عندما حاول جمال باشا (السفاح) اغلاق مدرسة الحقوق..ذكريات الدفتري تكشف الحقيقة

عندما حاول جمال باشا (السفاح) اغلاق مدرسة الحقوق..ذكريات الدفتري تكشف الحقيقة

تغريد عباس السعدي
إن اقبال الطلبة على الالتحاق بمدرسة الحقوق التي عُدّت في تلك المدة منبراً للعلم والثقافة، وأداة مهمة لنشر الوعي الوطني، كان له دور مهم في صياغة الوعي الثقافي والقانوني والاجتماعي والسياسي في المجتمع العراقي، ذلك الدور الذي سرعان ما أدركه الاتراك عندما شعروا بالخطر خوفاً من المطالبة بحقوق العرق، وقطع الصلة بين استانبول والعراق.

ويبرز ذلك الخوف أهمية المدرسة في تنبيه الآراء، وتوجيه الافكار لدى الطلاب نحو اللامركزية، والأبلغ من ذلك ان تأثر الطلاب مباشرة بأفكار وطموحات "الحزب الحر المعتدل" البصري، الذي كان فرعاً لـ "حزب الحرية والائتلاف"، الذي تألف في استانبول بوصفه حزباً معارضاً للاتحاد والترقي، مما اوجد له صدى واسع بين الزعماء العرب، سواء في استانبول او في الولايات العربية؛ كونه منافساً لسياسة الإتحاديين، واتخذ شعار "الاقطار العربية للعرب" وأيد اللامركزية في الدولة العثمانية.
والأهم من ذلك انه كان لتأثر طلاب مدرسة الحقوق في بغداد بأفكار الحزب الحر المعتدل أهمية تكمن في أنه كان مستقلاً في وحدته وكيانه عن حزب استانبول، وترتكز مبادؤه على انصاف العرب، وإسترجاع حقوقهم، والمطالبة بما يعود على البلاد العربية بالخير، ويقارع الاتحاديين، ويضع حداً لمظالمهم، وفق صياغة معتمدة، وان كل ذلك كان يمثل أهداف الوطنيين "الطلاب"، في ذلك الوقت، وقد عدّت السلطات هذا الامر نشاطاً سرياً سياسياً بين الطلاب.
ان ما سبق عرضه كان سبباً مهماً لدفع الوالي جمال باشا، الى التخطيط لغلق مدرسة الحقوق بعد توليه ولاية بغداد في 26 آب 1911، وكانت حجته في ذلك ضعف مستوى التدريس فيها، غير انه في الحقيقة لم يكن يرغب في "أن يكون للعراق مكتب يتعلم فيه العراقيون الطرق القانونية"، التي كانت من شأنها أن تنبه أذهانهم الى المطالبة بحقوقهم القومية في المستقبل، وهذا بالفعل ما كان يتوقعه جمال باشا.
أثار قرار جمال باشا رد فعل كبير بين المثقفين واعيان بغداد والمدن الأخرى، لا سيما بين طلبة مدرسة الحقوق انفسهم الذين مارسوا نشاطاً واسعاً مهماً في جميع أبعاده، سواءً من حيث اساليب العمل التي مارسوها، او من حيث الاهداف التي اثاروها، وفي الواقع فإنه حدث في المدرسة اشبه مايكون بإضراب طلابي، إذ اصبح الطلاب "في هياج شديد، وإستمرت حالة الفوضى وعدم الالتزام"، هذا ماورد على لسان محمود صبحي الدفتري في جريدة الاهالي.
وقبل كل شيء اتخذ طلاب المدرسة قراراً يقضي بتأليف وفد طلابي يقابل الوالي جمال باشا، يتألف من ثمانية طلاب، اثنين من كل صف وشعبة الاحتياط، لكن الوالي رفض استقبالهم، وعلى اثر ذلك قرر طلاب الحقوق عقد اجتماع في دار لطف راقم، وهو من طلاب المدرسة، حيث "امتلأت الدار بالطلاب وعلت فيها الضوضاء والخطب الصاخبة" كما يقول محمود صبحي الدفتري وهو شاهد عيان، ثم قرر المجتمعون تخويل لجنة الثمانية من اجل إتخاذ ما يلزم للتعامل مع موقف الوالي.
