الزهاوي في مجلس الأعيان .. مواقف وطرائف

الزهاوي في مجلس الأعيان .. مواقف وطرائف

رفعة عبد الرزاق محمد

لاريب ان الاستاذ جميل صدقي الزهاوي ، شخصية متعددة المواهب ، وان تحيف الشعر تلك المواهب . غير ان روح الفكاهة كانت علامة فارقة في حياته ، فلقد عرف بين معاصريه بروح مرحة وبديهة حاضرة ، لم تقتصر على حياته الخاصة ، بل انسحبت ايضا الى حياته العامة ، ولا سيما في المناصب الخطيرة التي شغلها مثل عضوية مجلس المبعوثان في العهد العثماني او عضوية مجلس الاعيان بعد تأسيس الدولة العراقية .

غير ان هذه الروح لم تظهر في آثاره الادبية ، بل بدت فيما نقل الينا من مواقف طريفة تجعله احد ظرفاء بغداد المعدودين في العصر الحديث . ومقالنا هنا عن ذكريات الزهاوي في مجلس الاعيان 1925ــ 1929 ، وهي صفحة ربما بقيت مطوية من سيرة الشاعر الكبير .

لقد كان الزهاوي في مقدمة الشعراء المؤيدين لترشيح الامير فيصل لعرش العراق ، ومن الذين رحبوا بمقدمه للعراق ، فانشد قصائد عديدةبهذا القدوم ، معتقدا ان جهوده الادبية لن تضيع ومتطلعا الى منصب كبير في الدولة الناشئة ، ولكن عندما تبددت احلامه وذهبت جهوده مع الريح ، بدأ بالاعتقاد ان هناك من عمل ضده في بلاط الملك فيصل الاول ، وقد روي عنه بيتان مشهوران ، يتهم فيهما الاستاذ فهمي المدرس بانه وراء ذلك وهو الذي وقف حجر عثرة في سبيله :

انا لو كنت بليدا فاز بالاسهم سهمي

انما اخرني اليوم عن الاقران ( فهمي)

وعندما طبع ديوانه سنة 1924 ، ابعد القصائد التي قالها في فيصل عن الديوان ، ويقال انه سماها ( القصائد المطرودات ) لاعتقاده ان الملك فيصل قد تجاهله . واحتجاجا على تجاهل الحكومة العراقية لقدره ، استعد الزهاوي لمغادرة العراق الى مصر ، واعلن عن بيع داره ( الاعلان في جريدة العراق ليوم 30 اب 1921 ) ، ويبدو ان فيصلا اطلع على الاعلان ، فماذا فعل يا ترى ؟ يقول الزهاوي :

(( وصلني مغلف من البلط الملكي ، يبلغني في داخله رئيس الامناء ، ان قد صدرت ارادة جلالة الملك بتعييني شاعرا له براتب شهري قدره ستمائة روبية من صندوق البلاط الخاص فكتبتُ اليه ارفض هذه الوظيفة ، فلا اريد ان اكون مداحا تلقاء اجرة .. )) .( الزهاوي ، عبد الرزاق الهلالي ص 58 )

ومما زاد في الطين بلة ، فشل الزهاوي في انتخابات المجلس التأسيسي وعودة (منافسه) الرصافي الى بغداد . فغادر الزهاوي الى مصر في اوائل نيسان 1924 ، غير انه لم يلبث فيها سوى ثلاثة اشهر وعاد الى بغداد ، بعد ان اثار بعض المشاكل ( الفكرية) ضده في القاهرة .

وفي مقابل هذا ، فقد كان الملك فيصل الاول واسع الافق ، رحب الصدر ، لا يقابل الخطأ بمثله ، ولم يجد للزهاوي افضل من عضوية مجلس الاعيان . ومن الطرائف ان المرحوم رفائيل بطي ، وهو من انصار الرصافي ، حاول التحرش بالزهاوي ، فنشر مقالا في جريدة (المفيد) لصاحبها ابراهيم حلمي العمر ، عن مصير قصائد الزهاوي المطرودة من ديوانه ، اجابه الزهاوي بمقال نشرته جريدة ( العالم العربي) لصاحبها سليم حسون ،يوم 28 تموز 1925 انه ينوي طبع تلك القصائد بديوان مستقل بأسم ( هتاف الاخلاص ) ، ولم يطبع هذا الديوان!

لم تكن مواقف الزهاوي في مجلس الاعيان كما كانت عليه مواقفه في مجلس المبعوثان ، فقد كانت مواقفه السابقة تتسم بالجرأة والشجاعة ، اما مواقفه في مجلس الاعيان فقد طغى عليها جانب الفكاهة ، وتستحق هذه المواقف التحقيق والجمع ، فقد كان ــ رحمه الله ــ صاحب اجوبة سريعة ، لا يتردد في ذكرها مهما كانت درجة اقذاعها ، ومن تلك الطرائف ما ذكره في احدى جلسات المجلس سنة 1928 ( المحاضر ص 154) عند مناقشة موضوع دائرة المحاسبات العامة ، فاعترض البعض من ان عدد الموظفين في هذه الدائرة كثير . وعارضه الزهاوي فاشتد النقاش ، وحاول الزهاوي اقناع زميله دون جدوى ، فقد كان هذا مصرا على ان العدد كبير ويجب ان يقل فامتعض الزهاوي واجاب المعترض ان المثل يقول ( عنزة ولو طارت ) ، فوقف العين مذهولا ووجه كلامه للزهاوي :

ــ ماذا يقصد الاستاذ بقوله هذا ؟

ــ رأى رجلان شبحا من بعيد فقال الاول هو طير وقال الثاني انه عنزة ، وبعد قليل طار الشبح فقال الاول ثبت الان ان الشبح كان طيرا ، فقال الثاني : لا .. عنزة ولو طارت!

