الفريد سمعان .. في البصرة كانت بدايتي..

الفريد سمعان .. في البصرة كانت بدايتي..

اطلت العطلة الصيفية لعام 1946.. زحفت بنا السنوات، انتقلت الى الصف الخامس.. كانت العلاقة ودية مع الاساتذة، والبصرة تعج بموجات من شتى انحاء العراق احتوتهم مديرية الميناء والساحل، والسفن الراسية تلوح للأهالي بمهابتها في عرض شط العرب، والجنود.. جنود الحلفاء يملأون الشوارع.. انكليز واستراليون وهنود من السيخ والكوركا.. كان العشار واطراف السينما الوطني مرتعا لآلاف الجنود..

كان المكان يضم اكثر من ملهى وسينما صيفية وشتوية وكانت محلات بيع الخمور تنتشر في الطرق الجانبية التي تضيق بضيوفها الذين يحوّلون الارصفة الى مضاجع للسكارى ممن لا يحتملون ما يشربون.. كان قسم منهم يبيع ثيابه الخارجية لكي يكمل السهرة.. وكانت قوات (الليفي) الانضباط العسكري تلمهم وتحملهم بالسيارات الى المعسكرات.. وكان هنالك ايضا مجندات يرافقن الجنود وتضج الشوارع بالدعابات والرقص والغزل وكانت تجوب ايضا مجاميع من الاسرى البولنديين نساء ورجالا.. الغريب ان حمالي البصرة تعلموا الانكليزية افضل مما كنا نتعلمه في المدارس لأن الحوار المتواصل مع الجنود أعطاهم فرصة التعلم.. وكان الجنود الهنود يبيعون احذية رياضية تتوفر في مخازنهم الخاصة وبأسعار رمزية وبلون بني وكانت كرة القدم تجتذب الالاف.. وتعددت الفرق الرياضية فريق الميناء.. السكك.. الثانوية.. والاتحاد وكان فريق الثانوية موضع الاعتزاز واشتهر لاعبوه كريم علاوي وسعيد يشوع وطارق خليل والفريد سمعان وعبد الزهرة ومحمد الهواز والصكر ونصرالله حامي الهدف.. وكارنيك.. وكانت السفن احيانا تدخل مباريات مع الفرق البصرية، وكانت اللعبة الكبرى لكافة جيوش الحلفاء في الشرق الاوسط تقام على ملعب الثانوية.. ومن بين اللاعبين ايضا عبد الوهاب طاهر وسلطان ملا علي.. واصبحا فيما بعد من كوادر الحزب الشيوعي ومن ذوي المسؤوليات الحزبية الكبيرة، كما كان عبدالله الذي اعدم في حوادث كركوك سيئة الصيت.
وكانت البدايات الشعرية على الطريق، نشرة الحائط تحمل قصائد لعبد الخالق القرناوي والبريكان والفريد سمعان وخضر عباس وسواهم.. تحت اشراف الاستاذ رزوق فرج رزوق وكان شاعرا سبق بدر السياب بدورة، وفي احد الايام دعيت مع صديقي الراحل جواد حمدان وكان شقيقه كاظم حمدان عنصرا شيوعيا فعالا في البصرة ذا شهرة واسعة وكان وسيما وجريئا ويمتلك القدرة على الاقناع وكان من حماية داود الصائغ التي كانت تضم الضابطين المهمين غضبان السعد وسليم الفخري وكذلك صادق الفلاحي النقابي الكبير والقائد العمالي الجرئ الشجاع بكل المفاهيم والمقاييس.؟
بعد غروب الشمس اتجهت مع جواد الى احدى الدور في (البصرة)، وسرنا في دروب لم نكن نألفها، ولم نتعرف عليها لاسيما وان الظلمة بدأت تحط ركابها على الكائنات.. كان هنالك مجموعة من الرجال في غرفة ازدحمت بالقادمين.. وكان الجميع لايدركون ـ بالضبط ـ لماذا تم استدعاؤهم ـ وأطل علينا رجل ذو وجه متألق يوحي بالراحة والطمانينة والثقة، قام الجميع ونهضنا معهم وتحدث صاحب الدار وعرفنا بالشخصية التي أطلت علينا بابتسامة ووقار مهيب، قائلا: أقدم لكم الاستاذ عزيز شريف قائد حزب الشعب وهو سعيد باللقاء معكم، واتجه الينا الرفيق شريف وصافحنا وتعرف علينا واحدا واحدا.
ثم القى محاضرة عن الحياة الحزبية ومهمات الشعب العراقي وعلاقة ذلك بالظروف الصعبة التي يمر بها الوطن والجهات الحزبية العاملة.. من قومين ويساريين ولم يكن متحمسا للحزب الشيوعي العراقي.. وانتهى الاجتماع بعد قرابة ثلاث ساعات وأذكر أن المضيف قام بتوزيع الشاي مع الكعك، وتم تكوين الخلايا، فكنت وصديقي جواد في خلية يقودنا محمد فيضي الطالب في كلية الطب، وهي اول خلية طلابية لحزب الشعب في البصرة، وكان الاجتماع في بيت النجار كاظم وهو رئيس نقابة عمال ووالد الفنان نداء كاظم والكاتب المسرحي الشهير عادل كاظم.
وكانت اللقاءات تتم في بيت فيضي الذي كان نائبا في مجلس النواب، وكان ثريا ومحاميا مشهورا وشخصية اجتماعية وهو مرتبط عائليا بالرفيق عزيز شريف وعلى مااعتقد كان نسيبا له، عقدنا عدة اجتماعات وكنا نتحاور فيها وتتلقى بعض التعليمات، ولكن قناعتنا بدأت بالذوبان حيث وجدنا فخامة غرفة الجلوس والاثاث الانيق، مما اثار شكوكنا الساذجة بان امثال هؤلاء الاثرياء لايمكن ان يخدموا الطبقة العاملة والفقراء لذلك قاطعنا الجلسات وبدأنا نفكر بشكل اخر ووجدنا من يشجعنا على الانتماء والعمل مع حزب التحرير الوطني، وخلال فترة الصيف عاد الطلبة الجامعيون من اهل البصرة وكانوا يلتقون في مقهى على شط العشار، قرب محافظة البصرة، وكنا نحن طلاب الاعدادية تتوق الي رؤياهم والتعرف عليهم لاسيما وان الشاعر بدر شاكر السياب كان على رأس هذه المجموعة وكانت تضم عبد الحسين ومصطفى وآخرين لاتحضرني اسماؤهم، واثناء وجودهم في المقهى تناهى الى اسماعنا بان جريدة (العصبة) التي أجيزت قد أغلقت ومنع صدورها من قبل مدير الدعاية باعتبارها تمارس نشاطا شيوعيا والحقيقة هي ان حزب التحرير الوطني كان يمارس نشاطاته العلنية والجماهيرية تحت ستار هذه العصبة وذاع الخبر بسرعة وخرج طلبة الكيات، ووقف يدر على احد التخوت وانشد قصيدة مطلعها:

ياحابسين صحيفة الاحرار
لن يمنع القيد استعار النار
وخرجت مظاهرة صغيرة سارت مسافة قصيرة الى ساحة أم البروم وكانت هذه ثاني مظاهرة اشارك فيها وللاولى قصة أخرى.

عن: طريق الشعب 2013