عقدت اللجنة إجتماعها بصورة سرية، وهذه المرة في بيت الطالب محمود صبحي الدفتري، وعلى ما يبدو ان الشرطة كانت تراقب نشاط طلاب الحقوق وتحركاتهم، لذلك قررت اللجنة تأليف تنظيم خاص باسم "جمعية حقوق بغداد"، والعمل على اضفاء صفة قانونية عليها، لذلك وضعت لها نظاماً اولياً، وأجّروا بواسطة "مختار محلة" داراً لتكون مقراً لها، وقرروا تقديم طلب خاص للوالي باسم اعضائها، وبوصفهم الهيئة المؤسسة للجمعية، وجاء في الطلب ما يأتي، على حد رواية الطالب محمود صبحي الدفتري:
"نحن الموقعون أدناه، قررنا تأسيس جمعية بـاسم جمعية الحقوق في بغداد، غايتها تأكيد حقوق الدراسة، والمحافظة على كيان المدرسة، وحقوقها العلمية والإدارية، نقدم الى دولتكم في طيه منهاج الجمعية المذيل بختمها القانوني، وقد اتخذنا الدار الواقعة في محلة الحيدرخانة والمرقمة برقم كذا، مركزاً لجمعيتنا، نرجو التفضل بإجراء ما يلزم لمنح الاجازة اللازمة في هذا الشأن".
حمل الطلب اثنان من أعضاء لجنة الثمانية الى الوالي جمال باشا، وقد ابلغ الوفد بأنه سوف يباشر بأعمال الجمعية خلال (48) ساعة من تقديم الطلب، وقد استقبلهما هذه المرة الوالي وذيل الطلب بموافقته، وأوعز الطلب الى مدير الشرطة، والى مدير المعارف حسب النظام، وعلى حد تعبير الدفتري، ان هذا الامر أحدث "رجة عنيفة في البلاد"، وبعدها نهض وسلم الطلب الى الطالبين، واخذ يقول حسب رواية الطالب محمود صبحي الدفتري: "اهنئكم على اقدامكم هذا، وادعو لجمعيتكم بالخير والتوفيق، واني مستعد لقبول رئاستها الفخرية، وراجعوني كلما لاقيتم صعوبات وعراقيل في تنفيذ المشروع".
أثمرت هذه الضغوط والجهود وحققت نجاحاً مشهوداً، حيث تراجع الوالي جمال باشا بعد أن تلقى توجيهات واضحة بصدد الغاء قرار غلق المدرسة من استانبول، وقد طلب الصدر الاعظم منه أن يخبر "الحزب الحر المعتدل" في البصرة لا سيما بأن يتخلى عن فكرة غلق مدرسة الحقوق ببغداد، ويروي لنا الاب "انستاس ماري الكرملي على صفحات "لغة العرب" قصة تراجع جمال باشا على النحو الاتي:
"كان في نية حضرة والينا جمال بك أن يلغي مكتب الحقوق في بغداد بوسائط تهون هذه الضربة على اهل المدينة، لكن لما رأى في العرب من المدافعة التي لا تنكر، وان هذا الإلغاء سوف يخلق سوء عقبى، عَدل عن فكرته الاولى، واليوم يجري المكتب على مألوفة عادته".
أما ردود الفعل على هذا الامر فقد كانت كثيرة، منها ماقام به السيد طالب النقيب نائب البصرة بمراجعة الجهات المختصة، إذ أرسل الى طلبة مدرسة الحقوق برقية جاء فيها:
"أن الايدي التي تمس مدرسة الحقوق تقرر إستئصالها من جذورها".
أما موقف الصحافة، فقد كان شيء يُفتخر به، حيث ذكرت جريدة "صدى بابل" ما نصه:
"بلغنا أن فّي نية نظارة المعارف إلغاء مكتب الحقوق في بغداد في أول العام الجديدة، وقد ساءنا هذا الخبر جداً، وساء كل وطني لا يهمه الا تقدم وطنه بالمعارف والفنون والاداب على ما تؤمله الامة افتتاح مثله في كل ولاية لإنتشار التقدم، فإلغاء هذا المكتب الذي اخذت تنبع اثماره، بل دنا اجتنائها مما يوهم ثقتها بالتقدم والنجاح".
