العالم النفسي المصري مصطفى صفوان: إذا كان العرب لم يترجموا هايدغر فلماذا يترجموني؟

العالم النفسي المصري مصطفى صفوان: إذا كان العرب لم يترجموا هايدغر فلماذا يترجموني؟

شريف صالح

" لا كرامة لنبي في وطنه»! مقولة تذكرتها عندما التقينا أثناء زياراته المتقطعة إلى القاهرة، فمن غير المعقول أن يأتي ويغادر إلى حيث يعيش في فرنسا بلا احتفاء ولا حتى لقاء عابر في إحدى القنوات التلفزيونية، وما أكثرها! ومن غير المعقول أن يكون علماً من أعلام التحليل النفسي في أوربا ولا ينال جائزة تليق به من وطنه، وما أكثر الجوائز التي توزع في وطننا العربي!

لم يشفع للعلامة مصطفى صفوان أنه قضى ما يقرب من ستين عاماً مع التحليل النفسي أو أنه ترجم سفر فرويد الشهير «تفسير الأحلام» منذ ما يزيد عن أربعين سنة. ولم يفكر القائمون على المشاريع الثقافية العربية في إعادة نشر كتبه القليلة التي ترجمها باقتدار إلى العربية، ومنها «مقال في العبودية المختارة» وهو كتيب صغير الحجم، عظيم الفائدة! هذه الحالة المؤسفة بالنسبة لما ترجمه تنطبق أيضاً على مؤلفاته التي يكتبها بالفرنسية والإنجليزية والتي تطبع في كبريات دور النشر الأوربية.

حسب علمي فإن المبادرة المهمة والوحيدة في هذا السياق تحققت قبل شهور قليلة بجهد مشكور للمنظمة العربية للترجمة التي أصدرت له كتابه المهم «الكلام أو الموت» ترجمة د. مصطفى حجازي. كما نشرت دورية «أوراق فلسفية» ملفين مهمين عن صفوان وأستاذه جاك لاكان.

تلك مقدمة ضرورية حين نتحدث عن العالم الجليل مصطفي صفوان فهو واحد من كبار أساتذة التحليل النفسي على المستوى العالمي. تلميذ مباشر، ثم زميل وصديق، لجاك لاكان لما يزيد على ثلاثة عقود. وحالياً يحتل زعامة التيار «اللاكاني» في أوربا كلها. ولا أزعم لنفسي باعاً في التحليل النفسي وقضاياه الدقيقة، لكنها كانت فرصة بالنسبة لي كصحفي أن أقترب من عالم هذا الرجل والفضل في ذلك لتلميذه وصديقه د.حسين عبد القادر، فله جزيل الشكر مرتين، لأنه أتاح لي فرصة التعرف عن كثب على مثقف عربي مرموق، ولأنه قدم الكثير من الملاحظات المفيدة قبل نشر الحوار، كاحتفاء بسيط لرجل أعطى دون صخب، ولا انتظار مقابل من أحد. وتحتم عليّ الأمانة أن أشير إلى أن الحوار تم على أكثر من مرحلة، من بينها جلسة في المسرح القومي في ضيافة د.عبد القادر وأخرى في مركب شراعي في النيل وثالثة في أحد الفنادق. وشعرت كصحفي بصعوبة إدارة اللقاء معه، ليس فقط لأنني صحفي ولست محللا نفسياً، بل لأن صفوان نفسه على المستوى الإنساني شخص متأمل صموت، يكتفي عادة بردود مقتضبة لا تخلو من شفرات!

بداية المشوار

أنت تخرجت في جامعة الإسكندرية في العام 1943 كدارس للفلسفة لكنك اتجهت فجأة إلى التحليل النفسي.. ما سبب هذا التغيير؟

- في الحقيقة هناك ثلاثة أسباب دفعتني إلي ذلك: الاحتياج الشخصي، تشجيع أستاذي د. مصطفي زيوار، ولأنني أردت أن أتفلسف من خلال علم مرتبط بالواقع. وقد ظللت متذبذباً: هل اختار التحليل النفسي مهنة لي أم لا؟! كنت أشعر أن هناك مشكلات بلا حل كأنها أبواب مغلقة.. مثلاً ما يقال عن قسوة الأنا الأعلى والشعور بالذنب من دون أب، فإذا كان الأنا الأعلى وريث الأب، فمن أين جاء هذا الشخص بالأنا الأعلى؟ من أين يتوارثه؟!

