نجيب الريحاني والسينما

نجيب الريحاني والسينما

يوسف العاني

نجيب الريحاني قمة من قمم المسرح اولاً وواحد من علامات مضيئة في سياق السينما المصرية اذ ظل وحتى آخر يوم في حياته يؤكد قيمة (الانسان) حقيقة لا يمكن اغفالها او انكارها وبعمق هذه الحقيقة حين يقدمها مجسدة على المسرح او في السينما التي ظلت تفتقر الى (الانموذج) المقنع من خلال (الكوميديا) عالىة المستوى

التي لا تنجر الى التهريج والسطحية والابتذال في كل المشاهد المضحكة اذ تظل (المرارة) المؤسية تقبع خلف الحدث صورة اوحواراً او تعبيراً بليغاً ليدخلنا دون ان ندري آنذاك بما يسمي بـ(الكوميديا السوداء).

هذا الريحاني الذي سحرنا عبر ما قدم على المسرح في مراحل مختلفة وتغير بل تطور تطوراً ملحوظاً حتى آخر مسرحية قدمها عام 1946 هي (سلاح اليوم) التي كان للسينما من هذه المسرحيات ومواضيعها نصيب ظل علامة متميزة في مسارها وتأكيداً على قيم اخرى تضاف الى المفهوم الذي شاع في افلام الكوميديا السطحية التي لا تعمل الا لإثارة الاضحاك على (الانسان) الذي يصنعه الريحاني في اعلى قمة من قمم الدنيا. الحديث عن الريحاني يطول ويطول فقد قدم منذ عام 1916 اول مسرحية ليبلغ عددها 81 مسرحية قبل ان يفارق الحياة عام 1949 وهـــــو يتألق في فيلم (غزل البنات).لكن الذي دعاني الى الاشارة اليه والى فنه الخالد احد افلامه (لعبة الست) الذي عرض قبل ايام في احدى القنوات الفضائية والفيلم انتج عام 1946 اي قبل ستين عاماً وكان مثلا وفي العام نفسه فيلم (احمر شفايف) وكلا الفيلمين اخرجهما ولي الدين سامح تلاهما فيلم (ابو حلموس) ثم غزل البنات عام 1949.

الريحاني سبق ان دخل السينما وهو في قمة المجدالمسرحي عام 1937 في فيلم (سلامة في خير) ليكسو كل المكونات الهزيلة للفيلم الكوميدي الشائع آنذاك التي تميزت بفراغها الفكري وسطحيتها التي تخاطب المشاهد وتضحكه -كما اشرت- على الانسان. (سلامة في خير) وبعده فيلم (سي عمر) عام 1939 الذي عرض عام 1940 واخرجه نيازي مصطفي بقيا في الذاكرة ليعود الريحاني محملاً بعمق تجربته المسرحية وحسابه الدقيق في اهمية الهزل العميق الذي قلنا عنه (الكوميديا السوداء) بالمفهوم الحديث للضحكة المُرّة التي تثير التفكير بالحالة المجسدة امام المشاهد. و(لعبة الست) الفيلم الذي عرضته علينا احدى القنوات الفضائية يثير فينا ومن جديد تساؤلاً عن افلام شارك في تقديمها جمع من فنانات وفناني مصر في مرحلة تميزت بالامانة الفنية -ان جاز لي هذا التعبير- هذه الامانة التي فقدت او فقدها صانعو السينما بعد حين لتتحول السينما عندهم (صنعة) سهلة خالىة من المقومات الفنية الغنية بالطرح العالى لكل جوانب الحياة ايجابها وسلبها، ما يبكي وما يضحك، وليصير السوق هو مكان العرض وليست الشاشة النظيفة البيضاء وتصبح مشاهدة بعض من تلك الافلام العتيقة المشبعة بـ(العتق) الفني الامين دافعاً لأن نتمنى لو ان السينما المصرية عادت الى الوراء سنوات وسنوات وظلت منطلقاتها تلك النماذج القيمة النبيلة.

قبل حديثي هذا وقبل سنوات دعوت الى اقامة ندوة مع الصديق سمير فريد الناقد المعروف في القاهرة الى اعادة (تقويم) السينما في مراحل مضت، كنا لا نعير اهتماماً لأفلام نعدها الان ذات قيمة فنية كبيرة ولم نكن آنذاك نهتم بها او نشير اليها ونكشف الابداع فيها بل لا نكتشف ذلك الابداع واشرت الى بعض من افلام نيازي مصطفي التي تقع في سياق (الخيال العلمي) والى نماذج من افلام (موسيقية) تقف في مصاف افلام عالية المستوى من الدقة والجمال في العرض مع بساطة الفكرة والىسر في طرح الموضوع الخالى من الافتعال والمبالغة.

(لعبة الست) الذي ضم: نجيب الريحاني وتحية كاريوكا وبشارة واكيم، سليمان نجيب، ماري منيب، عزيز عثمان، عبد الفتاح القصري، حسن فايق، واخرين لا اتذكرهم، كلهم فارقوا الحياة لكنهم امامي اليوم محط احترام واعتزاز وتقدير ومحبة. الفيلم جمعهم بموضوعه البسيط لكن فكرته وطريقة معالجتها كانت مشبعة بالسخرية العميقة تعظيماً لقيمة الانسان البسيط الخالى من الحــــــقد والكراهية وسوء السلوك. انسان يحلم بحياة تشيع فـــيها الدعة والمحبة وروح التعاون. الاحداث والمشاهد والحوار تسير كلها برهافة خالىة من الصنعة المفبركة باخراج مقبول ومريح. وكل الشخصيات دون استثناء رسمت لنفسها مواصفات (كاركتر) يتميز عن الشخصيات الاخرى لكنها ليست (نشازاً) حتى في خروجها عن الواقع المألوف احياناً. فيلم يستطيع ان يؤثر فينا اليوم ويمتعنا ويدعونا الى التفكير بما كان والذي ظل منه نزر قليل في افلام يتبناها فنانون جديرون بالاحترام اما الكثير مما طرح عبر تلك السنوات فقد خرج - كما اشرت - عن الفهم الفني الامين للسينما ليسقط في السوق بضاعة رديئة مع الاسف.

سبق لهذه المقالة ان نشرت في المدى عام 2011