الفريد سمعان وعالم الارتحالات

الفريد سمعان وعالم الارتحالات

توفيق التميمي

كاتب مغيب

كثت عائلة الفريد سمعان بعد قدومها من مدينة الموصل بقيت في بغداد سنوات قليلة قبل ان تتوجه عائلته الى مدينة الرمادي بعد صدور امر نقل والده الضابط سمعان مديرا لمخفر الرمادي الحدودي ،لتكون اسرتهم هي العائلة السريانية الوحيدة بين سكان محليين مسلمين وقبليين في هذه المدينة .

يقول الفريد سمعان مستذكرا تلك المرحلة من حياته ( كان والدي مشهوراً في الرمادي لسبب اساسي هو دوره في مساعدة ابناء العشائر العاطلين عن العمل وسعيه بتشغيلهم في بناء معسكر الحبانية وكانت تدعى في حينها (سن الذبان)، كان الوضع بشكل عام اعتيادي، ومألوف ولنا صداقات مع اخوتنا المسلمين، فكان مأمور الكمارك (وهو زوج خالتي) اضافة لوالدي مسيحياً ايضاً، كما كان هناك موظفون اخرون مسيحيون يعملون في الرمادي .. وكان هناك شخص ارمني اسمه (عزيز عبوش) يتمتع بشعبية واسعة شقيق المصور المشهور (نجيب عبوش) في بغداد بساحة الوثبة عمل مصورا للملك .... ويضيف الفريد في هذه الشهادة مؤكدا حقيقة التعايش بين المسلمين والمسيحين في مدينة يعرف عنها بالمحافظة الدينية والتزمت القبلي قائلا:(بشكل عام لم يكن هناك اي تمايز او خصوصيات بين المسلمين وغيرهم في الرمادي، لاسيما ان الرمادي لاتوجد بها كنيسة، ففي حالات الزواج للمسيحيين كان يأتي كاهن من بغداد ليعقد للعروسين المسيحيين ويعود ثانية.. فلم نشعر باية تفرقة او حساسية من هذه الناحية.

تعايش في بيئة بدوية

هذه المحطة العمرية من محطات سيرة الفريد سمعان في مدينة الرمادي اواسط ثلاثينيات القرن السابق تكشف عن اصالة التعايش بين العراقيين باختلاف اديانهم وجذورهم واصولهم في هذه المرحلة التاريخية التي يتحدث عنها ،فمن المعروف ان الرمادي مدينة صحراوية تنتعش بالبداوة واخلاقياتها وعاداتها واعرافها ،ولكن ظلت ذاكرة الفتى السرياني تحتفظ بصور التعايش مع اخوته المسلمين وآواصر علاقاته معهم هناك ،ولم يسجل عبر مذكراته عن هذه المرحلة ولو بالاشارة والتلميح هنا الى اي شعور بالغربة او التهميش او معاناة بالغمز لديانته المفارقة لديانة السكان المحليين وطباعهم المختلفة عن بيئة الصحراء هذه ، وتعطينا هذه المحطة من محطات سيرته انطباعا مؤكدا بان العراق بجميع مدنه في هذه المرحلة التي يؤرخها الفريد (نهاية ثلاثينات القرن السابق) كانت تعيش حالات الوئام والمدنية بين سكانه في اوج وانبل مراحلها ، وستظهر هذه الثيمة بقوة في محطة استذكاره عن مدينة البصرة التي ستتفتح في اجوائها مواهب الفريد الرياضية والادبية وتظهر كذلك بوادر ميله ونزوعه العقائدي نحو اليسار والشيوعية ،لتكون محطة الرمادي واحدة من المحطات العراقية التي لن يتوقف عندها عمر الفتى السرياني فتتعدد المحطات وتتوالى الانتقالات والارتحالات العراقية من مدينة لاخرى ومن شاطئ عراقي الى اخر. .

