هل تنبأ جعفر العسكري بمقتله ؟ من اسرار يوم الانقلاب ومقتل وزير الدفاع

هل تنبأ جعفر العسكري بمقتله ؟ من اسرار يوم الانقلاب ومقتل وزير الدفاع

موسى علي

على أثر التفاهم الذي تم بين قائد الفرقة الثانية الفريق بكر صدقي وقائد الفرقة الاولى الفريق عبد اللطيف نوري في بلدروز حول الاشتراك في الانقلاب الابيض المزعوم ارسل بكر كتابا بصحبة العقيد شاكر الوادي الى حكمت سليمان ليسلمه الى الملك غازي يطلب فيه اقالة الوزارة فوراً في الوقت الذي شرع الجيش في التقدم نحو بغداد، ويرجوه ان لايدع مجالا لسفك الدماء.

وفي الوقت الذي ارسل هذا الكتاب دخلت وحدات الفرقة الاولى بعقوبة فاخذت تقطع اسلاك التلفونات وتحتل المراكز المهمة كمديرية البريد والبرق والهاتف وبدالات التلفونات ومحطات اللاسلكي، كما شرعت في تشييد المتاريس في النقاط المهمة كمدخلي الجسر الحديدي وغير ذلك من الاحتياطات العسكرية كما لو كانت هذه الوحدات في حرب ضروس مع الاعداء، فكنت تجد الضباط الذين يقودون هذه الوحدات يتسابقون فيما بينهم في تنفيذ الاوامر المعطاة اليهم بكل شوق واخلاص واثقين ان ما كانوا يقومون به من الاعمال ما هو الا جزء من خطة المناورة، لذا تراهم يبذلون جهودهم في سبيل انجاز اعمالهم الحربية بكل جد ونشاط وبسرعة فائقة لينالوا تقدير آمريهم دون ان يعلموا ما يخفيه القدر او انهم سائرون لقتل جعفر باشا العسكري وتنحية وزارة الهاشمي ليحل محلها الجماعة المشهورون بالقتل.

على اثر تسلم حكمت سليمان الكتاب الموقع من قبل الفريقين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري والذي يرجو فيه من الملك ان ينحي ياسين الهاشمي من الوزارة قبل دخول القوات العسكرية بغداد زار حكمت البلاط صباح 29/10/1936 وطلب الى رئيس الديوان الملكي رستم حيدر ان يسلم الملك الكتاب الذي ارسله بكر اليه وقد دهش رستم من مثل هذا التصرف وكاد لا يصدق قيام الجيش بثورة عارمة اذ ان رستم حيدر وزملاءه قد استبعدوا قيام الفريق بكر صدقي بمثل هذه الحركة، وبينما هم بين مصدق ومكذب ظهرت ثلاث طيارات في سماء بغداد وكانت تحلق بارتفاعات واطئة وشرعت ترمي مناشير كان قد تم طبعها في بلدروز تبين مساوئ وزارة الهاشمي وتطلب تنحيتها، وبعد ساعتين ظهر رف آخر واذا به يقصف مجلس رئاسة الوزراء وبعض دوائر الدولة الامر الذي اثبت للمرء جدية ما يقوم به بكر صدقي، فطلب الملك غازي الى ياسين الهاشمي ان يقدم استقالته، ومع ان ياسين وافق على ذلك خشية اراقة الدماء إلا انه اراد صياغة استقالته بطريقة تحافظ على ماء الوجه.

كان الفريق عبد اللطيف نوري حتى دخول الجيش الى بغداد لايعرف شيئا عن مقتل العسكري، ولما طرق سمعه هذا الحدث المفجع لام الفريق بكر صدقي لوما شديدا على فعله ورفض ان يدخل الوزارة ليصبح وزيرا للدفاع مستندا على دم صديقه الحميم حتى وانه طلب منه ان يحيله على التقاعد فورا لانه اصبح في وضع لا يستطيع ان يقوم باي عمل بعد سفك دم هذا الوزير البريء، الا ان بكر صدقي لم يعر اقواله اي اهتمام فطلب الى حكمت ان يعينه وزيرا للدفاع ولما تم ذلك رفض عبد اللطيف الالتحاق بمركزه لمدة اكثر من اسبوع فبقى حبيس داره لا يقبل ان يرى احدا. وقد اخذ بمرور الايام يخشى انتقامه لجعفر نظرا لصداقته المتينة معه ومع نوري السعيد وحسبما اشيع حاول اغتياله الا انه فشل، الامر الذي اضطره الى مغادرة العراق بحجة العلاج.

يقول الاستاذ عبدالرزاق الحسني عن هذا الموضوع في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية" الجزء الرابع ص229 ما يلي:

"جلست الى الفريق عبد اللطيف نوري في مقهى الترينوف بدمشق يوم 4 تموز 1939 لاستمع الى المعلومات عن الانقلا فقال معاليه ان قتل العسكري لم يكن على بال احد وانه لايزال مكمودا من اثر هذه الفاجعة، وانه يشعر بانفجار في شرايين قلبه لما يتذكر هذه الفاجعة ولهذا فانه لايريد التحدث في هذا الموضوع لان صحته لا تساعد على ذلك".

وهذا يؤيد ما ذهبنا اليه من عدم معرفة الفريق عبد اللطيف نوري شيئا عن قتل العسكري ولو كان عالما بهذه النية لوقف حائلا دون تنفيذها وان كان ذلك يؤدي الى مقتله نظرا لما تربطهما به من الصداقة والاخوة الخالصة والمسلك العسكري حيث جعلهما يبقيان معا في العهد العثماني وفي الثورة العربية الكبرى.

ان المرحوم جعفر العسكري قد شعر او بالاحرى قد تنبأ عن موته بنفس المصير الذي حدث له واليك ما قاله لي:

"على اثر وفاة الحاج محمود الشابندر الذي كان يسكن الى جوار دارنا في عام 1936 خرجت لتوديعه وانا في الملابس الصيفية الخارجية للمدرسة العسكرية واذا بي وجها لوجه مع جعفر العسكري وقد سألني عن صحة والدي نظرا لما بينهما من صداقة عسركية قديمة، ولما تحرك موكب الجنازة باتجاه الاعظيمة طلب الي ان اجلس معه في السيارة فامتثلت امره فكانت سيارتنا الاولى بعد الجنازة فبقى ساكتا صامتا طوال السير حتى اذا وصلنا الى السكة الحديدية التي تقطع الشارع العام غربي ثكنة الخيالة فاجأني قائلا لي "ترى يا موسى هذا الموكب الرهيب فانا اشعر باني ساموت قتلا في ارض جرداء واغطى في التراب ولا يعلم احد عن موتي ومحل دفن جثتي الا بعد حين..". قلت له يا عم (كنت اخاطبه باسم عمي) لا تقل هذا فان مصيرنا جميعا الموت المحتم لكن نظرا لمركزك وخدماتك فسوف يقام لك تمثال بعد العمر الطويل، اما الان فلا تفكر بمثل هذه الامور.. فاخذ يضحك على ما قلت له ثم سكت ولم ينبس ببنت شفة حتى وصلنا المقبرة، والحقيقة لقد مات المرحوم برمي الرصاص وفي ارض جرداء ولم يعرف احد بموته الا بعد ايام كما تنبأ رحمه الله وبذا صدق ما تنبأ به.

(عن كتاب اسرار مقتل الفريقين جعفر العسكري وبكر صدقي)