مطرقة طارق علي ضد الأصولية الإسلامية والأصولية الأمريكية

مطرقة طارق علي ضد الأصولية الإسلامية والأصولية الأمريكية

منتصر حمادة

مؤلف جرئ وصاحب مواقف نقدية صريحة ضد صناع القرار العالمي، وترجمة إبداعية ، أنجب هذا العمل النوعي الذي يحمل عنوان: "صدام الأصوليات.. حملات صليبية ، جهاد، حداثة"، للمؤلف والناشط البريطاني/الباكستاني، طارق علي، في عمل ترجمه الناقد والمترجم المغربي إسماعيل العثماني.

نقد أذناب واشنطن ولندن

ونبدأ بالنقد الصريح والموجّه إلى الدولة العبرية، وخلفيات التأسيس، حث يختزل الكاتب بامتياز المشهد في تأدية الفلسطينيين ضريبة معاناة اليهود من المذابح المُدبرة ضدهم في روسيا التسارية إلى مجازر وشويتز وتريبلينكا، والتي للتذكير، تعود مسؤوليتها إلى الحضارة البورجوازية. وهاهم الفلسطينيون يجبرون على دفع ثمن تلك الجرائم، بينما يقوم الغرب بتسليح إسرائيل وتسليمها "أموال إراحة الضمير".

وبالنسبة لقلة من الدول الأوروبية التي يزعم البعض أنها تتعاطف مع القضايا العربية المصرية، يرى طارق علي أنه من الوهم الاعتقاد أن الثلاثة الكبار في الاتحاد الأوروبي هم وحدهم الذين اصطفوا "ككلاب صيد مطيعة في خرجات القنص الأمريكية"، متوقفا تحديدا عند الدول الإسكندنافية، التي كان العالم في السابق يحترمها على استقلاليتها، لأنها لم ترد التخلف عن الركب، وعلى غرار كلاب مطيعة من فصيلة البودل (الصغيرة والمجعدة)، تبعت زعماء الإمبراطورية: كانت النرويج معتزة بدورها في خلق بانتوستانات فلسطينية، وقامت فنلندا بالسمسرة في قصف يوغوسلافيا وكانت الحكومة السويدية طرفا في تجويع العراق، فيما ساهمت الدنمارك بنائب للملك في كوسوفو.

بالنسبة لحرب النفط الأولى (حرب 1956)، فلا يتردد المؤلف بوصف أغلب الأنظمة العربية آنذاك بأنها كانت "أذنابا لواشنطن ولندن"، وخصّ بالذكر تركيا وباكستان وإيران والأردن والعراق، أما سوريا، فقد كانت شبه ذنب. أندونسيا ومصر فقط هما اللتين كانتا مستعدتين لنهج سبيل مستقل، وسوف تعاقبان عقابا شديدا على تحديهما، ولهذا السبب، كان التفكير الكامن خلف "حرب النفط الأولى" واضح المعالم، حيث كانت بريطانيا وفرنسا تريدان تدمير البديل الوطني الذي تقدمه مصر الناصرية لحماية مصالحها في أماكن أخرى بالمنطقة، كما خشيت بريطانيا أن تفقد العراق، بينما كانت فرنسا قلقة من نشأة حركة وطنية في الجزائر، وسعى النظام الصهيوني في إسرائيل لإضعاف مصر ومنع انتشار الأفكار الوطنية المتشددة، أما انعكاسات هذا الاندحار فكان لها وقع معاكس.

لنتأمل قراءة المؤلف لـ"صدمة" قرار الوحدة المصرية السورية: في فبراير 1958، اتحدت مصر وسوريا فظهرت إلى الوجود "الجمهورية العربية المتحدة"، ملاحظا أن مثل هذا الاندماج هو الذي قد مكن صلاح الدين الأيوبي في القرن الميلادي الثاني عشر من توحيد العرب واسترداد القدس، ولأن ذاكرة العرب التاريخية تنفذ عميقا جدا، فقد اهتزت قلوب بعض العرب لهذا الخبر.