البصرة اجمل محطات الذاكرة

انتقل الفريد مع عائلته السريانية الى البصرة حيث عين والده ضابط في مديرية شرطة كماركها مطلع اربعينيات القرن الماضي ،وبصرة الاربعينيات التي يتحدث عنها الفريد ويستذكرها وكأنه يتحدث عن حلم لم يبق منه يومنا هذا الا كابوس في واقع محطم، ماثلا امام اجيال حرمت من عطايا هذا الحلم ومباذخه في مدينة يزهو تاريخها بصور المدنية والحداثة المبكرة تفارق صورتها الحالية من البؤس والتراجع والتدهور القيمي والخدمي والمعماري.تكاد تكون البصرة من اجمل واهم محطات حياة الفريد سمعان (عشت في البصرة من الذكريات والاصدقاء ما جعلت منها اساسا في انطلاق مواهبي الادبية والرياضية وكذلك مواقفي في السياسة والحب، شهدت المرحلة المتوسطة من دراستي اهتماما وميولا نحو كرة القدم حيث كان بيتنا في البصرة لا يبعد عن الساحة الرياضية اكثر من 50 م في منطقة العزيزية.وفي الثاني المتوسط تحديدا بدأ توجهي واهتمامي نحو القراءة ومطالعة الكتب الخارجية، بتاثير مدرس التاريخ وكان اسمه (يوسف صالح) والذي اكّن له احتراما خاصا واعتبره من الاوائل الذين وجهوني نحو عالم الثقافة والادب، وكان الاستاذ يوسف صالح من اهالي الحلة، واعتبره معلمي الاول الذي فتح لنا افق القراءة والتثقيف وحفزني ذلك عند عودتي الى الدار لاصنع مكتبتي الاولى.

المرحلة الرياضية

من الصفحات المجهولة في سيرة الشاعر والمناضل الفريد سمعان والتي لم يسلط الضوء عليها حيث غطت عليها الصفحات الحزبية والشعرية هي الصفحة الرياضية التي برع فيها الفريد سمعان في مدينة البصرة التي عاش فيها اربعينيات وخمسينيات القرن السابق ،وبرز فيها نجما رياضيا ليس في مجال كرة القدم وحدها حيث عُرف الفريد في البصرة عندما كان طالبا في الثانوية رياضيا متميزا في مجال كرة القدم والسلة وبعض العاب الساحة والميدان الى جانب ابرز واشهر الرياضيين في هذه المرحلة من اربعينات وخمسينات القرن السابق حيث يقول(كانت الحركة الرياضية نشطة جدا في البصرة لانها سبقت المدن العراقية بتأسيس الاندية الرياضية وكان من ابرزها نادي الميناء الذي تأسس منتصف ثلاثينيات القرن السابق والتابع لمصلحة الموانئ آنذاك ، ونادي السكك اضافة الى الفرق المدرسية والفرق الأهلية التي تتنافس فيما بينها، وكانت هذه الفرق تخوض مبارياتها مع بعض الفرق الاجنبية لاسيما الفرق الرياضية البريطانية التي تأتي مع البواخر الى ميناء البصرة.

ويبين الفريد اسباب تقدم الرياضة البصرية وريادتها للرياضة العراقية (يبدو لي ان هذا الاهتمام الواسع بالرياضة كان نتيجة الاحتكاك بالعناصر الغربية الاجنبية التي كانت تزور البصرة باستمرار كبحارة في السفن اضافة الى عدم وجود فرص اخرى حقيقية للشباب البصري للترفيه والتسلية...البصرة فتحت امامي افاقا جديدة ورائعة في تفتح مواهبي الشعرية والرياضية، فقد توفرت لي رعاية خاصة من قبل اساتذة الادب واللغة وكذلك من قبل الادباء المعروفين في تلك الفترة.

