البابا فرانسيس من العراق : أنتم جميعاً إخوة

البابا فرانسيس من العراق : أنتم جميعاً إخوة

د. فالح الحمراني

تصب زيارة البابا فرانسيس المرتقبة للعراق في جهود تعميق حوار الحضارات والأديان، والتفاهم بين الأمم والشعوب والطوائف، وتمتين أواصر الأخوة البشرية والعودة الى ينابيع الأديان السماوية. وهي دلالة على مواصلة الفاتيكان في دعم العراق وشعبه ومساعدته للتغلب على الفتن والتحارب العقيم، واستنهاض القيم الروحية والأخلاقية، قيم الحب والتعاون والإخاء وترسيخها في القلوب.

سنسمع من خطاب البابا في أرض الرافدين ما عقدنا الآمال عليه في الدعوة لإعادة النظر في أحوالنا، والهاوية التي وجد بلدنا نفسه فيها، والبدء في نشر السلام والاستقرار في بلدنا الجريح، دعوة لترسيخ ثقافة التسامح وخلق الظروف المواتية، ووضع القاعدة الصلبة لتعزيز أركان الدولة العراقية، بأن نستعيد تاريخنا العريق والمجيد وأن نمهد الطريق لإنهاض بلدنا على كافة الأصعدة، في أن ننمي قوانا الروحية التي دعتنا الشرائع السماوية والمنطلقات الإنسانية عامة .

إن شعار جولة البابا فرانسيس إلى العراق - “أنتم جميعاً إخوة” - مقتبس من إنجيل القديس متي (انظر متى 23.8). وكلمات السيد المسيح هذه هي جزء من الشعار الذي يعكس زيارة البابا فرانسيس لبلاد الرافدين، وانعكس شعاره في الخريطة الجغرافية، التي وضعها الفاتيكان للزيارة، وتضمنت بالإضافة إلى نخلة ونهري دجلة والفرات. وصورة حمامة بيضاء وفي منقارها غصن زيتون (رمز السلام) ، وهي تلوح بأعلام الكرسي الرسولي وجمهورية العراق. وفي أعلى الصورة شعار الزيارة باللغات العربية والكردية والكلدانية: “أنتم جميعاً إخوة”. فلنستمع بجدية لهذا الشعار، ولنفتح قلوبنا له.

وتعكس محطات جولة البابا فرانسيس حيث، سيزور بالإضافة إلى بغداد النجف الأشرف ونينوى والناصرية (أور)، على عراقة تاريخ أرض ما بين الرافدين، حيث كانت دائما موطأ الأديان السماوية، ورغم يد الظلاميين والتكفيرين التدميرية، فما زالت على أرضنا المقدسات لكافة الأديان، إنها أماكن العبادة وتطهير الروح ودعوة للتخلي عن العنف، وتجنب ممارسة القتل المجاني، والدعوة للتسلح بمبادئ اللاعنف والتسامح، والتحلي بأقصى درجات الأخلاق، وبشعور المسؤولية العالية، إزاء الآخر، إزاء الشعب، إزاء الوطن والإنسانية، والتحرر من ممارسة الفساد بكل أشكاله، والتخلي عن استخدام المناصب من أجل الإثراء، والنفور من سرقة ممتلكات الدولة على حساب الحياة الكريمة للشعب بأكمله، إن زيارة البابا ستُعيد لذاكرة قوميات العراق أمجادها ومآثرها، وقيمها ومُثلها، وصيانتها.

إن البابا فرانسيس، هو أول بابا غير أوروبي منذ عام 741 (البابا غريغوري الثالث كان بابا من 731 إلى 741 وولد في سوريا الحالية) ، يتخذ نهجاً مختلفاً عن سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر للعلاقة بين الإسلام والمسيحية. وبشكل عام ، يتمتع البابا فرانسيس بفهم أوضح للقضايا الاجتماعية من أسلافه، والحوار بين الأديان هو أحد هذه الأساليب، وأولى البابا فرانسيس منذ البداية أهمية كبيرة للحوار بين الأديان، ولا سيما مع الإسلام، ودعا في أحد الأماكن الأقلية المسيحية في بلد مسلم إلى التعايش السلمي مع المسلمين ، بدلاً من إثارة عقيدتهم، يبدو أنه يحاول عدم تكرار أخطاء البابا بنديكت في مقاربته للمسلمين، من ناحية أخرى، يمكن لسياسة البابا والفاتيكان بشكل عام تجاه الدول الإسلامية أن تساعد في الحد من تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا وتقوية النهج الإيجابي تجاه الأقليات المسلمة التي تعيش في بلدان مختلفة من العالم.