نقد المعايير المزدوجة

ينتقد طارق عليّ بشدة السياسات الغربية القائمة على خيار الازدواجية في التعاطي مع أبرز القضايا العربية والإسلامية، مستشهدا على الخصوص بما جرى في حقبة ما غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للكويت، ومتسائلا: إذا لم تقم أي دعامة من دعائم الحجاج لصالح قصف العراق وحصاره، فلا زال هناك التقهقر الأكثر انتشارا، مضيفا أنه يمكن لبلدان أخرى أن تكون توسعية هي الأخرى، وتسعى للحصول على الأسلحة النووية بطريقة أنجع، وتعذب أو تقتل أعدادا كثيرة من مواطنيها، ولكن ما الذي يتبع؟ لأنه لا يمكن علاج كل الانتهاكات بضربة واحدة، وكون فعل الشر في مكان آخر لا يمكن تصحيحه بالفشل في فعل خير هنا، وحتى إن قمنا بالشيء الصحيح مرة واحدة، يضيف الكاتب، أليس هذا أفضل من عدم القيام به إطلاقا؟ متهكما بسخريته اللاذعة، أليست المعايير المزدوجة خير من لا معايير، أليس هذا هو الشرعي المتبع من طرف أوفياء المستخدمين في أي شيء وكتاب الأعمدة والمتوددين لنظامي واشنطن ولندن، والذي يسمعه المرء في تلك المناسبات التي يكون فيها نفي وقائع مزعجة، أي الواقع الإسرائيلي والإندونيسي والتركي وما إليها.

يقرأ طارق علي دكتاتورية ضياء الحق العسكرية، المدعومة كليا مرة أخرى من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أسوأ فترة في تاريخ البلاد، حيث كان رجال ضياء الحق أغبياء، صما وعديمي القلوب، عندما قرّر النظام الحاكم الجديد استغلال الإسلام لمصلحته وكان مؤيدوه الملتحون، البلهاء تعميما بشكل لا يصدق، انتهازيين حتى النخاع، لأنهم جمعوا بين الدين وأقبح أنواع التجديف، ومن ينكر أنه في ظل حكم ضياء الحق، بتر الطغيان والأكاذيب جيلا بأكمله، وتقرر تطبيق الجزاءات الإسلامية والجلد على الملإ ومأسسة الشنق، وعوملت سياسة باكستان الثقافية بوحشية لا زالت تعاني من عواقبها إلى اليوم، كما استمر العمل على البرنامج النووي.

من تطبيقات سياسات المعايير المزدوجة، نقرأ أيضا للمؤلف أننا نجد في باقي العالم بليون شخص يعانون من سوء التغذية وسبعة ملايين طفل يموتون بسبب الديون المستحقة على الدول التي يعيشون بها، مُشيرا إلى أن هذا الوضع هو المسؤول عن اليأس والكراهية اللذين يظهران في أطراف عدة من العالم ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، حيث أعطيت للسنغال تعليمات من طرف "صندوق النقد الدولي" لسحب السيادة على مياهها الإقليمية، وإلا سوف لا تعاد جدولة ديونها، وامتثلت السنغال بالطبع، وكانت النتيجة أن أخذت السفن الأوروبية الأسماك إلى الأسواق الممتازة في "الاتحاد الأوروبي"، بمعنى آخر، أخذ الغرب الغني تلك المياه التي عاش منها صيادو السنغال لآلاف السنين، ويعاني شعب هذا البلد لأن هناك الآن نقصا في السمك، كم أعطيت الأوامر لبوليفيا لخصخصة مياهها، فمُنِعَ الفقراء من جمع مياه الأمطار التي تراكمت على سطوح منازلهم.

هذا هو العالم الذي نعيش فيه، عالم منسجم قطعا مع النداءات العالقة بالتعامل الإنساني والرحمة الاجتماعية التي يقول بها المتظاهرون ضد العولمة، بل هو كما يقول المدافعون عن هذا النظام، عالم ليس في الإمكان إبداع أحسن منه، "أبتروا جميع العواطف السياسية"!