وهل ثمة حلول لمثل هذه المشكلات؟

- في الحقيقة، جاك لاكان هو الذي فتح تلك الأبواب المغلقة بنظرياته عن التمييز بين الرمزي والمتخيل. في تلك الفترة كنت قد بدأت تحليلاً شخصياً لي تحت إشراف د. شلومبرجيه، وكان رجلاً واسع الثقافة الأدبية، ولم يكن من الذين يعطون تفسيرات وحشية كأن يقول لك: أنت متعلق بأمك أو أبيك! بل كان يقول لك أين أنت بناء على ما تقوله فحسب، دون مصادرة، فكانت ممارسته للتحليل النفسي أقرب إلى حس عالم اللغة منه إلى السيكولوجي الدينامي. وهذا جعلني أقبل التحليل النفسي، خاصة أنني منحدر من أسرة للغة ووجود قوي بها، فوالدي كان عالماً أزهرياً، وربما لو صادفت أستاذاً آخر لجعلني أنفر من هذا المجال. في تلك الأثناء قرأت مقالاً لجاك لاكان واستمعت إلى بعض محاضراته وكنت معجباً به، بجانب أن أحد الأساتذة الكبار في السوربون وهو «باشلار» أشار يوماً إلى محلل نفسي شاب يستحق من الشهرة أكثر مما له، وكما نقول لدينا «الصيت ولا الغنى» وهكذا أصبح اختياري للتحليل النفسي لا رجعة فيه، وهكذا أيضاً ارتبطت بجاك لاكان.

مع لاكان

كيف استمرت علاقتك مع لاكان؟

- عملت تحت إشرافه منذ العام 1949 وكان دائماً يشجعني دون أن يقول ثلاث كلمات وكأنه غير مهتم، فهو لم يكن يتدخل في العمل إلا للضرورة القصوى، ومنذ بدأ دروسه ارتبطت به كتلميذ ثم كزميل له في مدرسته، وحين اصطدم مع الاتحاد الدولي للتحليل النفسي أخذت جانبه، وظللت أعمل معه حتى وفاته ، حيث آل أمر المدرسة إلى زوج ابنته ففضلت أن أعمل بمفردي حيث كانت لي شهرتي وكتبي وتلامذتي.

لماذا لم تترجم لاكان كما ترجمت فرويد من قبل في كتابه الشهير«تفسير الأحلام»؟

- ترجمة لاكان إلى العربية كما فعلت مع «تفسير الأحلام» لفرويد، لم تخطر على بالي، لأن لاكان له أسلوب خاص. هناك تعريف يقول إن «الأسلوب هو الإنسان». لاكان يضيف إلى هذا التعريف قائلاً إن «الأسلوب هو الإنسان الذي تحب أن تكلمه»، فقارئ لاكان لابد أن يكون شخصاً نبيهاً. كذلك هو لا يكتب لشرح نظرياته وإنما يشرح لكي يكّون تلامذة، فهو يتكلم بلغة ملغزة كي يُعمل التلميذ ذهنه. فطريقته تعتمد على الإلماح وعلى مستدعيات يصعب فهمها على القارئ العربي، فهو يتكلم بتكنيكات اللاشعور، وهذا صعب للغاية في الترجمة إلا إذا جعلت لكل سطر هامشاً. من هنا فترجمة فرويد أسهل.

صاحب المتن

تحدثنا عن علاقتك مع لاكان، ولم نتحدث عما يعنيه لك فرويد؟

- فرويد هو المتن الذي يحوي التصورات الأولى التي تكون منها صرح التحليل النفسي. فأنا عندما أتكلم عن الأنا الأعلى فهذا مأخوذ عن فرويد، كذلك الأنا واللاشعور وغيرهما. إذن الزوايا الأربع للبناء موجودة عند فرويد، ومن أتى بعده يحاول أن يحل ما يطرأ من مشكلات، فأحيانا تكون العلاقة بين التصورات المختلفة علاقة تناقض، وبالتالي تحتاج إلى حل، أي إلي نظرية جديدة وهكذا.

