لنتذكر فتاح باشا ومعمله .. القصة الكاملة

لنتذكر فتاح باشا ومعمله .. القصة الكاملة

تميز العراق منذ آلاف السنين بالحرفية العالية بصناعة المنسوجات الصوفية وخاصة السجاد وأبدعت أنامل العامل العراقي منذ آلاف السنين بنسج سجاد بمواصفات عالية الجودة منها أقدم سجادة في العالم حيث يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد وجدت في قصر آشور بانيبال وتسمى بـ»سجادة البازاريك “ معروضة حاليا في متحف (الأرميتاج) في مدينة سان بطرسبرج الروسية .

ولد فتاح باشا سنة 1861 م وتقدم في الجيش التركي حتى نال رتبة أمير لواء وكان مديراً لمعامل النسيج العسكري في بغداد وأحيل على التقاعد قبيل الحرب العالمية سنة 1914 وعين على إثر تأليف الحكومة العراقية متصرفاً للواء كركوك 1921فشغل منصبه إلى سنة1924 .ثم أسس مع إبنه نوري معملاً لنسج الصوف في الكاظمية سنة 1926 وأقام معمله وسـط بستان حيث إفتتحه الملك فيصل الأول بنفسه فكان المعمل في مقدمة المشاريع الصناعية الحديثة قي العراق.توفي فتاح باشا في بغداد في 8 كانون الثاني 1936 أصل أسرته من قرية تسعين القريبة من كركوك وكان جده يعمل في كركوك وله معرفة بمتصرفها وقد رأى أن يدخل ولده فتاح في المدرسة الرشدية العسكرية ودرس فتاح في المدرسة الرشدية العسكرية في كركوك ثم أرسل إلى إستانبول فأتم دراسته العسكرية فيها وتخرج ضابطاً.

أما نوري فتاح فولد سنة 1893 وتخرج في المدرسة العسكرية فكان ضابطاً في الجيش التركي وعاد إلى العراق بعد الحرب العظمى فإشترك في الحركة الوطنية ونفي إلى جزيرة هنجام قام مع أبيه بتاسيس معمل النسيج في الكاظمية وتولى ادارته إلى حين تأميمة سنة 1964 م وكان رئيسا للوفد العراقي إلى مؤتمر التجارة الدولي المنعقد في راي/ نيويورك في تشرين الأول 1944 وأمضى في بيروت سنواته الأخيرة بعد تأميم معمله وإنتقل إلى عمان على أثر نشوب الحرب الأهلية في لبنان وتوفي في أيار 1976 ودفن مع عائلته في جامع يقع قرب الشركة في الكاظمية يحمل إسم جامع فتاح باشا.

لقد كان فتاح باشا من أفخر الصناعيين العراقيين في العراق أيام الملك فيصل الأول ومن منا لا يعرف بلانكيت (بطانية) فتاح باشا أو سمع بها التي كانت ولازالت تدفئنا من برد الشتاء وتكون بساطا لنا عندما نذهب للتنزه فنفرشها تحتنا تقينا من هوام الأرض ويبوسة التربة قبل أن يستعمل العراقيون لفظ (بطانية) الذي ساد بعد 1958 كان البغـداديون والبصراويون وربما الموصليون أيضا يسمون البطانية بلانكيت

كانت منتجات معمل فتاح باشا من المنسوجات الجوخية تنافس أفضل منتوجات مصانع مدينة مانشستر البريطانية للمنسوجات حتى أصبحت رمزا للصناعة الوطنية ومفخرة له في حقبة القرن العشرين ولغاية تأميمه عام 1964 من قبل مجموعة سياسيين العسكريين الحاقدين على كل ما هو وطني بحق.لم تتوقف أعمال عائلة فتاح باشا الخدميه لوطنها عند الصناعة فقط فقد أسست شركة المنصور على أيديهم وهي التي قامت بإنشاء مدينة المنصور الحالية والتي تعدّ الآن واحدة من أرقى أحياء بغداد .