دور حضانة لتخريج متعصبين

من وجهة نظر المؤلف، يمكن إيجاز مشروع تربية أطفال و"خريجي" المدرسة الطالبانية في الوصفة التالية: حفظ آيات من القرآن عن ظهر قلب وضرورة عيش حياة ورعة، تعلم هؤلاء الأطفال التخلص من جميع الشكوك، وإقناعهم بأن الحقيقة الوحيدة هي الحقيقة الربانية، ومدونة السلوك الوحيدة هي تلك المكتوبة في القرآن والأحاديث النبوية، والفضيلة توجد في الطاعة العمياء، وكل من يتمرد على الإمام فإنما يتمرد على الله.

كان الهدف واضحا، هذه المدارس الدينية لها وظيفة واحدة: إنها دور حضانة لتكوين وتخريج متعصبين، وقد نصت كتب تعليم مبادئ القراءة مثلا على أن حرف الجيم في اللغة الأردية يعني "جهاد" والتاء تعني" مدفع" والكاف تعني "كلاشنيكوف" والخاء تعني "دم"!

وبالطبع، عندما يكبر التلاميذ، يلقنون استعمال أسلحة يدوية متطورة وكيفية صنع وزرع القنابل، تحت إشراف مباشر من أعضاء من "استخبارات المصالح المتفاعلة"، كما كانت فرصة لهؤلاء الأعضاء لمتابعة تطور الطلبة، أو "طالبان" الواعدين، حيث يتم اختيارهم لاحقا وإرسالهم لإجراء تداريب أكثر تخصصا في مراكز عسكرية سرية هي الأفضل لشن "الحرب المقدسة" ضد الكفار في أفغانستان.

وبالنتيجة، أنتجت بذور العطايا التنينية المزروعة في 2500 مدرسة محصولا، مقداره 225.000 متعصبا مستعدين للقتل والموت من أجل عقيدتهم أنى أُعْطِى لهم قادتهم الدينيون الأوامر بذلك، وقد اعترف وزير الداخلية في حكومة بنازير بوتو خلال الولاية الثانية، الجنرال نصير الله خان بابار، لأصدقاء له بأنه ما إن رأى بأن الطالبان باتوا يشكلون تهديدا داخل باكستان، قرّر بأن لا لحل الوحيد للمشكل القائم هو إعطاء المتطرفين بلدا خاصا بهم. هذه الحجة كانت مخادعة وقتئذ، لكن على ضوء ما حصل في السنوات الأخيرة، يستحق بابار أن يحاكم بتهمة "مجرم حرب"!

مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وصلت "الحرب الباردة" إلى نهايتها، تاركة خلفها دولا يتيمة في كل قارة من القارات، كان الوقع على باكستان كارثيا، حيث انتهى دور المجموعات الأصولية، ومن غير المفاجئ أن تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن تزويدها بالأموال والأسلحة، وبين عشية وضحاها، انقلب هؤلاء إلى مناهضين عنيفين لأمريكا وبدؤوا يحلمون بالانتقام، وانتاب قادة سياسيون وعسكريون باكستانيون، ممن خدموا مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بولاء ودون انقطاع منذ 1951، شعور بالإهانة جراء لا مبالاة واشنطن يهم، وقد لخّص جنرال متقاعد هذا الوضع بشكل جعل المؤلف يتبنى حديثه، حيث قال: "كانت باكستان العازل الطبي الذي احتاجته الولايات المتحدة الأمريكية لولوج أفغانستان، قمنا بدورنا فظنوا بأنه في إمكانهم صرفنا في الدورة المائية بالمرحاض"!

نقد جذور الهيمنة الأمريكية

استحضرنا أعمال الباحث السوري منير العكش، أبرز كاتب عربي متخصص في التنقيب عن المآسي التي تعرض لها الهنود الحمر، في معرض استشهاد الكاتب ما صدر عن كونانت، رئيس جامعة هارفارد الأمريكية، "منتدى هيرالد تريبيون بنيويورك" من أنه "في المقام الأول، الأمة الأمريكية، بخلاف جل الأمم، لم تتطور انطلاقا من دولة تأسست على غزو عسكري، لهذا لا توجد في تقاليدنا إطلاقا فكرة أرستقراطية منحدرة من الغازين وتمنح حق الحكم بموجب النسب على العكس من ذلك، نحن طورنا عظمتنا في فترة اكتسح فيها مجتمع مرن قارة غنية وخالية".

