أنتوني هوبكنز: لأنني ما زلت هنا

أنتوني هوبكنز: لأنني ما زلت هنا

عماد فؤاد

لا يشك أحد في أن أنتوني هوبكنز هو أحد أكبر وأهم الممثلين الأحياء الذين عرفتهم السينما العالمية حتى يومنا هذا. السبب ليس فقط الكاريزما السحرية التي يتمتع بها الرجل الويلزي أمام الكاميرا، وجعلت منه وحشاً مخيفاً يبتلع أي ممثل يشاركه الكادر،

ويجعله يختفي عن عين المشاهد فلا يرى سوى عيني أنتوني هوبكنز المؤثرتين، بل أيضاً بفضل نوعية الأدوار المركبة التي قدمها هوبكنز طوال حياته. وهو ما ظهر منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، حين بدأ يقدم أدواراً صغيرة على المسارح الإنكليزية، إلى أن التقطته السينما في أول أدواره في فيلم The Lion in Winter عام 1968، وصولاً إلى أدواره المهمة والبارزة في أفلام باتت تعد اليوم من كلاسيكيات السينما العالمية.

ولعل أهمها على الإطلاق تجسيده لدور آكل لحوم البشر، هانيبال ليكتر، في فيلم "صمت الحملان" عام 1991، ونال عنه أول جائزة أوسكار في مشواره السينمائي عام 1992.

ربما سيندهش البعض حين يسمع أنتوني هوبكنز وهو يتحدث بتواضع شديد في حواراته التلفزيونية القليلة أصلاً، على الرغم من إنجازاته البارزة في مشواره السينمائي والمسرحي. فالرجل البالغ من العمر اليوم 82 عاماً، لا يزال يعتبر نفسه ممثلاً هاوياً، لم يقدم بعد ما يحلم به من أدوار وشخصيات لا تزال تراود خياله.

إلا أنه في السنوات الأخيرة فاجأ جمهوره في جميع أنحاء العالم بشغفه بالرسم والتأليف الموسيقي والعزف على البيانو، وهو ما دفعه إلى إنشاء حسابه الخاص على تطبيق إنستغرام ليستعرض من خلاله لوحاته الجديدة، كما أنشأ حساباً آخر على تطبيق تيك توك الشهير، كأنه عاد طفلاً من جديد، يرقص ويغني ويلاعب قطته، في فيديوهات تقدم صورة مغايرة عن الشخصيات السينمائية التي لا تزال عالقة في أذهان الملايين من محبيه حول العالم.

عزلة كورونا

بسبب خوفه من الإصابة بفيروس كورونا، اضطر أنتوني هوبكنز مؤخراً إلى رفض دور مهم في فيلم من بطولة Kenneth Branagh، أحد الممثلين المفضلين لديه، لكنه لا يزال يشعر بسعادة غامرة بعد ترشيحه لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد عن دوره في فيلم The Two Popes للمخرج البرازيلي فرناندو ميريلس، كما ينتظر بشغف عرض فيلمه الجديد Elyse الذي قامت زوجته الثالثة، ستيلا أرويايف، بإخراجه، والمنتظر عرضه في الرابع من ديسمبر/كانون الأول المقبل.

يعترف هوبكنز في حوار صحافي، نشرته العديد من الصحف الغربية مؤخراً، أنه لم يكن "رجلاً لطيفاً في شبابه، لا، بل كان لئيماً حقاً"، وجاء الحوار مزيناً بصور هوبكنز وهو يرسم لوحاته ذات الألوان الزاهية، التي بدأ يعرضها للبيع مؤخراً في معرضين مختلفين في لاس فيغاس، ووصل سعر بعضها إلى أكثر من 80 ألف دولار، وفقاً لصحيفة لوس أنجليس تايمز التي نقلت عنه أيضاً قوله إنه تخلى عن مخاوفه التقليدية القديمة من الفشل، وبدأ يسمح لمواهبه الموسيقية والتشكيلية بالخروج كما هي، وكان ذلك بفضل زوجته الثالثة الكولومبية المولد ستيلا أرويايف، ذات الـ 64 عاماً التي حملت اسم ستيلا هوبكنز منذ زواجها منه، وشجعته على معاودة المواظبة على الرياضة والتوسع في الرسم وتأليف المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية.

