هل ذهب العسكري بنفسه الى الموت ؟!

هل ذهب العسكري بنفسه الى الموت ؟!

رياض فخري البياتي

أدت الخلافات والطموحات الشخصية دوراً كبيراً في قيام انقلاب يوم 29تشرين الأول 1936م ، والذي عد أول انقلاب عسكري في تاريخ العراق الحديث والمعاصر .

ولما سمع الملك غازي بوقوع الانقلاب استدعى إلى قصره كل من ياسين الهاشمي ونوري السعيد والسفير البريطاني لمناقشة الموقف لكن الملك غازي فضل استقالة الوزارة ، وبخاصة بعد قيام الطائرات بإلقاء أربع قنابل استهدفت مدخل مجلس الوزراء ووزارة الداخلية ودار رئيس الوزراء ودار البرلمان .

امتلك جعفر العسكري سمعة عالية بين ضباط الجيش ، فأراد أن يستفيد من ذلك ليحول دون توسع الحركة،إذ قام بإرسال كتب موجهة إلى بعض كبار ضباط الجيش ( الفريق بكر صدقي , والزعيم إسماعيل نامق ، والعقيد إسماعيل حقي ، والعقيد سعيد التكريتي, والفريق عبد اللطيف نوري ) بيد النقيب عبد المطلب الأمين والنقيب حسين الربيعي ، أما الأول فانه لم يوصل الرسالة الشفوية التي كلف بنقلها الى العقيد سعيد التكريتي ، اذ علم منه بمقتل جعفر العسكري ، أما الثاني فقد أوصلها إلى الضباط الذين نيطت به مهمة إيصال الرسائل لهم كما قام جعفر العسكري بقطع الاتصالات اللاسلكية بين بغداد وقادة الجيش الزاحف إليها ، وطلب استدعاء القوة الاحتياطية ، وقيل إن النقيب علي غالب الأعرج أحد اتباع بكر صدقي، هو من وشى قادة الانقلاب بإجراءات جعفر العسكري تلك .

امر بكر صدقي الفريق عبد اللطيف نوري بالرد على تلك الرسائل، فأرسل برقية موجهة من قائد الفرقة الأولى الى وزير الدفاع طلب فيها تنحية الوزارة الحاضرة ، كما أرسل برقية أخرى أشارت إلى قدومه إلى بغداد مع الفرقة الثانية لإسقاط الوزارة.

طلب جعفر العسكري من الملك غازي أن يأذن له بكتابة رسالة شخصية موجهة من الملك غازي الى قائد الانقلاب بكر صدقي ، ويحملها جعفر العسكري بنفسه ليصرف نظر بكر صدقي عن دخول العاصمة(2)، بعد ان ألقت الطائرات قنابلها على المدينة .

تعددت الروايات حول الأسباب التي دفعت جعفر العسكري للذهاب بنفسه لمقابلة قائد الحركة , ثمة رواية تشير الى قيام رئيس الوزراء ياسين الهاشمي باستفزاز جعفر العسكري لما طلب منه تحمل مسؤولياته كونه وزيراً للدفاع ، قائلاً له : (( تقول ان الجيش يحبني وانا الذي شكلت الجيش ، ها قد ثار الجيش وانت لا تعلم بذلك ، ولو كنت مكانك لما بقيت في الجيش لحظة واحدة )) .

بينما أشارت المصادر البريطانية الى ان جعفر العسكري هو من أراد الذهاب بمحض أرادته لمقابلة الفريق بكر صدقي والانقلابيين ولأنه شخص يمتلك الجرأة والشجاعة التي دعته لاتخاذ ذلك الموقف .

وقد أفادت رواية أخرى أن جعفر العسكري أراد الالتحاق بالانقلابيين في وسط الطريق , ثم العودة الى بغداد ليترأس العمل الانقلابي, ثم يزيل خصومه من الوزارة ، لكن اغتياله على يد اتباع بكر صدقي غير تلك الفكرة عنه .

ويبدو ان الرأي الراجح هو ما أشارت إليه المصادر البريطانية من امتلاك جعفر العسكري شعبية واسعة داخل الجيش تمكنه من اتخاذ تلك الخطوة الجريئة ، ومحاولة منه لإنقاذ شرفه العسكري , ومنع حدوث اضطرابات وفوضى وسفك للدماء .وذكر أن الملك غازي حاول ثنيه عن تلك المحاولة ، لكن نوري السعيد هو من شجعه على تلك المحاولة ، فيما أفادت مصادر أخرى ان الملك غازي هو من أصر على ذهاب جعفر العسكري لمقابلة بكر صدقي ، لاعتقاده بقدرته على إيقاف زحف الجيش إلى بغداد ، فيما اعترض نوري السعيد على ذلك .

