من تاريخ اسقاط الجنسية في العراق

من تاريخ اسقاط الجنسية في العراق

د . عقيل الناصري

تعرض الكثير من المثقفين العراقيين في مختلف المراحل في تاريخ العراق الحديث، الملكية كانت أو الجمهورية وحكوماتها القومانية.. للنفي القسري الداخلي (الصمت) أو/و اسقاط الجنسية عنهم، وهذا ما ميز المثقف والثقافة العراقية في العصر الحديث عن غيرها من الحركات الثقافية العربية أو الاقليمية، وذلك بسبب :

الطابع الاستبدادي للسلطة ؛ جنوح الانتلجنسيا العراقية نحو الراديكالية والمساواتية والعلمانية ؛ وإلى نضالها من أجل إبعاد التفسيرات الدينية والميثولوجية غير العقلانية عن الظواهر الاجتماطبيعية ؛ وفي تبنيها للفكر الاشتراكي بمدارسه المتعددة ؛ ومناهضتها للانغلاق الفكري والتفكير السكوني الماورائي ؛ والمطالبة بالحد من الفوارق الطبقية في المجتمع والتفاوت المعرفي التعليمي ؛ واستنهاض القوى الاجتماعية في المدينة والريف من أجل تحقيق مطاليبها الأساسية .

انعكست هذه الظاهرة في تعامل الحكومات الاوليغاركية للمرحلة الملكية وفي الزمن القوماني للجمهورية الثانية حيث استبدت "...النزعة التسلطية ليست مجرد نتيجة لعملية بناء الأمة، بل إنها إحدى أسبابها أيضاً وعلة من عللها. ففي نظام الحكم الملكي الهاشمي والحكمين البعثيين على وجه الخصوص لعام 1963 ولما بعد عام 1968، قوض الحكم التسلطي على نحو خطير، إذا لم نقل إنه قد دمر مؤسسات المجتمع المدني من خلال شق صفوف جماهير الأمة وإجبار الأنشطة التنظيمية على إتخاذ طابع السرية أو دفعها لكي تعيد تشكيل نفسها في نهاية المطاف خارج حدود العراق... والعنف الثقافي الموجه ضد المجموعات الأثنية التي سعى لاجتثاث تراثها من السجلات التاريخية... ".

وعليه فلظاهرة النفي القسري اسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التعددية الفكرية والاجتماعية والدينية والأثنية للشعب العراقي، فقلما وجدت، بالعالم العربي حسب، طوائف وقوميات واقليات اثنية ومذهبية في وطن واحد كما وجدت في جغرافية العراق مقارنة. كما إن هذه المكونات الاجتماعية الصغيرة تميل دائما إلى من يعِدُها بالمساواة وإقرار حقوقها الطبيعة والمكتسبة. كما يلعب الميل العراقي للثورة والتمرد على السلطان، مهما كان، قد اصاب عقل الكثير من هذه الفئات، وقد ظهر هذا الميل منذ أقدم الحضارات في وادي الرافدين، حيث كانت النظرة المساواتية ذات البعد الاجتصادي ما تميز حركاتها الاجتماعية وكذلك مدارسها الفكرية الفلسفية أو/و حتى الدينية، المجردة أو العملية. كما أن مكانة العراق الجيوسياسية، كان أحد أهم عوامل الجذب للقوى الخارجية للسيطرة عليه، وبالتالي استخدام العنف والقوة والتدمير للبنى التحتية، كي يسيطر على العراقيين، وهذا ما تجلى بأعلى صورها في الاحتلالات الثلاثة الأخيرة في العراق المعاصر، وبالأخص الآخير منها وما يخطط لكيانه الجيوسياسي.

يوضح تاريخية النظام السياسي العراقي المعاصر، أن الحكومات الملكية قد سبق وأن أصدرت مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 في الوزارة الكيلانية الأولى (20/3/1933- 8/11/ 1933) وأول من طبقته على المثقفين هي حكومة جميل المدفعي الرابعة (17/8/1937- 24/12/ 1938) التي قامت بنزع الجنسية عن كل من: القصصي والصحفي عبد القادر إسماعيل البستاني من مؤسسي جماعة الأهالي، وأخيه يوسف اسماعيل البستاني والنقابي مهدي هاشم عضو اللجنة المركزية لجمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار، وهم من العاملين في حقل الثقافة العراقية ومن المنتمين للحركات الجذرية وذلك عام 1937.

واستمرت هذه الظاهرة فيما بعد انتكاسة حركة مايس 1941 حيث تم اسقاط الجنسية العراقية المكتسبة عن ساطع الحصري وغيره من المتجنسين العرب وبالاخص من الضباط وبعض المدرسين من ذوي التوجه القومي، كذلك اثناء الانتفاضة الشعبية في كانون الثاني عام 1948 حيث تم اسقاطها عن الكثير من المتجنسين العرب منهم حسين مروة وعائلته وغيرهم.