كان من اصدقاء الشاعر الزهاوي المقربين في مجلس الاعيان الشيخ ابراهيم الحيدري واحمد الفخري ، وكان الاثنان في لجنة صياغة اللوائح المقدمة للمجلس. وكثيرا ما كان الزهاوي يعترض على اللوائح من الناحية اللغوية ، واتفق ان احتدمت المناقشة بين الزهاوي وبين الحيدري والفخري حول خطأ لغوي في احدى اللوائح ، وطالت المناقشة بعد ان قدم كل واحد منهم الشواهد الشعرية والنحوية ، فاعيدت اللائحة الى اللجنة ، وبعد تدقيقها وجد ان الخطأ لم يتعد كونه غلطا مطبعيا !

وخاطب الزهاوي رئيس مجلس الاعيان ( جلسة يوم 30 تموز 1925 ) بقوله : اسمح لي يا مولاي اذا وجدت عبارة فيها نصب الفاعل فهل تقبلها وتغير قواعد اللغة العربية لمجرد حصول الاكثرية عليه بالتصويت ، فاجابه رئيس المجلس : ارجوك المحافظة على النظام ..

ووقف احد الاعيان خطيبا فاطال خطبته وابتعد عن اصل الموضوع وجوهره فتضايق الاعيان ، وحاول الزهاوي ان ينبهه الى ذلك ، فاعتقد الخطيب ان الزهاوي يريد اسكاته ، فصرخ : لن اسكت ..انا حر .. ومن ذا الذي يستطيع اسكاتي ، وحرك يديه حركة تدل على استعداده للعراك ! فاجابه الزهاوي :

ــ تمام مولاي انا لا استطيع اسكاتك ، ولكني استطيع ان لا اسمع ما تقوله ، وصم اذنيه باصبعيه ، فضج المجلس بالضحك وسكت الخطيب .

والان لنتحدث عن خروج الزهاوي من مجلس العيان :

نصت المادة 32 من القانون الاساسي العراقي ( الدستور) على ان مدة عضوية الاعيان ثماني سنوات على ان يتبدل نصفهم كل اربع سنوات بطريقة الاقتراع . وقد اتفق مجلس الاعيان على ان يكون الاقتراع بطريقة احضار اربعين ورقة بيضاء متشابهة يكتب على عشرين منها اسماء الاعضاء ، وتوضع في كيس ، اما العشرون الاخرى فيكتب على عشر منها كلمة ( عضو ) وتترك العشرالباقية بيضاء ، وتوضع هذه العشرون في كيس اخر ، وتسحب ورقة من كيس الاسماء وورقة من الكيس الاخر وتفتح الورقتان معا ، فمن خرجت مع ورقة اسمه ورقة ( عضو ) بقي في المجلس والا فيعتبر خارجا منه .

وفي يوم اجراء القرعة حضر الملك فيصل الاول بنفسه الى قاعة المجلس واشرف على الاقتراع . ومن سوء حظ الزهاوي ان اسمه اقترن بورقة بيضاء ، فخرج من المجلس ، وفي قرارة نفسه ان ذلك جرى وفق مؤامرة ضده ! وذهب الى بيته وهو يتمتم :

سقطت فلا تحزن على ما فقدتــــــه فما انت بين الســـــــاقطين بأول

فكم من وزير كان قبلك قد هوى كجلمود صخر حطه السيل من عل

ولم يعين الزهاوي ثانية في مجلس العيان ، ومن طريف ما روي عنه ان احد الاشخاص زاره وقال له : الشائع بين الناس ان اصابتكم بالشلل هو الذي جال دون تعيينكم ثانية للاعيان ، فاجابه :

ــ افندم ليش المطلوب ان اصبح عينا ام مصارعا في الزورخانة !!

وقد بقي المرحوم الزهاوي يتذكر يوم اخراجه من مجلس الاعيان بمنتهى الحزن ، وذكر الاستاذ عبد الرزاق الناصري ( المتوفى سنة 1945 ) شيئا عن ذكريات الزهاوي ، نشرها في العدد الخاص من جريدته ( الانباء) بالذكرى الاولى لوفاة الزهاوي ، فقال :

(( كنت اول الوافدين عليه في حلقته بمقهى رشيد في الباب الشرقي وكان ذلك في يوم سحب الاقتراع على نصف اعضاء مجلس العيان وهو اليوم الذي كنا جميعا نرتقبه بفارغ الصبر ، فوجدت الزهاوي كسير الخاطر ،شاحب الوجه ، مقطب الاسارير ، وما ان جلست حتى فاجأني منشدا :

امطري لؤلؤا سماء سرنديب وفيضي آبار تكرور قوتا

انا ان عشــــــت لا اعدم قوتا واذا مت لست اعدم قبرا

ومما سمعته من احاديث الاستاذ محمد بهجة الاثري ان المرحوم ياسين الهاشمي في وزارته الاخيرة 1935ــ1936 حاول مد جسور الثقة مع ادباء العراق الكبار ، وكانت نيته اعادة الزهاوي الى مجلس الاعيان ، غير ان المنية داهمت الزهاوي في 23 شباط 1936 وفي قلبه حسرة وشكوى ..