موسيقى العراق على يد ناظم نعيم

موسيقى العراق على يد ناظم نعيم

حنا بطرس

مدخل:

لسنا كغيرنا من أقوام العرب أن نطلق الألقاب الرنّانة والطنّانة في تفخيم شخصٍ برع في أحد مسالك الإبداع الخلاٌّق أدباً أو شعراً أو فنّاً، فيقال فيه (أمير الـ كذا) وهو وصف يستحقُّه صاحبه، بدون شك.

كما أنَّ إنساننا العراقي المبدع، وهو كبير وكبير جداً بفخامة ما أبدع خلال حياته من كبائر النتاجات الإبداعية (أكرر هنا كلمة الإبداع)، ما نالَ حتى لحظة كتابة هذه المداخلة، ما يستحق من الإكرام غير المبالَغ به، في حياته وبعد رحيله عن هذه الدنيا. فلم نسمع عن الرصافي إمارَتَه، ولا عن جميل صدقي الزهاوي، أو ناظم الغزالي أو رضا علي (الذي إرتحل بصمت عن هذه الدنيا قبل عام) - للمثال وليس للحصر، ما خلا بعض الأوصاف المرتعشه هشاشةً بقول الواصف إن فلاناً (سفير الأغنية – للمثال أيضاً).

في حقيقة الأمر، ما كنتُ سأتناول مثل هذا المدخل للحديث عن ناظم نعيم (بكل تجريد)، وأنا في طَور الكتابة عن هذا (شيخ الملحنين) ببعض ما يستحق، لولا قراءتي لموضوع أثارَ فيَّ كل شجون الألم؛ موضوع حمل عنوان:

شيخ الملحنين / الفنان ناظم نعيم يطالب بالحذر من مزوِّري الحقيقة والتاريخ

المنشور على الصفحة (24) من مجلة (صوت المهجر- مجلة ثقافية مستقلة تصدر كل شهرين، العدد/18 – أيلول/تشرين 1، 2005)، جاء في مقدمته:

إن ما يجري حالياً هو تزوير التاريخ والوقائع في الوقت الذي لا يزال أصحاب العلاقة على قيد الحياة. من المُعيب ومن المؤسف بعد إحالتي على التقاعد ومغادرتي العراق الحبيب مع عائلتي حتى أمضي بقية حياتي في ملاحقة ذكرياتي وتدوينها.

ثم يعرِّج بألم:

لقد تابعتُ الكثير من الندوات عبر شاشة التلفزيون أو الإذاعة تتعلق بمواضيع الفن والفنانين (الموسيقيين والملحنين) وكنتُ أجد نفسي ذلك التحاشي عن ذكر إسمي وشعرتُ بمرارة وألم إنَّ أحداً من هؤلاء لم يُشِر حتى ولا إشارة إلى ما قدَّمه ناظم نعيم، بل الأنكى من ذلك أنها في الكثير من الحالات أخذت تُنسب إلى ملحنين آخرين – سامحهم الله، كنت أشعر أن حقّي قد غُبِن في عصر التغييرات.

وهنا أعتصِرُ مع ناظم نعيم ألَمَ مشاعره بقوله:

...إذ أقول ولا أبالغ (لولا ناظم نعيم لما عُرِفَ ناظم الغزالي لما عُرِف)!!.

ويلمِّح تنويهاً عن بعض أعماله ومنجزاته، منذ تعيينه في العام 1943، في دار الإذاعة العراقية «كعازف كمان بشكل فعلي»، ويستطرد بعض الشيء عن تاريخه الفني الذي إرتقى الذروة مع ناظم الغزالي، فصار له ثالوث النواظم: نعيم، الغزالي والصفار (المخرج الذي أنتج حفلات الغزالي الإذاعية والتلفزيونية)، إلى جانب الشاعر الغنائي جبوري النجار.

أتوقف هنا عن متابعة الموضوع، مع شكري وتقديري الكبيرين لـ (صوت المهجر) على إثارتها لقضيِّةٍ لو كان ثمة إعتبارٍ لرموز البلد – أي بلدٍ كان – لنالَ أبناؤه المبدعون ما يستحقون من التوثيق المجرَّد (قبل أنْ يكون مبالَغٌ فيه) بالتزام الحقائق وبكل تجرُّد.