واياً كانت الروايات فقد خرج جعفر العسكري من قصر الزهور في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم 29 تشرين الأول وهو اليوم الأول للانقلاب واصطحب معه الرئيس الحاج شاكر القرة غولي ، والرئيس الأول طاهر محمد مرافق الملك غازي ، وحين وصل إلى شارع نوري السعيد ( الفضيلية حالياً ) في طريق بعقوبة شاهد العقيد يوسف العزاوي فسأله عن مقر الجيش الزاحف ، فاجابه انه ترك خان بني سعد ( منتصف طريق بغداد –بعقوبة ) وقد اصطحبه في سيارته ايضاً ، وكان بكر صدقي قد علم بمقّدم جعفر العسكري للتفاوض في شان الحركة التي قام بها ، وكان الفريق بكر صدقي قد علم بمقدم جعفر العسكري بعد ان اطلع على الرسالة التي أرسلها الأخير الى كبار ضباط الجيش ، قام بجمع صفوة ضباطه الذين اعتمدهم لتنفيذ فكرة القضاء على جعفر العسكري .

وبعد أن وصل جعفر العسكري إلى نقطة المخفر قبل منطقة خان النص بثلاثة أميال وجد سرية الرشاشات الآلية قد أخذت موقعاً عسكرياً على أرض الطريق ، ثم تقدمت نحوه مجموعة مسلحة كان من بينهم الرئيس إسماعيل عباوي الملقب (بتوحله) ، وحين سأله جعفر العسكري عن بكر صدقي أجابه بأنه ينتظره وراء تلك التلول , وقد أشار إلى التلول القريبة من الطريق ، ثم سأله عما إذا كان يريد أن يراه ، فأعرب جعفر العسكري عن رغبته في ذلك , وقد رفض إسماعيل عباوي قيام جعفر العسكري باصطحاب احد من مرافقيه , وقد جرده من سلاحهِ وبعض أوراقه ، ثم ركب جعفر العسكري سيارة عسكرية أخرى, وتوجهت به الى التلول التي زعم إسماعيل توحله ان بكر صدقي ينتظره عندها ، وقد جلس جعفر العسكري إلى جانب السائق نائب العريف خليل إسماعيل ، فيما جلس إسماعيل توحله خلفه، رغم أن العرف العسكري يقضي بان يجلس جعفر العسكري في الخلف في محاولة للسيطرة عليه وعدم السماح له بالقيام بأية حركة .

كان بكر صدقي قد علم بمقدم جعفر العسكري للتفاوض معه في شأن الحركة التي قام بها الجيش ، إذ تشير الروايات إلى أنه تلقى برقية من الملك غازي تعلمه بقدوم جعفر العسكري اليه، ووجوب تنفيذ تعليماته ، وذهب إسماعيل عباوي ليخبر بكر صدقي بقدوم جعفر العسكري ،وقد أبقاه على مسافة خمسة كيلو مترات ، فوجد بكر صدقي وهو في حالة هياج شديد ، وقد صرخ بصوت عالٍ:(( ويجب ان يقتل فوراً ، من الذي يقدم على ذلك )) .

وهنالك رواية أخرى أفادت أنّ بكر صدقي لم يكن قد قرر قتل جعفر العسكري قبل وصول حسيب الربيعي وهو يحمل الرسائل الموجهة من جعفر العسكري إلى بكر صدقي وكبار ضباط الجيش ، وان بكر صدقي أراد الاكتفاء باعتقاله ريثما تستتب الأمور ، لكن اطلاعه على رسائل جعفر العسكري جعلته يخشى أن تفشل الحركة ، وهذا ما أكده محمد علي جواد آمر القوة الجوية .

وقيل ان محمد علي جواد قد حاول ثني بكر صدقي عن نيته قتل جعفر العسكري ، لكن دون جدوى ،وحين سأل بقية الضباط عن مدى استعدادهم لقتل جعفر العسكري ، كان الضباط ينكسون أعينهم على الأرض ولم ينطق أحدهم بكلمة ، وعلى اثر ذلك اختار أربعة منهم وهم : ( المقدم جميل فتاح, والملازم الأول جمال جميل, والملازم الأول الطيار جواد حسين, والرئيس الأول لازار اندروس ) ، ورغم محاولة المقدم راسم سراد شت إقناع بكر صدقي العدول عن قتل جعفر العسكري ، لكن بكر صدقي أصر على رأيه .

وقدم المذكورون بعد بضع دقائق إلى المكان الذي استوقف فيه جعفر العسكري , ونزلوا من سياراتهم بعد أن ملؤوا مسدساتهم بالعتاد , وتقدموا نحو جعفر العسكري وأطلق كل واحد منهم عياراً نارياً عليه ، فسقط جعفر العسكري قتيلاً يتخبط بدمه ويلفظ أنفاسه الأخيرة ، وقد أكد تلك الرواية حسيب الربيعي مدعياً بأنه شاهد عيان عليها ، وقيل ان الرئيس لازار اندروس رفس القتيل بقدمه بعد أن ضربه بمسدسه ، وكان جعفر العسكري قد ذكر لهم بأنه يعلم بغايتهم وحذّرهم من ذلك العمل .

عن رسالة ( ظاهرة الاغتيالات السياسية خلال العهد الملكي )