوت منغّم، باسق وعميق، يحمل قلبه وتاريخه بيديه متعاليا برهافة تحمل، حتى في هياماتها ومنافيها الابعد، روحا عراقية صافية وضميمة انسانية كونية تتغلغل بين الجوانح حتى اليابسة جدا منها، ولسان قلبها ينبض بالحب والحنين الى نفس تلك الاعالي وتلك الوجوه:
يا عابرْ الليلْ لديارْ الأحبها ترِدْ
ما تفعلْ الروحْ عنْ اللي تِريده ترِدْ
كلْهمْ لَهَنّه ريامْ الْ علْمِنابِعْ تِرِدْ
ما تشربْ الماي إلا رايك وجاري.
وآنا على الدومْ حافظْ لابتي وجاري
لا كولْ ويلي ولا اشچي العليّ جاري
مطَّمنْ ومعتِقِدْ ذيچ الليالي تِردْ