إن كتابة التاريخ لَمِن أصعب مسالك الكتابة التوثيقية: تتطلََّب – فقط ولاغير – أمانة طَرح الحقائق وبكل تجرُّد، كحد الأدني؛ ناظم نعيم، كما هي الحال مع غيره كثيرين من مبدعينا، ليس بحاجة إلى الإطناب: إنه في وقار شيخوخته خزين تأريخي لكتابة تاريخ الموسيقى العراقية (التقليدية) في العصر الحديث.

ناظم نعيم، فنان مرموق

مدخل ثانٍ:

كلنا يذكر التسجيلات الغنائية لناظم الغزالي، تلك التي سجَّلها التلفزيون الكويتي في العام 1962 (بالأبيض والأسود – قبل زمن التلفزيون الملوَّن) قبل رحيل الغزالي بأشهُر، والتي يبثُّها التلفزيون العراقي حتى يومنا هذا. يقول ناظم نعيم فيها:

« وبعد النجاح الكبير الذي حققته فرقة ناظم نعيم من على شاشة التلفزيون العراقية تلقَّى الغزالي دعوة من الحكومة الكويتية عام 1962، وتم تسجيل وتصوير 22 أغنية من ضمنها المقامات «, وحين نُمعن النظر في الفرقة الموسيقية المرافقة للغزالي في هذه التسجيلات، نجد بين أعضائها أربعة عازفين من العراقيين وهم يقودون العمل الموسيقي وبقية العازفين هم من بلدان أخرى. إنَّ أولئك الأربعة الذين صاروا للأخير رفاق درب الغزالي، هم: ناظم نعيم (كمان)، سالم حسين (قانون)، خضر إلياس (ناي)، وحسين عبدالله (رقّْ).

إذاً: ذلك هو (ناظم نعيم) الذي إرتحل إلى أميركا منذ عام 1982 ليستقر وعائلته في مشيكان، يمارس العزف بين الحين والآخر، لكنه يستكين للهدوء – كما هي عادته – بعيداً عن الأضواء، مستعيناً بالمطالعة والإستماع إلى الموسيقى، والحديث مع بعضٍ من أصدقائه، وبخاصة زملاء الفن من جيله الذين عاصروه أمثال فؤاد ميشو وعبد الكريم بدر.

معرفتي بناظم نعيم:

ناظم نعيم سلمو، المولود في بغداد بتاريخ 1 / 7 / 1925 (أطال الله في عمره) لعائلة عشقت الموسيقى وتعايشت معه بمستوى الحرفة؛ كان والده (نعيم سلمو) عازف كمان مقتدر عمل طويلاً عازفاً ورئيساً في مختلف الفرق الموسيقية العراقية الرائدة، فنشأ ناظم نعيم منذ صغره في أجواء النغم، ليأخذ في بداية أمره زِمام الكمان والعود محرِّكاً أصابع يده الناعمة فوق الأوتار، مستخرجاً الأنغام الشائعة: وبهذا كان الوالد معلِّمه الأول. وكذلك عمّه شاكر كان عازفاً للعود. ويأتي شقيقه الثاني عزَّت (مواليد بغداد 1931)، ليصبح هو الآخر عازف كمان قدير عمل طويلاً في مجالات الفن إذاعياً ومسرحياً. أما شقيقه الثالث، توفيق (مواليد بغداد 1934)، فإنه إكتفى بتذوق الموسيقى وتفهُّمها وبحكم عمله مستقبلاً في مجال الصحافة، كتب الكثير من المقالات في المواضيع الموسيقية.

عرفتُ أبرز عازفي الكمان الشرقي العراقيين من الأجيال الأولى، أمثال جميل بشير وغانم حداد والكمان الغربي أمثال غانم عقراوي (الطبيب الجراح) وآرام تاجريان وآرام بابوخيان وفؤاد عبد الرضا (وغيرهم) من أوائل الذين إلتحقوا بالمعهد الموسيقي المؤسَس في بغداد عام 1936، معهد الفنون الجميلة فيما بعد. وكان طبيعياً طبعاً أن أعرف ناظماً أيضاً؛ لقرابة والدته (فهيمة مروكي زورا) مع الوالد.