كما صدر قانون رقم 1 لسنة 1950 لاسقاط الجنسية العراقية الجماعية عن يهود العراق في حكومة توفيق السويدي الثالثة (5/2/1950-24/9/1950) والكثير منهم مثقفون عضويون من ذوي النزعة التقدمية واليسارية وممن لهم موقع في الثقافة العراقية عامةً .

ومنذ عام 1954 وفي حكومة نوري السعيد الثانية عشر (3/8/1954-17/12/1955) تم نزع الجنسية عن العديد من الادباء والمثقفيين، وبخاصة العضويين منهم، على سبيل المثال: الأديب والمناضل كاظم السماوي، وداعية السلام عزيز شريف والدكتور الاكاديمي صفاء الحافظ، وبعدها عن المحاميين التقدميين كامل قزانجي وتوفيق منير وعن الروائي التقدمي غائب طعمة فرمان وغيرهم.

وفي الوقت نفسه عدلت الحكومة السعيدية المذكورة في جملة من القوانين وجعلتها أقسى في العقوبات المفروضة، كما شرعت جملة قوانين وأصدرت عدة مراسيم زجرية وعقابية بحق النشطاء من المثقفين العضويين، إذ شرعت 6 مراسيم تعسفية عام 1954 ، كان من عاقبتها شلل الحياة السياسية والفكرية ووسعت من ذرائع اسقاط الجنسية، وهيأت الأجواء لعقد حلف بغداد العسكري. إن التمعن في ماهيات ومضامين هذه المراسيم، سيوضح أحد أهم أبعاد ما لاقاه المثقفون من جهة ومن جهة أخرى عمقت هذه المراسيم من الأزمة البنيوية للنظام الملكي ومدى تعبيدها بصورة غير مباشرة، إلى الاسراع في تبني صيرورة تغيير النظام من قبل الانتلجنسيا العسكرية وتعمق نضال القطاع المدنية منها وتهيئة ذاتها نفسيا وتنظيميا للمساهمة بالتغيير الجذري.. وهذا ما تحقق عند انبثاق جبهة الاتحاد الوطني.

وبعكس هذا التوجه الذي طبقته الحكومات القومانية (الملكية أو الجمهورية وبخاصة في الجمهورية الثانية،على السواء) فإن حكومات الجمهورية الأولى (14 تموز 1958- 9 شباط 1963) عملت وشرعت ما يناهض وينفي هذا التوجه، إذ أعادت الجنسية لمن أسقطت عنهم ورغب بالعودة، حيث سمحت لهم بالعودة للوطن بما فيهم الزعيم الكردي مصطفى البرزاني واتباعه. كما "... سُمح لأكثر من 450 يهوديا طردهم توفيق السويدي (1891- 1968) ونوري السعيد (1888 -1958) بالعودة إلى العراق وفقا للقانون الجديد، الذي نشره الزعيم قاسم إذ يحدد إعادة جنسية هؤلاء اليهود وممتلكاتهم... ".

وعليه لم تشهد حكومة الجمهورية الأولى أي فعل لاسقاط الجنسية، بل بالعكس، حاولت إلغاء تصنيف العراقيين إلى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية من خلال مشروع قانون الجنسية الجديد الذي أعدته الحكومة ، لكنه لم يشرع بسبب انقلاب شباط الدموي 1963.

وعادت هذه الظاهرة (اسقاط الجنسية) بقوة كبيرة في زمن حكومات الجمهورية الثانية القومانية (9 شباط 1963- 9 نيسان 2003) وبخاصة في عهد حكومة انقلاب شباط 1963، حيث دشنته بإصدار قانون الجنسية الجديد رقم 43 لسنة 1963 الذي أقر بموجب قرار مجلس قيادة الثورة رقم 666 الصادر في7/5/1980، وقد إلغى القانون الجديد { قانون الجنسية الأول والصادر عام 1924 في زمن الحكومة جعفر العسكري الأولى (23/11/1923-3/8/1924) }. وكان يحتوي على نصوص تعالج موضوع سحب الجنسية العراقية، إذ بموجب هذا القرار تم اسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي متجنس من اصل اجنبي حسب ما يراه وزير الداخلية .

كما تضخمت هذه الظاهرة بحيث تحولت من ظاهرة فردية إلى تهجير اثني جماعي، في كل حكومات الجمهورية الثانية وبخاصة بعد الحصار الاقتصادي المفروض على العراق بعد غزوه للكويت. بمعنى آخر إن اسقاط الجنسية عن المحوريين والنشيطين من الانتلجنسيا العراقية اصبحت ظاهرة ملموسة في تاريخ العراق المعاصر من جهة، وقد اصابت الجناح الراديكالي من هؤلاء وبالتخصيص القوى التقدمية من المثقفين العراقيين ذوي التوجهات العراقوية واليسارية والشيوعية، من أمثال: الجواهري الكبير، د. فيصل السامر، ذنون أيوب، د. صلاح خالص، د. عزيز الحاج، د. صلاح خالص، عبد القادر إسماعيل مهدي هاشم وغيرهم بالمئات .

عن بحث ( تاريخ الانتلجنسيا العراقية )