وإذا كان الأمر كذلك، والتقييم طبعا للمؤلف، ألم تكن الحروب الهندية حقيقية؟ أكانت معارك وهمية؟ أم أن الأصولية البروتستانتية قدمت تبريرا أخلاقيا لسرقة أراضي على نطاق واسع كانت ملكا جماعيا لمختلف القبائل الهندية الأصلية، وكذلك للمجازر الجماعية التي ارتكبت ضد "الوثنيين"؟ تلك الأرض التي بنيت عليها جامعة هارفارد انتزعت من الهنود بفعل "الغزو العسكري" إعادة رسم خريطة أمريكا الشمالية كانت عملية طويلة الأمد وتتبع آثارها بعناية كبيرة المؤرخ أوليفر لافارج في "طالما أن العشب سينمو".

لقد أدت الأصولية الكاثوليكية دورا مماثلا في الغزو الإسباني لأمريكا الجنوبية ولو أن سياساتهم كانت تحمل خيطا رقيقا من التميز، حيث أنهم استعبدوا وقتلوا وسمحوا بموت أعداد هائلة، ولكنهم كذلك دشّنوا حملات اعتناق جماعي للكاثوليكية: هذا هو الذي مكن السكان الهنود الأصليين من النجاة بأنفسهم، وقد ظلوا يشكلون الأغلبية في المكسيك وبوليفيا والبيرو والإكوادور، بينما ذابوا في مناطق أخرى، مع بروز النخب الهجنية، التي يسيطر عليها أشخاص من أصول إسبانية، وحدها الأرجنتين التي تمت فيها إبادة جميع الهنود، كانت الكنيسة الكاثوليكية مستعدة للتعامل مع غزواتها في العالم الجديد بشكل أفضل من البروتستانيين في الشمال، وهي، في كل الأحوال لم تتقدم إلا بعد أن قامت في بلدها (الأندلس/ إسبانيا) بإجراء اختبار تدريبي دموي شامل، حروب "الاسترداد" ضد المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، المتبوعة بطرد جماعي وتمسيح بالقوة للإسبان المسلمين واليهود، عندما دربت وأعدت المحاربين الأصوليين الذين غزوا أمريكا الجنوبية.

الملا عمر لا يُمثّل مستقبل الإسلام

"هل تغير شيء ما بالفعل بعد 11 أيلول 2001م؟ هل هناك تحول أساس في اتجاه السياسة الدولية؟"، أسئلة ضمن أخرى، تهم المراقبين العربي على الخصوص، وتهم مؤلف الكتاب الذي يجيب بالنفي، ملاحظا أن التعديلات التي عرفتها السياسة الأمريكية خلقت مزيدا من عدم الاستقرار في أرجاء من العالم دون أن تفعل إلى اليوم أي شيء لمعالجة مصدر مسببات المشكل، كما أن استعراض رد فعل الولايات المتحدة الأمريكية على أحداث نيويورك وواشنطن لا يكشف عن أشياء جديدة تذكر، إلا أن ذلك قد يتغير إذا بلغت الاضطرابات في العربية السعودية وباكستان مستويات أعلى.

وبالنسبة لجماعة أسامة بن لادن ومجموعته، فلا يجزم طارق علي أنهم وصلوا إلى طريق سياسي مسدود، بالرغم من أن ما قاموا به كان استعراضا ضخما، ولكنه لم يكن أكثر من ذلك، وبلجوئهم للحرب ردا على هذا الفعل، عزّزت الولايات المتحدة الأمريكية أهميته.

ونختتم بالسؤال المؤرق لمشروع الحركات الإسلاميين: "ماذا يقدم الإسلاميون؟"، يتساءل المؤلف، سوى مطالب بالعودة إلى ماض لم يكن له وجود، مما كان رحمة بالناس في القرن الميلادي السابع، مُقرّا أنه إذا كانت إمارة أفغانستان هو النموذج الذي يريدون فرضه على العالم، فإن معظم المسلمين سيحملون السلاح ضدهم، لاعتبارات عدة، أهمها أن أسامة بن لدن والملا عمر لا يمثلان مستقبل الإسلام، وإذا تبين أن الأمر كذلك فسوف يكون كارثة عظمى على الثقافة التي نتقاسمها.

عن: موقع المصري اليوم