وتنطوي الزيارة أيضاً على أبعاد هامة لا بد من استيعابها لتصب في جهود الناس الخيرين لدفع بلادنا نحو طريق الخروج من الأزمات المتفاقمة، والتي تلوح بأنها ستستمر لفترة طويلة ، إذا استمرت رؤوس النظام الحالي في مناصبهم والسير على نهجهم المدمر، أن تساعد دعواته على إقامة نظام حكم يستحقه شعب العراق، يقوم على العدالة الحقة، واحترام حقوق الإنسان والقوميات والأديان، والعمل على تعايشها وتآخيها تحت مظلة الوطن الواحد.

إن هذه الزيارة، التي تم تأجيلها سابقاً بسبب تفشي فايروس كورونا ، مهمة لأنها تشمل أيضًا على لقاء تاريخي للبابا فرانسيس مع آية الله علي السيستاني، وتأتي بذلك كخطوة هامة على طريق الحوار بين الأديان، على أسس القواسم المشتركة العريقة بين أديان التوحيد السماوية، ووضع حد نهائي للتحارب، وغياب الثقة والشكوك، وبناء أرضية جديدة للتفاهم المتبادل والتعاون وشد أزر بعضها الآخر للخروج من الأزمات والتحديات المستفحلة التي تحيق بالبشرية جمعاء، التي من غير الممكن التغلب عليها من دون الجهود المشتركة. وسيكون لقاء البابا فرانسيس مع آية الله العظمي السيستاني وممثلي الأديان الأخرى خطوة على هذا الطريق، وسيكون لحوارهما دلائله وانعكاساته الإيجابية على صنع السلام والوفاق بين المسلمين والمسيحيين وكافة المذاهب والطوائف.

من هذا المنطلق ينبغي تحريك عملية التفاهم والتقارب بين المذاهب الإسلامية لاسيما أبناء الدين الواحد: السنّة والشيعة، ونزع فتيل كل ما يفرق بينهما، وبناء جسور الثقة والتآخي الحق، والمواطنة والاحترام المتبادل، وبالتي مد اليد لأبناء الطوائف الأخرى، لاسيما المسيحية التي تعد من أقدمها في بلاد الرافدين، التي لحق، على الهوية، بأبنائها الضرر وبعوائلها الكوارث والتشرّد في مرحلة ما بعد الديكتاتورية.

إن الاستعدادات لزيارة البابا فرانسيس للعراق ، والتي ستتم في الفترة من 5 إلى 8 آذار ، في مرحلتها النهائية، وسيصل البابا فرانسيس إلى بلد مطعون بالحرب والعنف والانقسام، ويلتقي هناك مع الأقلية المسيحية وممثلي الديانات غير المسيحية. وفقاً للكاردينال ليونارد ساندري ، “ فإن رحلة الأب الأقدس المخطط لها ليست أكثر من تأكيد على المرجعيات المؤيدة للعلاقات الأخوية”، والتي ظهرت في نص الوثيقة عام 2019 من أبو ظبي التي تمخضت عن لقاء قداسة البابا فرانسيس وفضيلة شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، وفي الرسالة العامة التاريخية التي أطلقها قداسة البابا فرانسيس بعنوان «فراتيللي توتي»، «جميعنا إخوة»، ودعت هذه الوثيقة التاريخية إلى تكريس الأخوة الإنسانية والصداقة الإجتماعية ، وتجسيدها بأفعال حقيقية..

إن البابا يهدف من زيارته تقديم العزاء للشعب العراقي، وللكنيسة المحلية على المحن التي مر بها، ولكن هذه الزيارة لها هدف آخر: إظهار للعالم أجمع أن الأخوة بين المسيحيين والمسلمين ممكنة». وقال متحدث من مجمع الكنائس الشرقية: أعتقد أن هذا يجب أن يُنظر إليه على أنه خطوة ملموسة في الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، خطوة ستكون أكثر فاعلية إذ أن زيارة البابا إلى العراق هي الدليل الحي على إمكانية التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين. من المهم جداً ألا تبقى النظريات المتعلقة ببناء عالم شقيق على الورق فحسب ، بل أيضاً أن يتم تنفيذها في الحياة الواقعية للناس والمجتمعات.

من دون شك أن خطاب البابا فرانسيس من بلاد الرافدين، سيمنح المسلم فرصة فهم دينه بشكل أفضل، فالتحرر من العلاقة المتحيزة تجاه الآخرين، يعزز قدراً أكبر من حرية التفكير عند المرء، وبالتالي هذا الأمر سيؤدي حتماً إلى التحرر من التحيز الذاتي. وفي طبيعة الحال إن فهمنا لأنفسنا بشكل أفضل سيترك أثراً على فهم الآخرين لنا. وهذه العملية المتمثلة في الفهم المتبادل (لبعضنا البعض، وقبل كل شيء لأنفسنا) هي عملية تتم من خلال اللقاء لتعميق الحوار المعاصر بين الأديان.