انفتاح اجتماعي

شهد الفريد في مذكراته في سيرة قارع النواقيس على انفتاح اجتماعي في البصرة غير مسبوق له، حيث يصف المشهد البصري بانه كان ابان فترة مراهقته وشبابه يعج بالكثير من الاندية الليلية وبالمطربات والمغنيات القادمات من بغداد، ويعزو ذلك الى وجود دائرة الميناء الكبيرة ذات الطراز المعماري الهائل ، كما لا يخفى تأثير الانكليز والثقافة الانكليزية على الانفتاح في الحياة الاجتماعية البصرية لاسيما على العوائل المسيحية وابنائها ورجالها ونسائها من موظفي الميناء بما فيهم بعض المسلمين ،وهنا لابد من ذكر شيء مهم فقد سعى الانكليز الى كسب ود المسيحيين من امثال عائلة الفريد سمعان ،و هذا شيء ربما له علاقة بالديانة اولا ، وله ثانيا علاقة بالثقة التي تكاد تكون شبه مفقودة مع الجهات الاجنبية كالانكليز باستثناء الموظفين الكبار من المسلمين، ويلاحظ تأثير ذلك في اختيار المسيحيين البصريين لاسماء أولادهم وبناتهم ولعل السبب ذلك الرغبة في التقرب من الانكليز فكانوا يسمون ابناءهم (فكتور،جورج،جانييت الخ ) في حين ان هذه الاسماء لاتتكرر لدى طوائف البصرة الاخرى(المسلمين، المندائيين، الزنوج) ، اضافة الى هذا التعاطف والاعتماد على الطبقة الشعبية الثرية التي كانت تؤكد وتتعاطف مع الاجانب، وهنا لابد من الاشارة الى ان في تلك الفترة كان للهنود الذين يسكنون البصرة عبر الحملة البريطانية او الحملات التجارية دوراً مهماً في اضفاء الطابع المدني على حياة البصريين وكانوا يحملون معهم ثقافتهم وتقاليدهم وطراز حلاقة شعورهم حيث كان ابناء طائفة السيخ الهنود لهم ضفائر مجدولة تميزهم عن الآخرين والكوركه (وهم مقاتلون هنود اشداء)عرفهم البصريون خلال مرحلة الاربعينيات والخمسينيات.وقد اصبحت هناك علاقات اجتماعية بين الهنود والطوائف العربية حيث تزوج المسلمون منهم بالمسلمات العربيات وحتى من اديان ومذاهب اخرى.

ارتحالات في مدن عراقية

التمعن في قراءة سيرة الفريد سمعان في تنقلاتها وترحالاتها ،سواء في الرمادي ام الرحلة البصرية اللاحقة تكشف عن تنوع مبكر لمواهب الفريد التي ظهرت في ميدان الرياضة التي مارس انواع منها ككرة القدم التي لعبها بجانب ابرز لاعبي تلك المرحلة ككريم علاوي وشاكر اسماعيل ويشوع سعيد وكرة السلة والعاب ميدان اخرى كما كشفت المحطة البصرية عن اسبقية البصرة عن مدن عراقية اخرى بانفتاحها الاجتماعي وتعايش المسلمين والمسيحيين وتجاورهم بالسكن وتشاطرهم بالاعمال الى درجة التصاهر والتزواج بينهم احيانا ،كما كشفت المحطة البصرية في حياة الفريد تاثيرات الميناء وثقافته الوافدة منه على عادات اهل البصرة وانفتاحهم وتسامحهم وطيبتهم المعروفة ،وفي البصرة شهد الفريد العشق الاول للكتاب الذي قاده الى مواهب اخرى ستتفتح لاحقا في الشعر والنضال السياسي .

ومن هنا ارى ان قراءة سيرة الفريد ببداياتها في الرمادي او البصرة او بغداد لاحقا هو قراءة في احد اهم عناصر التحديث في الحضارة والمدنية العراقية التي يشكل السريان العراقيين شريانها الابهر ومادتها الرئيسة ،ويقودنا ذلك الى البديهية الواضحة والتي مفادها ان اي تهديد يتعرض له السريان ووجودهم في ارضهم العراقية بغض النظر عن الاسباب والمسببات هو تهديد لهذه المدنية ومحركاتها الاصيلة وتحويل هذه المدن العراقية الى مدن متوحشة وصحراء مرعبة من الجهل والرعب والبربرية وبراري معزولة وموحشة لا حياة فيها.

فالفريد سمعان هو حلقة ذهبية في سلسلة سريانية عراقية امدت الحياة الفكرية والثقافية بالعراق نسغها الرئيس ونهرها الدافق ،و لتعدد هذه الحلقات وترابطها لايمكن ان تحصرها بامثلة معدودة كما هو الحال في اسماء بارعة كجهود الاب انستاس الكرملي في اللغة العربية وآدابها وريادات ادمون صبري القصصية وريادة رافائيل بطي وبولينا حسون للصحافة وجان دمو واسهاماته الشعرية وغيرهم الكثير، فضلا عن تخصصات برزت في مجالات الطب والادارة والوزارة والجيش وغيرها من المؤسسات التي ما تزال تحمل في جذورها بصمات سريانية عراقية اصيلة .

هذه المادة نشرها الزميل توفيق التميمي عام 2016