ولماذا الهجوم على فرويد أحياناً؟

- مادام التفكير يتمتع بصفة العلمية فلابد وأن يصطدم بالمعتقدات الموجودة في الأساطير، مثلاً فكرة أن الانسان أعطى للأشياء أسماءها والتي تعتقدها مجتمعات كثيرة مجرد خرافة، فالواقع أن الانسان يولد في عالم الأشياء فيه مسماة، وهو نفسه يأخذ اسماً فيصبح من عائلة فلان، وهذا يفرض عليه تبعات معينة. إذن الإنسان لا يسكن اللغة فحسب بل هو معجون فيها. ودائماً كان التفكير الحر بعيداً عن المعتقدات ومتصادماً معها، فلا يوجد صدام بين فرويد والفكر الديني أكثر مما بين الفكر الديني وأي نظرية علمية أخرى.

قيل إن فرويد بالغ في تفسيراته المستمدة من نظرية دارون عن التطور؟!

- فرويد كان واقعاً تحت تأثير فكرة التطور التي كانت جارية مجرى المسلمات في القرن التاسع عشر، فكان على ذهنه أن يتحرر من هذه النظرية، كما أن تكوينه العلمي كان بيولوجياً لأنه طبيب. من هنا انتهى فرويد إلى تصورات مرتبطة بتكوينه الخاص وهذا أوجد بالطبع بعض المشكلات.

على الشاطئ الآخر

منذ ستين عاماً تقريباً وأنت تعيش على الشاطئ الآخر للبحر المتوسط، في فرنسا، تكتب وتعمل هناك، وربما لا يعرف القارئ العربي عنك الكثير .. فما أهم مؤلفاتك التي ترشحها له؟

- بداية، لا أحب كتبي ولا أحب قراءتها مرة أخرى، لكنني أذكر بعض الكتب بالخير منها «دراسات في الأوديب»، «اللاشعور وصاحبه» و«الكلام أو الموت».

برغم أنك ترجمت بعض الكتب مثل «مقال فى العبودية المختارة» .. فإن كتبك لم تترجم إلى العربية، لماذا؟

- لا أعرف، وعموماً العرب لا يترجمون شيئا مقارنة بغيرهم، ربما نترجم في السنة تسعين كتاباً في حين أن البولنديين يترجمون 45 ألف كتاب واليابانيين 60 ألف كتاب .. فمن الذي يُترجم لدينا؟ هيدغر غير مترجم إلا في شذرات منه، غونتر غراس من الأدباء لم يترجم له سوى أعمال قليلة .. وغيرهما.. فلماذا يُترجم مصطفى صفوان بالذات؟

ألم تحاول إحدى المؤسسات العربية ترجمة أعمالك؟

- لا .. لم يتصل أحد بهذا الشأن ولا أستطيع أن أجري وراء أحد كي يترجمني. لكن كان هناك كلام لترجمة كتابين لي من خلال المشروع القومي للترجمة في القاهرة، وهما «دراسات عن لاكان» والآخر «عشر محاضرات في التحليل النفسي».

باعتبارك مُترجِماً قديراً لِمَ لا تترجم أنت مؤلفاتك؟

- هذا «أشنع» شيء، فكما قلت لك لا أحب قراءتها فما بالك بترجمتها.