" ومهما يك من امر او داع، فليس في ذلك من اصابة او ترجيح، بل هو رأي غير مصيب".
تجسدت ابعاد حركة احتجاج طلبة مدرسة الحقوق لا فقط من خلال تراجع السلطة بخصوص غلق مدرستهم، بل من خلال السياسة الجديدة التي تبناها الوالي جمال باشا في تعامله معهم، فإنه عرض على مؤسسي (جمعية حقوق بغداد) كما اسلفنا أن يكون هو الرئيس الفخري لجمعيتهم، وانه أبدى رغبة في زيارة المدرسة شخصياً، وسجل لنا محمود صبحي الدفتري بهذا الصدد ما يأتي:
"أراد الوالي أن يصلح مابينه وبين الطلاب، فطفق يجس نبض التلاميذ لمعرفة ما إذا كانت المدرسة ترحب بإستقباله استقبالاً ودياً عند زيارته لها، ولكننا تمسكنا بشدة في أن تكون الزيارة رسمية يقوم بها الوالي متى شاء بدون أن يتلقى من الطلاب، او من ممثليهم اي خطبة ترحيبية، وانتهى الامر عند هذا الحد".
تحولت مدرسة الحقوق الى مؤسسة مرموقة ومؤثرة في بدايات القرن العشرين، بعد أن أثارت مهنة المحاماة في بداية ظهورها في العراق قبل ذلك التاريخ بأقل من نصف قرن إستياء الناس، وشكلّ هذا الامر تحولاً مهماً في إطار الصراع بين القديم والحديث لصالح الاخير منهما، ولم تتوقف عملية التحول المهمة هذه إلا بسبب نشوب الحرب العالمية الاولى 1914، إذ أغلقت مدرسة الحقوق أبوابها على اثر ذلك، بعد أن بلغ عدد المتخرجين فيها الى ذلك الحين حوالي (150) طالباً، ومنهم (محمود صبحي الدفتري، وحسن رضا، وعبد الوهاب شاكر، وعبد العزيز الخياط، ومحمد حسين البزركان، وحمدي صدر الدين، وقاسم ثروت، وناجي الزهاوي، وكمال الشامي، ومحمود جلال، وعبد الله صائب، وعبد الرزاق الروشيدي، وعبد المجيد ال جميل، وعبد الحميد الشيخ علي، ومحمد حسن كبة، وعبد الله الشاوي، ورؤوف الجادرجي، ونوري القاضي، ومحمد زكي، وعطا الخطيب، وغيرهم) ممن تلقدوا وظائف مهمة في مرحلة تأسيس الدولة العراقية فيما بعد.
أماّ الطلاب الذين كانوا في الصفوف الاخيرة من مدرسة الحقوق، وأكملوا الدارسة فيما بعد نذكر منهم، (إبراهيم كمال، ومحمد علي محمود، وإبراهيم زهدي، وأحمد سامي، حسن سامي تاتار، وعباس العزاوي، ويوسف لوقا، وإبراهيم الواعظ، ومحمد صدقي، وتوفيق النائب، وداود السعدي، وحوكي عنبر، وخلوصي الناصري، ومصطفى الخليل، واحمد طه، ومجدي النائب، وعبد الجبار جميل، وكامل سعيد، واحمد نيازي، وشوكت السعدي، ومكي الاورفلي، وعبد الجبار التكرلي، وسليم معروف، واحمد الراوي، وعبد الرزاق القاضي، ومصطفى العمري، ومحمود خيري النائب، وخليل مردان، وعبد القادر جميل، وتوفيق فكرت، وفهمي نصرت، وحسين جاهد، وعبد الوهاب أفندي، وغيرهم) ممن تحول جلهم الى اسماء معروفة على الصعد السياسية والإدارية والفكرية فيما بعد.
عن: رسالة (كلية الحقوق العراقية (1928-1958م) دراسة تاريخية)