بدايات معمل فتاح باشا

كان صالح إبراهيم أفندي (صهر فتاح باشا) في زمن الحكومة العثمانية مديرا لمعمل العبخانة برتبة (بينباش) وقد صدرت اليه الأوامر عند انسحاب الجيش العثماني من بغداد عام 1917 بتفكيك المعمل وتدمير مكائنه غير إنه قام بتفكيك المكائن ولم يدمرها بل أرسلها للموصل وحاول خلال السنوات اللاحقة إيجاد الممولين اللازمين لإعادة تأسيسه في الموصل لكن محاولاته باءت بالفشل وأصبحت المكائن غير صالحة للعمل وقد ذهب مع الأتراك إلى الإستانه وعين بالوظيفة ذاتها . هناك راسله عمه فتاح باشا بالعودة الى بغداد فرفض بزعم أنه لا يتمكن من الرجوع لعدم توفر عمل كهذا في بغداد وإنه يرغب الخدمة في الدولة العثمانية وفي الوقت نفسه طلب من عمه (فتاح باشا) تأسيس معمل نسيج .لقيت هذه الفكرة عند الباشا محلا من الترحيب والرجحان وشاور كثيراً من التجار لغرض الشروع وجلب مكائن للنسيج والغزل فلم ير منهم إلا الرفض لكن عزمه لم يثنه عن القيام بهذا العمل الجليل منفردا ولما لم تكن أمواله كافية للقيام بالمشروع إضطر لرهن وبيع أملاكه.

فأخبر صالح أفندي وهو في الإستانه بصحة عزمه ورغبته في أن يقوم بهذا المشروع على إثر هذا الطلب ذهب صالح أفندي إلى برلين لإحضار ما يلزم لمشروعه وإستورد ماكنة واحدة للغزل على سبيل التجربة وأسس المعمل في الكاظمية قرب جسرالأئمة فتولى نوري فتاح إدارة الأعمال المالية والتجارية والإدارية وتولى صالح إبراهيم إدارة الأمور الفنية وكان في مرحلته الأولى يقوم بإنتاج الغزل الصوفي فقط ويجهزها لمشاغل النسيج اليدوية الصغيرة ولمصلحة السجون التي كانت تقوم بإنتاج بعض المنسوجات الصوفية والسجاد اليدوي وبلغ عدد العاملين فيه مع بداية العمل (65) عاملا ومع مرور الوقت إستكمل المعمل معداته حيث إحتوى على (40) نوالا مستوردا من بولندا وجهز بمحرك بخاري بقوة (75) حصانا وجهاز لتوليد الكهرباء.

باشر المعمل إنتاجه بالشكل المخطط له أواخر عام 1929 وأشرف عليه في بداية الأمر فنيون بولنديون ووصل عدد العاملين فيه زهاء (300) عامل وعاملة و(8) موظفين إداريين و(12) ملاحظا ورئيس عمل وقد تراوحت أجرة العمال بين (50 ـ250) فلسا يوميا حسب كمية العمل وقدرة العامل تجدر الإشارة أنه تم الإعتماد في إدارة المعمل على الضباط المتقاعدين وذلك لضبطهم الإداري وحاجتهم الى فرص العمل

أنتج المعمل الأقمشة والغزل والأحرمة والبطانيات وقد تراوحت قيمة البطانية الواحدة بين (450ـ750) فلسا وإمتازت منتجاته بالجودة بالأخص البطانيات التي كان الناس يفضلونها على الأجنبية لأن صناعتها كانت متقنة وصوفها خالص ونتيجة لهذه الجودة صدرت المنتجات للشام ومصر وأقطار الخليج العربي وإيران حتى أنها حازت على جوائز دولية لجودتها كما شارك المعمل في عدة معارض محلية وعربية وعالمية وبما أن المعمل كان يعد معلما من معالم النهضة الصناعية في العراق فقد كان يزوره العديد من رجال السياسة والإقتصاد الذين يزورون العراق وكان من بين زواره رائد الإقتصاد المصري محمد طلعت حرب في نيسان 1936 ومؤسس البنك العربي عبد الحميد شومان في عام 1947 .غير أن النجاح الذي حققه المعمل لم يكن لولا المساعدة والتشجيع الشعبي والحكومي الذي حصل عليه فعلى المستوى الشعبي لقي تأسيس المعمل ترحيبا كبيرا من قبل الرأي العام العراقي وعدت الصحف العراقية هذا المعمل المعمل الأول من نوعه في العراق ونموذجا يحتذى به لإقامة مشاريع صناعية وطنية مماثلة بوصفه معملا يضاهي المعامل الأوربية ودعت الشعب لتشجيعه من خلال الإقبال على شراء منتجاته كما حملت الحكومة والشعب مسؤولية بذل أقصى الجهود بهدف زيادة الوعي الشعبي للإقبال على شراء المنتجات الوطنية.

