الى كم فتاح باشا نحتاج ؟

الى كم فتاح باشا نحتاج ؟

رياض الأسدي

في البدء كان يدعى معمل نسيج (العبّخانه) وهي أول مؤسسة بسيطة للصناعة أقامها المصلح العثماني مدحت باشا 1868-1871 في بغداد. ثم أعقب ذلك ما عرف (بمدرسة الصنايع) حيث تلقى البغداديون أوائل العلوم عن الصناعة الحديثة. وكانت السنوات القليلة التي قضاها مدحت باشا في بغداد كفيلة بإدخاله التاريخ الوطني العراقي من أوسع أبوابه الإصلاحية؛ وهو درس مهم لأولئك الذين يرون التغيير يحدث بعشرات السنين بل بمئاتها! من اجل مزيد من (الخدّه) و( الخدر) كما هو المثل العراقي.

ويُعرف عن العراقيين ولعهم الخاص بالصناعة على الرغم من كونهم شعبا زراعيا منذ آلاف السنين. فالزراعة واحدة من اختراعاتهم. بيد أنهم في عهود الفاشية الأخيرة 1963- 2003 لم يتقنوا الصناعة ولا الزراعة ولا التجارة ولا العمران ولا القوانين ولا الكتابة؛ وكانت صنعتهم الوحيدة التي علمها لهم السادة الجدد (التصفيق) ثم (التلفيق) ثم (القال والقيل)؛ وكانت أبواب الموت - وليس العلم- هي المشرعة أمامهم، ولا احد يدري متى ينتهي كلّ ذلك.. حقا؟

هكذا عرف العراقيون صناعة النسيج من جديد في وقت قياسي (3) سنوات، بعد أن غادروها في أواخر العصر العباسي الثاني حيث كانوا من أبرع الأمم فيها. وقبل أن يستعمل العراقيون لفظ (بطانية) الذي ساد بعد ثورة 1958الوطنية، كان البغداديون والبصراويون وربما الموصليون أيضا يسمون البطانية (بلانكيت blanket) وهي من مستوردات( أبو ناجي) طبعا. وكان معمل فتاح باشا قد أتحف العراقيين بأعداد لا تحصى من (البلانكيتات) من نوع فتاح باشا ذات الجودة العالية، حتى كان العراق يصدر الفائض منها إلى الدول المجاورة في ذلك الزمن.

والعراقي بكل إعزاز لم يكن يستعمل البطانيات الأجنبية لأنها كانت الإرداء قياسا ببطانيات فتاح باشا العراقية البغدادية علامة الجودة العراقية العالية بدون الرجوع إلى أي تقييس وسيطرة نوعية. ترى هل بقي لدينا شيئا من الجودة الآن؟! وكان سليمان فتاح باشا قبل أن يفتح معمله الشهير في بغداد معمل فتاح باشا الشهير للبطانيات العراقية "المعتبرة" ضابط مدفعية وصل إلى رتبة لواء في الجيش العراقي. لكنه كان في الوقت نفسه من افخر الصناعيين العراقيين في عصره، كيف لا وقد كانت بطانياته تغطي العراقيين حتى وقت قريب.

ذهب فتاح باشا إلى ألمانيا عام 1926 وجلب لأول مرة معدات ومكائن نسيج مستعمله منها، وأقام معمله وسط بستان، حيث افتتحه الملك فيصل الأول بنفسه. ترى لم اختار فتاح باشا المكائن الألمانية ولم يذهب إلى بريطانيا التي كانت تحتل العراق وقتئذ؟ لا يكمن السبب في الاقتصاد أو الصناعة الأفضل بالطبع؛ بل في منهج فتاح باشا نفسه المعادي للاحتلال الإنكليزي.

فتعرّف البغداديون إلى صناعة النسيج من فتاح باشا حتى أصبح رمزا للصناعة الوطنية أيضا طوال القرن العشرين. كان فتاح باشا وطنيا حقيقيا معارضا للاحتلال البريطاني لذلك فقد ألقت سلطات الاحتلال وقتذاك القبض عليه ونفته إلى (جزيرة هنجام) في الخليج العربي إبان ثورة عام 1920. كانت تلك الجزيرة مأوى للوطنيين العراقيين المعارضين الأوائل ممن قاتلوا الانكليز بضراوة. وكان فتاح باشا واحدا منهم. لم يكن رجلا صناعيا بل وطني (قح) كما يود أن يصفه (البغادة) من مجايليه.

ولم يتوقف فتاح باشا عن تقديم خدماته لوطنه كصناعي حيث أسس (شركة المنصور) التي قامت بإنشاء مدينة المنصور الحالية والتي تعدّ واحدة من أرقى الأحياء في العاصمة قبل ان تصبح مأوى حرّا للإرهابيين والقتلة والمجرمين. ثم تعددت مواهب فتاح باشا واستطاع أن يسجل أسمه بأحرف من ذهب في تاريخ المصلحين العراقيين حتى بعد قيام حكومات ما بعد ثورة 1958 وتأميم شركته عام 1964 في تلك الحركة العارفية البائسة تحت يافطة الاشتراكية الرشيدة!! وهي بالطبع لم تكن اشتراكية ولا رشيدة بل نوعا من السطو الرسمي على الرأسمال الوطني لفتح الأبواب بعد ذلك إلى هجوم الصناعات الأجنبية ليس إلا..

ويبقى السؤال الآن: إلى كم فتاح باشا نحتاج في الوقت الحاضر لنهوض العراق؟ مرحى فقد شكل الرأسمال العراقي الدرجة الأولى للاستثمار.. ولكن أين؟ في الأمارات العربية المتحدة!!(طول عمرنا خيرنا لغيرنا) ولا يزال قانون الاستثمار الوطني يجلس على قارعة طريق المشرعين من حجاج بيت الله الحرام منذ نهاية عام 2006 دون أن نعرف سببا وجيها لذلك. اجل أنهم يريدون للعراق أن يكون مجرد دولة (ريعية) تافهة تعيش على عائدات البترول الذي يراد له أن يكون منهوبا ومسلوبا ومهربا ومسروقا.. أما أن تنشأ في العراق مزارع حديثة أو صناعة متطورة أو تجارة متقدمة .. رحم الله فتاح باشا.