رعب النفي

يلاحظ حالياً أن ثمة تكاملاً بين علم اللغة والأدب والتحليل النفسي، ما جوهر العلاقة بين الثلاثة؟

- عندما ظهرت فكرة البنيوية ظهرت على يد دي سوسير العالم اللغوي الذي أبرزها للعيان، ثم انتشرت بعد ذلك في العلوم المختلفة. بالنسبة لعلم النفس لم يأخد فكرة البنية فحسب وإنما عمق نظريات لغوية أخرى مهمة مثل فكرة «النفي» فهي فكرة لغوية مرعبة مازالت تدوخ الفلاسفة واللغويين. هناك نفي واقع على الموضوع «هذا ليس أحمر» ونفي على التخصيص أو على التعميم، وهناك نفي القول «إنني لم أقل إن الأرض كروية» وهذا غير نفي الحقيقة نفسها، هذا الموضوع اللغوي تم تعميقه بواسطة علم النفس. كذلك موضوع «التمييز» أخذه علم النفس من علم اللغة وطوره. فالقول المنطوق يصح أن يظهر فيه الفاعل «أنا جئت حالا» القائل موجود فى العبارة، وقد لا يكون القائل موجوداً مثل «امش يا ولد» سنلاحظ أن القائل غير الموجود له حضور محسوس وقوي أكثر كلما لم يستخدم «أنا» وهذا ما نجده فى صيغة الأمر والنهي والوعد. هذا التمييز عمقه أيضاً علم النفس.

وكيف وجدت تحليل فرويد لنصوص وشخصيات أدبية مثل «هاملت» و«أوديب»؟

- لا نستطيع القول إن تحليلات فرويد لبعض الشخصيات الأدبية كانت خاطئة إنما يمكن القول إنها كانت بدائية، فمثلاً فى تحليل «هاملت» يقول: إن هاملت متردد مقارنة بأوديب، لأن عصر هاملت كان عصراً متأخراً ولهذا فقد زاد الكبت، من قال إن الكبت يزيد مع تخلف العصر؟! لاكان لاحظ شيئا آخر وهو أن والد هاملت مات بالسم فى أذنه وجاءه فى المنام وأخبره أن «أمك خانتني»، الملاحظة هنا أن الأب لم يمت بالسم، ولكن هاملت هو الذى تسممت أذنه بفعل كلام أبيه، ويأتى الفارق بين أوديب وهاملت فى المعرفة، أوديب لم يكن يعرف، فى حين تبدأ رواية هاملت بالمعرفة. ومثلما فى البنيوية عندما يتغير عنصر لابد من حدوث توازن جديد للمجموعة كلها، وبالتالي كان لابد أن تأخذ شخصية هاملت مساراً آخر مختلفاً عن مسار شخصية أوديب نظراً لاختلاف عنصر البداية فى كليهما. مثل هذه اللمحات من لاكان هى التي جعلت حضوره فى أمريكا بين أساتذة ونقاد الأدب أكثر من حضوره عن طريق أساتذة التحليل النفسي.

لماذا لا نجد محللاً نفسياً عربياً أقدم على مثل هذه التجربة؟ ألم تفكر في ذلك خاصة أنك شديد الاهتمام بالأدب؟

- لم أفعل ذلك.. لأنه ليس كل كاتب يصلح لأن يُعطي درساً.

برأيك، ما أهم العلوم والمعارف اللازمة للمحلل النفسي الناجح؟

ـ أشياء كثيرة أهمها علم اللغة، الفلسفة بوجه عام، وخاصة الفلسفة السياسية، علم الإنسان، المنطق، تاريخ وفلسفة العلوم، وأن تكون لدى الدارس ألفة بالأفكار الأساسية فى الرياضيات.

هل من الأفضل لدارس التحليل النفسي أن يسافر إلى الخارج؟

- إلى الآن تبقى إمكانية التكوين في العالم العربي محدودة لأن عدد الأصدقاء القادرين على التكوين محدود جدا وأرجو منهم أن يهتموا بتكوين قاعدة من التلامذة. أنا مثلا لو كنت أعيش هنا « في مصر» لا أعرف ماذا سأفعل ربما لو وجدت طالباً نابهاً فسأعطيه بعض الجلسات ثم أتركه يعمل حتى نوجد حركة بالقوة.

هل ترى أن لدينا محللين نفسيين أكفاء؟

ـ الكفاءة موجودة لكن العدد قليل للغاية، وفى لبنان أكبر نسبة من المحللين من هؤلاء عدنان حب الله ومنير شمعون ولدينا فى مصر أحمد فائق وحسين عبد القادر وغيرهم.