أما على المستوى الحكومي فإن الملك فيصل الأول (1921ـ 1932) نفسه كان يهتم بالمعمل ويوصي بإستمرار بتقديم التسهيلات له وتلبية إحتياجاته ومنحه مساعدات مالية وكانت الحكومة بدورها تسعى لدعم وتشجيع الصناعات الوطنية بشكل عام وقد حظي معمل (فتاح باشا) بدعم الحكومة فقد حصل على إعفاءات من الضرائب من مجلس الوزراء عام 1927 كما شمل بقانون تشجيع الصناعة رقم (14) لسنة 1929 الذي تضمن تقديم التسهيلات والمساعدات لأصحاب المصانع بما فيها إعفاء المواد اللازمة والمستوردة من رسم الكمركي وتلبية لدعوة الحكومة للمؤسسات الرسمية والعسكرية لابتياع منتجات معمل تشجيعا للصناعة الوطنية تعاقدت وزارة المالية مع المعمل لتزويد وزارة الدفاع بما تحتاجه من منتجات بشرط أن تكون الأسعار أرخص من المستورد كما قررت الوزارة منح المعمل سلفة قدرها (لكين ونصف لك روبية) بفائدة قدرها (5%) غير أن وزارة الدفاع طلبت من وزارة المالية إلغاء الفائدة لكون هذه الصناعة في بداية نشؤها وهي بحاجة لتشجيع حقيقي فوافقت وزارة المالية على ذلك كما تعاقدت وزارة المالية مع المعمل على تزويد منتسبي وزارة الداخلية بما تحتاجه من المنسوجات والبطانيات بشرط أن تكون الأسعار أرخص من المستورد أيضا .

غير أن المندوب السامي البريطاني آنذاك كلبرت كلايتون (Kilbert Clagton) إعترض على منح السلفة لمعمل فتاح باشا على أساس أنها مخالفة للقانون الأساس العراقي لأن المبلغ يتطلب موافقة البرلمان لكن الملك فيصل أبلغ المندوب السامي بأن المبلغ ليس سلفة بقدر ما هو إستثمار مبلغ يودع لدى المعمل مقابل ضمانة وفائدة محددة وبناء على ذلك وافق مجلس الوزراء في 11 شباط 1930 على منح المعمل سلفة قدرها (75) ألف روبية من تخصيصات وزارة الدفاع في الميزانية العامة لقاء تزويد الوزارة بإحتياجاتها وبالمقابل وافق نوري فتاح على تسليم منتجات المعمل إلى الوزارة وبسعر اقل من السعر المستورد . كما وافق مجلس الوزراء عام 1932 على منح المعمل سلفه قدرها (5) آلاف دينار وبناء على طلب نوري فتاح وافقت الحكومة في 14 تشرين الثاني 1936 على إعفاء مواد أخرى للمعمل من رسم الوارد الكمركي وفقا للكميات المسموح بها وبعد توسع المعمل وإزدياد إنتاجه حصل مرة أخرى على إعفاءات كمركية لكل ما يحتاجه من مواد أولية مستوردة في عام 1939.

شهد عقد الثلاثينات توسعا كبيرا في صناعة الغزل والنسيج الصوفي فقد إنفصل صالح إبراهيم عن معمل فتاح باشا بعد إختلافه مع نوري فتاح وأسس له معملا خاصا به يقوم أيضا بإنتاج المنسوجات الصوفية والبطانيات فأصبح منافسا لمعمل فتاح باشا ولاسيما في المناقصات الحكومية لتوفير متطلبات الجيش والشرطة وفي عام 1938 أسس صالح ابراهيم مصنعا أخر في الموصل لإنتاج الغزل و المنتجات الصوفية وبذلك بلغ في عام 1939 مجموع المغازل في المعامل الثلاثة المذكورة أعلاه (7680 ) مغزلا و(85) ماكنة نسيج (أنوال) .خلال فترة الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) شهدت صناعة الغزل والنسيج الصوفي توسعا كبيرا بفعل زيادة الطلب على منتجاتها بعد الهبوط الحاد في الإستيراد حتى بلغ راس المال المستثمر فيها (155) ألف دينار وعمل فيها (823) عاملا عام 1942 أنتجت ماقيمته (924 ,106) دينار وقد عمل معمل فتاح باشا وبقيت المعامل خلال تلك الفترة بأقصى طاقة لسد حاجة السوق المحلية ولكن بالمقابل تعرضت مكائن وآلات تلك المعامل للتلف وباتت تحتاج للصيانة في نهاية الحرب لذا شهد معمل فتاح باشا إدخال مكائن حديثة عام 1950 بلغت سعتها الإنتاجية نصف مليون متر من المنسوجات الصوفية كما شهد المعمل خلال تلك الفترة وبالتحديد عام 1943 تغيير إسمه من معمل فتاح باشا إلى (شركة فتاح باشا للغزل والنسيج المحدودة.) بناء على طلب أولاد فتاح باشا