حساب إنستغرام الخاص بهوبكنز عبارة عن معرض تشكيلي ضخم للوحاته ذات الألوان الزاهية، أغلبها وجوه يرسمها هوبكنز على حد قوله "بأسلوب بدائي"، ونرى عبرها صوراً لوجوه ذات ملامح حادة مقترنة بتعليقات ملهمة من قبيل: "قل نعم للحياة، أعظم هدية يمكننا تقديمها لأنفسنا". صار الرسم بالنسبة لهوبكنز خلال عزلة كورونا الأخيرة ولعاً خالصاً، مثله مثل القبعات والساعات الأنيقة وتأليفه المقطوعات الموسيقية على البيانو.

طاقة عدم الانتماء

أصبح هوبكنز في عقده التاسع أكثر هدوءاً وإقبالاً على الحياة، هو الذي يقارن حياته الآن بفترة طفولته وشبابه المبكر فيقول: "عندما كنت طفلاً لم أكن ذكياً، بل كنت متأخراً في المدرسة، وشعرت بالغضب الشديد والارتباك خلال فترة المراهقة، لم أكن أعرف ماذا أفعل، ولم يكن لديّ ذرة من الأمل. ولكن على الرغم من تقاريري المدرسية الكارثية، قلت ذات يوم لوالدي، الذي كان يشجعني دائماً: يوماً ما سأريك ما يمكنني فعله. أتذكر ذلك الآن جيداً، لقد كان عيد الفصح عام 1955، وقلت ذلك باقتناع تام. في نهاية ذلك العام، حصلت على منحة دراسية للكلية الملكية الويلزية للموسيقى والدراما، وفي السنوات العشر التي تلت ذلك، حدثت أشياء غيرت مجرى حياتي، حتى أنني ما زلت أتساءل كيف يمكن أن يحدث كل هذا، تلك اللحظة الحاسمة مع والدي كان لها علاقة كبيرة بهذا التغير". قال الكاتب المسرحي الإنكليزي ديفيد هير ذات يوم إن هوبكنز كان "أكثر شخص قابلته شغفاً بعمله كممثل". وفي فيلم وثائقي آخر، قال هوبكنز شارحاً تقمصه لشخصية الملك لير على المسرح البريطاني: "غضب الملك لير مثل البركان، غضبه يمزقه تماماً، وكان لدي على الدوام الغضب ذاته بداخلي".

وحين يسأله الصحافي في الحوار المشار إليه سابقاً: "من أين أتى هذا الغضب الداخلي وكيف تعلمت السيطرة عليه؟"، يجيبه: "أعتقد أنه كان يعود إلى ذلك الطفل الصغير الذي كنته ذات يوم، كنت طفلاً غير مستقر، أشعر وكأني غريب، لم يكن غضباً متفجراً تماماً، لقد كان نوعاً من الديناميكية، لقد أطلقت على هذا النوع من الغضب "طاقة عدم الانتماء"، لا يمكنك أن تضيع وقتك في حالة من الغضب المستمر، لأن الحياة قصيرة جداً، لذلك كنت محظوظاً لأنني نجوت كل هذه السنوات، ونعم، لقد عشت حياتين". يضيف: "عندما أنظر إلى حياتي قبل 40 عاماً أفكر: يا إلهي، كم كانت فوضاي مريعة، لستُ فخوراً بماضيّ، لقد فعلت بعض الأشياء التي لست فخوراً بها، وتسببت في قدر كبير من الضرر، هناك بعض الأشخاص الذين عملت معهم ماتوا مؤخراً، وقد ماتوا لأنهم دمروا حياتهم، كنت في الطريق ذاتها وفكرت: الحمد لله أنني نجوت من هذه النهاية. أنا سعيد لأنني حررت نفسي من هذا الكابوس، لأن ذلك لم يكن ممتعاً. لم أكن رجلاً لطيفاً، لا، لقد كنت رجلاً لئيماً حقاً. لذلك كنت أقول لنفسي على مر السنين: اهدأ.. اهدأ، الآن أشعر أني محظوظ لأنني ما زلت هنا".