وكيف ترى مستقبل التحليل النفسي في الوطن العربي؟

- يوجد مجال واسع للعلاج وليس للعلم فهناك طبقة كبيرة فى المجتمع العربي لم يعد نظام حياتها مختلفاً عن نظام الحياة في الغرب مثل أساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين ومن يسكنون في المدينة، وتكوين الأسرة ذاتها أصبح شديد الشبه بالغرب، هذا يعني أن لدينا مجالاً رحباً للعلاج (الزبائن كُثر) لكن التحليل النفسي كعلم ليس له مستقبل ما لم تكن هناك نهضة فكرية. المستقبل حاليا منوط بالأساتذة الموجودين بالفعل، فعليهم كأفراد أن يوجدوا عناصر نشطة وفاعلة، فنحن في مرحلة على الأفراد أن يخلقوا الحركة وليس على الحركة أن تخلق الأفراد.

في رحاب الأدب

رغم عملك كأستاذ في التحليل النفسي، فإن اهتمامك العميق بالأدب لا يخفى على أحد، كيف تشكل هذا الاهتمام؟

- اللا شعور نفسه نظراً لأن عليه رقابة يبحث عن تنفيس، فمثلاً النكتة تقول الحقيقة ولكن بطريقة غير مباشرة تجعلنا نستغرب العلاقة قبل أن نفهم. كذلك اللا شعور يقول الحقيقة عبر طرق غير مباشرة، مثلما نجد ذلك عند من نصفهم بالجنون. فاللاشعور مجنون أو أديب، من هنا تأتي العلاقة العميقة بين الأدب واللاشعور، لكن أقرب أنواع الأدب إلى اللاشعور هو «المينارست» الذي يعتمد على اللعب بالكلمات. ويبقى للأدب مجاله الواسع باعتباره يعتمد على التسامي، فهو ليس مجرد تحريف لا شعوري. ولأن العجينة واحدة يصبح الاشتغال بالأدب معيناً على متابعة المتضمنات اللاشعورية للخطاب والتي تساعد بدورها على فهم الأدب.

كيف بدأت علاقتك بالأدب العربي؟

- علاقتي بالأدب العربي جاءت خلال الفترة الأولى من حياتي حيث عشت في فترة نهضة أدبية كبرى طرحت أسماء لا نزال نحيا على إنجازها مثل طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين. في تلك الفترة كانت الترجمة مزدهرة، فمثلاً فخري أبو السعود يترجم من الأدب الإنجليزي ودريني خشبة يترجم في المسرح والصاوي محمد يترجم «تاييس» لأناتول فرانس. وكانت أقرب الأسماء إلى نفسي في تلك الفترة عبد القادر المازني، ومن الشعراء أعجبت بمدرسة أبوللو وبأحمد زكي أبو شادي. تلك الفترة لم تكن تتميز بالنهضة الأدبية فحسب وإنما بالنهضة السياسية أيضاً، فالصحيفة كانت مهمة عند كل مواطن كرغيف الخبز، وكانت الناس تنتظر ردود توفيق دياب على عبد القادر حمزة وردود حمزة على توفيق دياب، وبالتالي لم يكن تكويني أدبياً فحسب وإنما كان أيضاً أدبيا وسياسياً بحكم هذا العصر.

ماذا لو عقدنا مقارنة بين الأربعينيات أثناء دراستك في الجامعة وبين الأيام الحالية؟

- الصحيفة حالياً لم تعد مهمة كرغيف الخبز، صحيح الوعي السياسي لدى الناس مستمر. ودائماً الوعي بالحقائق عالٍ لكن التعبير عن هذا الوعي في أيام الحركة الوطنية كان يجد الحماية، لأن العزيمة كانت أمضى، حيث إن العدو أجنبي صراحة ومحتل، وليس مجرد سلطة نشأت من البلد، فكان التجرؤ عليه أقوى، والقضية لها قدرة تعبوية أكبر والدستور كان له وجود والأحزاب كانت متعددة. صحيح كان هناك تزييف للانتخابات لكن كانت تحدث احتجاجات ومظاهرات ضد التزييف ويضطر الملك مثلاً لأن يأتي بالنحاس باشا. كان هناك شعور لدى الناس بأن لهم كلمتهم في اختيار زعمائهم ونوابهم، وفي الاحتجاج على تصرفاتهم التي لا تعجب. من تلك الناحية هناك فرق كبير عما نعيشه حالياً.