لذلك، فإن ما أكتبه هنا له أكثر من سبب يدعوني لذلك؛ والسبب الأهم هو (ناظم نعيم الفنان المبدع – الإنسان).

مع كتاب (ناظم نعيم – اللحن الجميل):

صدر هذا الكتاب سنة 1993 – 1994 عن مؤسسة (هاي تك للنشر والإعلان) في مشيكان بأميركا، على يد (نخبة من الأدباء والشعراء والفنانين) يتصدرهم (المهندس الفنان فؤاد ميشو، عضو الفرقة السمفونية الوطنية العراقية) حسبما ما هو مذكور على الغلاف الداخلي للكتاب. لذلك، سأتخذ من الكتاب مصدراً رئيساً في كتابتي هذه.

قبل كل شيء، يجد القارئ في هذا الكتاب سِفراً يغطي أكثر من نصف قرنٍ من الزمن، ينطلق لتوثيق حياة شخصٍ جعل من الموسيقى رسالةً للناس – كل الناس، ليس فقط على صعيد الطرب والتطريب، بل تعدَّى ذلك بسياحته في وجدان الإنسان، عراقياً وعربياً على أوسع مساحة من الرقعة الجغرافية لبلده العراق ومحيطه الشرق أوسطي والعربي الواسع، بل بعيداً في كل مكان ينتشر فيه عشَّاق الفن العراقي – العراقي الأصيل، بصحبة الملاك الطائر في شَدوِه العطر النديّ، ناظم الغزالي، الذي أنشد للوجدان الإنساني أجمل قصائد العرب، وأحلى أغاني بلده العراق؛ لم يكن ناظم نعيم بحاجة إلى واجهة تظهره للملأ، لكنه كان الثنائي مع صُنوِه الغزالي، ورفقاء دربه الفني الطويل.

ناظم نعيم، شيء من التاريخ:

لا أنوي الدخول في كيفية صناعة ومن ثم كتابة التاريخ؛ فالذي يصنع الأحداث يدخل التاريخ، فيُكتَب له وبه. وتاريخنا زاخر بالأحداث وصنّاعها، لكن جُلَّ ما كُتب فيه خضع ويخضع لمزاجيات الكاتب، ومزاجيات الظرف المتحكِّم في المجتمع.

فالأولى، أعني مزاجيات الكاتب، تشكِّل حجر الزاوية في كتابة التاريخ، فإن أحبَّ المادة التي يؤرِّخ لها، تجده يهيل معالم التكريم المبهرة فتضع لها هالة تحيط بها من كل جانب. والعكس بالعكس تماماً، فيهيل التراب عليها فينالها النسيان والإهمال، وكأنها صارت نسياً منسياً! هذا الذي حدث بالتمام لفناننا ناظم نعيم، الأمر الذي دعاه إلى الكتابة إلى وزارة الثقافة، وبشخص وزيرها آنذاك، وكأن ناظماً يستعطي حقاً ضائعاً! إن الحدّ الأدنى في كيفية التعامل مع الناس عموماً، والمتميزين منه إبداعاً وعطاءً، إعطاؤهم حقَّهم في ذكرهم.

ناظم نعيم وأم كلثوم:

سافر ناظم نعيم في جولات كثيرة، شرقاً وغرباً، حاملاً (أوراق إعتماده) كسفير لموسيقى بلاده، ناشراً بمفرده أو بفرقته الموسيقية المصاحبة لهذا المغني أو ذاك، وكان للغزالي فيها حصة «الأسد». حتى بات إسم الغزالي رمزاً للموسيقى العراقية بدون منافس.

تذهب إلى لبنان، مثلاً، وتسأل القوم هناك عمَّن يعرفون من المغنين العراقيين، يأتيك الجواب بكل عفوية، إنه ناظم الغزالي، وكذلك في كل البلاد العربية.

وتبقى مصر قبلة أنظار الفنانين العرب بشكل عام، وبخاصة المغنين والموسيقيين؛ قام ناظم نعيم بزيارتها عدة مرات، إلتقى فيها فناني مصر الذين يعرفهم ويعرفونه بشكل جيد. يقول في هذا الشأن، في الصفحة 140 من كتابه (ناظم نعيم اللحن الجميل) وتحت عنوان (قصته مع أم كلثوم) الآتي:

خلال زيارتي إلى الكويت قد تعرَّفتُ على الفنان وعازف الكمان الأول في فرقة أم كلثوم، أحمد الحفناوي، وطلبتُ منه إذا كان بالوسع الحديث أو مفاتحة أم كلثوم لتقديم لحنٍ لها.