لم يقتصر نشاط نوري فتاح الإقتصادي على صناعة الغزل والنسيج فقط بل تنوعت نشاطاته وتعددت فكانت له مساهمات في العديد من المشاريع الصناعية والاقتصادية الوطنية ففي عام 1928 أقدم مجموعة من العراقيين على إستيراد مكائن وآلات لتأسيس محلج وطني بعد أن وجدوا أن شركة إنماء القطن البريطانية التي قامت بتأسيس محلج للقطن في بغداد عام 1920 تحتكر تجارة الأقطان الأمر الذي أدى إلى تذمر المزارعين والتجار وفي 7 تشرين الثاني 1930 وفي منطقة الصرافية في بغداد وبرعاية الملك فيصل الأول تم إفتتاح أول محلج وطني تحت إسم (شركة تجارة وحلج الأقطان العراقية المحدودة) كانت عبارة عن شركة مساهمة رأسمالها (10) آلاف ليرة إنكليزية موزعة على (1000) سهم قيمة السهم الواحد (10) ليرات إنكليزية .

كان نوري فتاح من المؤسسين الأوائل فيها وشغل عضوية مجلس إدارتها تجدر الإشارة أن الشركة تمكنت من حلج وكبس (951) بالة حتى تشرين الثاني 1930 ووصف القطن المحلوج فيها بأنه من أجود أنواع الأقطان المحلوجة غير أن توقيت الإنتاج لم يكن مناسبا لأنه تزامن مع إشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية (1929ـ 1932) التي أدت لإنخفاض الأسعار وهبوط كميات القطن الوارد للشركة من ثم هبوط في الإنتاج لكن بانتهاء الأزمة إرتفعت كميات القطن المحلوج حيث وصل الإنتاج إلى (021 ،2) بالة عام 1934 ـ 1935 ثم إلى (607 , 14) بالة عام 1938 ـ 1939.كما كان نوري فتاح من أبرز المساهمين في تأسيس (شركة الدخان الأهلية) التي كان رأسمالها (300) ألف دينار وقد إستعان نوري فتاح بتأسيس هذه الشركة بمدير فني مصري له خبرة طويلة في مجال صناعة السكائر إكتسبها خلال عمله في معامل السكائر المصرية وقد حصلت الشركة على إعفاءات من الرسوم الكمركية إستنادا إلى قانون تشجيع المشاريع الصناعية كما حصل على إعفاءات إضافية بموافقة مجلس الوزراء نظرا لتوسيع إنتاجه فضـلا عن ذلك كان نوري فتاح مـن المساهمين في شركة السمنت العراقية التي أسست عام 1938 برأسمال قدره (200) ألف دينار وشركة الأسمنت المتحدة والتي قدر رأسمالها عام 1958 بـ (250) ألف دينار.

لم تقتصر مساهمات نوري فتاح عند هذا الحد بل إمتدت لتشمل المساهمة في شركة إستخراج الزيوت النباتية التي أسست عام 1940 برأسمال قدره (30) ألف دينار وبدأت الإنتاج في تموز 1943 والشركة التجارية الصناعية المحدودة التي أسست عام 1948 برأسمال قدره (160) ألف دينار كانت تقوم بإستيراد السيارات والمكائن الصناعية والمعدات الإنشائية وكان نوري فتاح مديرها المفوض كما كان من المساهمين في الشركة الأهلية للتبغ والتي يبلغ رأسمالها (200) ألف دينار وشركة المنصور للبناء ورأسمالها (300) ألف دينار فضلا عن مساهمته في البنك التجاري العراقي وتوليه رئاسة مجلس الإدارة فيه ، ونتيجة للمكانة التي كان يحظى بها نوري فتاح باشا ولكونه من أبرز رجال الصناعة الوطنية في العراق فقد تولى رئاسة إتحاد الصناعات العراقي إعتبارا من 28 كانون الأول 1960 ولغاية 20 كانون الثاني 1963

عن صفحة ( بغداديات ايام زمان )