العامية والسلطة

أبديت حماساً لترجمة بعض أعمال شكسبير إلى العامية المصرية، لماذا؟

- سر اختياري للهجة المصرية أن لدينا نظاماً يفصل بين الكاتب والأمة أو الناس، حيث نعلم في المدارس لغة لها نوع من التبجيل وذات صور أرفع ونبدأ في المدارس على محبة هذه اللغة، وما زالت إلى الآن أحب لغة إلى قلبي هي اللغة العربية، وما زالت أسهل علي مليون مرة من الكتابة بالعامية، ولكي أجد صيغة أدبية بالعامية أعاني صعوبة شديدة لعدم تمكني منها، لكن لا أزال أراهن على أهمية إيجاد أدب رفيع من اللغة الدارجة وأول من أقنعني بإمكان استخراج أدب من العامية هو صلاح جاهين، بجانب أنني قرأت أيضاً فؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي.

سمعنا أنك تستعد أيضاً لترجمة «هاملت» إلى العامية، فهل اطلعت على ترجمات فصحى لها، كترجمة جبرا إبراهيم جبرا أو خليل مطران أو عبد القادر القط؟

- لم أر هذه الترجمات ولا أحب أن أراها إلا بعد أن أنتهي من الترجمة. كذلك لانقطاعي عن مصر لم أعرف ما تُرجم لشكسبير، لكن أستطيع أن أدعي القدرة على ترجمة أدق لهاملت تفوق ما تُرجم من قبل، وسأحاول في ترجمتي أن أعد لها هوامش وأن أجعل النص مدرسياً وأكثر عامية، لكن سأترك أسماء الميثولوجيا اليونانية كما هي مع إيضاحها في الهوامش وعلى المخرج المسرحي أن يستبدلها بأسماء من بيئة العرض المسرحي نفسه.

وهل الكتابة باللغة الدراجة ستكسر الحاجز بين الكاتب والناس؟

- الكاتب لدينا لا يكتب بلغة الناس. شكسبير كانت رواياته تؤدى على مسارح بسيطة يشاهدها كل الناس وهم يمرحون ويلهون، ومسرحيات سوفكليس عندما كانت تعرض يلتف الناس حولها، فلو وجدوا أن الشرير لا يؤدي دوره بإتقان أوسعوه ضرباً، فهؤلاء التحموا بالناس ولهذا لو سألت اليوناني أيهما تفضل حلف الناتو أم سوفكليس سيقول لك سوفكليس، وإذا سألت الإنجليزي عن شكسبير فستحصل على النتيجة نفسها.

إذا كان الكاتب العربي لا يكتب للناس، فلمن يكتب؟

- يكتب لبقية زملائه من الكتاب

هل هذه الأزمة مرتبطة بعلاقة الكاتب بالسلطة؟

- السلطة المحتكرة دائماً ستكون ضد الكاتب لأنها لا تحب الحق إلا باعتباره من اختصاصها فحسب، ولن تتركه لك ككاتب ولا توجد فرصة للمصالحة بين الطرفين ومادام الكاتب يكتب بلغة لا يفهمها الناس ستبقى السلطة (مستفردة) بالكاتب وأيضا (مستفردة) بالناس، ولذلك على الكُتاب لدينا أن يقوموا بجهد أكبر حتى يصلوا إلى ما وصل إليه زملاؤهم في الغرب حيث أصبحوا جزءاً مقوماً من ذاتية شعوبهم دون أن يعانوا ازدواجية اللغة.