أجابني الحفناوي: وبعد أن إستمع إلى أغاني الغزالي التي هي من ألحاني التي سُجِّلَت ولُحنَت في الكويت، وقد أُعجِب بها، قلتُ له إني أود أن أقدم بعض ألحاني لأم كلثوم. رحب الحفناوي وقال إن أم كلثوم في نيتها أن تغني من كل بلد عربي لحناً لأحد فنانيه؛ وبدأت أعد اللحن.

وفي عام 1973 حملتُ معي عودي وغادرتُ إلى القاهرة لأقدِّم لحني إلى الفنانة الراحلة. وكانت القصيدة للشاعر العراقي (حافظ جميل) رحمه الله، بعنوان (بريد القُبَل).

يقول ناظم نعيم (بعد أن أنجزتُ القسم الأول من اللحن وسجَّلتُه على شريط كاسيت وبدأتُ بالقسم الثاني، لاحظتُ ضعفاً في القسم الثاني وقوَّةً في القسم الأول وقد حاولتُ أن يكون القسمان بذات الدرجة من القوة. إلا أنني لم أفلح ومع ذلك أرسلت اللحن إلى أم كلثوم. وفي نفس السنة توجهتُ إلى القاهرة وإلتقيتُ أم كلثوم في شركة (صوت القاهرة) وهي تجري التمارين مع فرقتها والفرقة الماسية وكان اللحن لعبد الوهاب. عدتُ إلى بغداد ثانيةً بعد أن تفاهمنا حول القصيدة وطلبت مني تغيير القصيدة المختارة ومن نفس الشاعر: فاختارت هي قصيدة (نـداء).

في العام 1974 عدت إلى القاهرة والتقيت بالفنانة الراحلة وتباحثنا ثانيةً فيما يخص الأغنية؛ كانت معجبة باللحن وبالنص وطلبت مني أن أكتم السرّ (!) لتكون مفاجأةً للمستمع العربي وأنْ أتوقف عن تقديم أي معلومات عن الأغنية بوسائل الإعلام. إلا أنَّ ظروفَها الصحية وسوء حالتها وسفرها للعلاج وإنتظار عودتها متشافَية تأخر تقديم الأغنية. لكنها (رحلت رحلتها الأبدية). هكذا كانت قصة الفنان ناظم نعيم مع أم كلثوم.

خــاتمة:

لستُ في صدد الإطراء والمديح، لفناننا ناظم نعيم؛ فهو جيل فنِّي شامخ في تاريخ الموسيقى العراقية الحديث. وإنْ إبتغيتُ الكتابة عنه، فلن يكون في مقدوري إعطاءه حقَّه الكامل عبر أسطر تُنقَش على عدد من الصفحات.

كان لقائي الأخير معه عبر التلفون، ومن بيت زميلنا الصديق الوفي فؤاد ميشو في مدينة ناكسفيل، أثناء جولتي في أميركا وكندا في نيسان 2005؛ أجل، تحدَّثتُ إلى أبي وسيم، ناظم بالتلفون، كان فرحَه بالحديث معي صادقاً وحميماً. وكذلك كانت الحال عندي تجاهه. وتحسَّستُ حاجتَه لمن يتحدث معه، وبخاصة من لدن الفنانين؛ إن جُلَّ ما يطلبه الرجل هو الصدق والأمانة في الحديث عنه. فوعدتُه بأن أكتب عنه بما يستحق.

لذلك أكتفي بما ورد على هذه الصفحات من شذرات، وأدعو من منبر هذه الكتابة، الفنانين والشعراء الذين عرفوا وزاملوا المسيرة الفنية لهذا الرائد الذي منح الفن العراقي والعربي حبَّاً دافقاً بنبر الإيقاع والكلِم واللحن الشفاف، أدعوهم لتغطية صفحات أخرى بما يمتلكون من وثائق وذكريات وبما يستحق أيضاً.