ما الذي نحتاج إليه كي تكون هناك علاقة إيجابية بين الفرد والسلطة، وهي العلاقة التي دفعتك لترجمة كتيب «العبودية المختارة»؟

- عقلية «العامل» في أوربا مثلاً تربت في قرون، في حين حاول عبد الناصر أن يصنع «البروليتاريا» في مسافة نصف جيل، على الرغم من أننا مازلنا إلى الآن لا نعرف فكرة «الأجر» وإنما لدينا فكرة «الرزق»، كذلك لا نعرف فكرة «رأس المال» وإنما الموجود فكرة (الهبش) .. فالشيوعية كانت دعوة في أرض جاحدة غير معدة لها ففشلت فشلاً ذريعاً، كذلك عندما حاولت روسيا أن تصبح رأسمالية بين يوم وليلة كان مصيرها الفشل لأن فكرة الرأسمالية عاشت ونمت فى أوربا خلال قرون طويلة. ما أقصده أن ما يحدث فى يوم وليلة لا ينتج رجلاً رأسمالياً وإنما ينتج مجرد (هلاب) نحن بحاجة أولاً أن نخلق الفرد من حيث إن له حقوقاً سياسية وعليه واجبات دون انفصال. فهناك واجبات لا عقاب عليها كأن يصوت فى الانتخابات وهناك واجبات يعاقب عليها كأن يستعمل بطاقة غيره فى الانتخابات. فالفرد بما له من حقوق وواجبات فكرة موجودة من أيام اليونان ولم نخلقها نحن بين يوم وليلة وإنما تحتاج إلى وقت حتى تثمر فى أرضنا.

من اهتماماتك الرئيسية أنك تركز على الفلسفة السياسية باعتبارها حاجة ماسة للمجتمع العربي، هل هذا صحيح؟

- لو لم أكن محللاً نفسياً لما انتهيت إلى تفسيري هذا بخصوص علاقتنا بالسلطة، ويمكن أن أضرب لك مثلاً بأمريكا نفسها، ليس سر قوة أمريكا في الأساطيل والطائرات، فهذه هي القوة نفسها، أما سر القوة فيعود إلى وجود أقدم وأهم دستور لا يُمس منذ عشرات السنين ولا يستطيع أحد أن يغيره. هذا الدستور أعده الآباء المؤسسون لأمريكا من قبل الثورة الفرنسية تحت تأثير قراءتهم لجون لوك وغيره من الفلاسفة. والفكرة التي قالوها إن حيلة الحياة هي أن نبحث عن آليات تضبط الحاكم كما نجد آليات تضبط المحكوم، وهي فكرة اليونان القديمة نفسها التي بحثت عن «آليات» تجعل الحاكم لا يستبد بالحكم. هذا هو سر قوة أمريكا، إلى جانب أشياء أخرى غير الدستور، فهدفهم من الحياة أصبح تحصيل النقود بدون أي كف، وأصبح هناك إمكانية لحساب الكسب والخسارة باستمرار، ولأن الكل لديه الهدف نفسه فإن النجاح يمنح الإعجاب وليس الغيرة والحسد. وهذا أعطاهم شجاعة في البحث عن مصادر الرزق في القارات المختلفة. أي أن قوة أميركا في الدستور أولاً ثم في تكوين الشعب الذي يُعجب بالنجاح ويرى في الكسب علامة رضا وهذا ما نحتاج إليه كعرب.

مجلة العربي اذار 2009

مصطفى صفوان.. في سطور

مصطفى صفوان من مواليد الثامن عشر من شهر مارس 1921 وقد تخرج في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية حاليا) في الدفعة الأولى عام 1943 ومع نبوغه تصارع عليه أستاذان شهيران لتوجيه بعثته العلمية هما أستاذ المنطق أبو العلا عفيفي وأستاذ علم النفس مصطفى زيوار الذي أصبح أبا روحيا له وكتب له مقدمة ترجمة «تفسير الأحلام». وفي أواخر الأربعينيات سافر صفوان إلى باريس لاستكمال دراساته العليا وارتبط آنذاك بجاك لاكان. وبعد عودته وعمله في الجامعة المصرية تعرض لموقف قد يبدو بسيطاً جداً مع حرس الجامعة لكنه كان حاسما بالنسبة له لاتخاذ قرار الهجرة والاكتفاء بزيارات متقطعة إلى الوطن، مع التواصل مع الأصدقاء وعدد قليل جداً من المنابر الإعلامية.