روتين المسرح

كما كان على أنتوني هوبكنز التعامل أيضاً مع العديد من النكسات الشخصية والعاطفية والعملية طوال مشواره الفني، مثل إدمانه الطويل على الكحول، في هذا الحوار يروي كيف سافر في عام 1960 من ويلز إلى أولد فيك Old Vic ، لإجراء تجربة أداء في مسرح لندن اللامع وكيف قال له المخرج آنذاك: "يا إلهي، ربما يوماً ما، لكنني لا أعتقد أنك تملك الآن شيئاً".

بعد عشرين عاماً، وفي المسرح الوطني، جاء المخرج نفسه بساقين مرتعشتين إلى غرفة ملابس هوبكنز ليرحب به، يقول هوبكنز ضاحكاً: "هكذا تسير الأمور"!

في عام 1965 دعاه الممثل والمخرج لورانس أوليفييه إلى الانضمام إلى المسرح الوطني الملكي في لندن، كان شاباً طموحاً، وسرعان ما سرق العرض. يقول أوليفييه في سيرته الذاتية إنه كان عليه أن ينقل دور إدغار في مسرحية رقصة الموت إلى هوبكنز لأنه هو نفسه كان مصاباً بالتهاب الزائدة الدودية: "كان هناك ممثل شاب جديد واعد بشكل استثنائي يدعى أنتوني هوبكنز، كان هو البديل الجاهز عني، ومع ذلك أخذ دور إدغار مثل قطة أمسكت فأراً بين أسنانها". لذلك يرد على سؤال: هل أنت نادم على ترك المسرح؟ بلا تردد بكلمة "لا"، يقولها بحزم مضيفاً: "شعرت فقط أنني لا أستطيع التعامل مع روتين المسرح، لم أستطع إدارة هذا الروتين وكانت مهاراتي الاجتماعية ضعيفة. أعتقد أنني لا أنتمي إلى هذا العالم بعد الآن، ثم تغيرت الظروف وذهبت إلى أميركا وقدمت فيلم "صمت الحملان"، الذي غيّر مسار حياتي. وعندها قلت في نفسي: "ربما يجب عليك الاستمرار في فعل هذا". وهكذا ذهب هوبكنز ليصبح أحد أكثر نجوم هوليود إنتاجاً وأهمية، حيث حصل على أربعة ترشيحات أخرى لجوائز الأوسكار عن أفلامه: The Remains of the Day عام 1993، وNixon 1995 وAmistad عام 1997، وهذا العام عن دوره في فيلم The Two popes.

عندما كنت طفلاً بالنسبة لأي شخص يتطلع إلى سنوات شيخوخته الأخيرة بخوف، فإن أنتوني هوبكنز الذي يبلغ اليوم 82 عاماً، خير مثال على أن العمر مجرد رقم، وهو أسعد مما كان عليه في أي وقت مضى، بفضل زوجته الثالثة ستيلا التي فتحت عينه من جديد على جمال الحياة، ودفعته إلى معاودة ممارسة الرياضة والاهتمام بلياقته الجسمانية من جديد، بعدما كان ضائعاً لسنوات.

ولذلك يقول هوبكنز إنه اعتاد ألا يعرف أبداً ما الذي يجب أن يؤمن به في حياته، ولكن يبدو أنه بات الآن مقتنعاً بوجود قوة ما تأتي من داخله: "لقد نجوت حتى وصلت إلى هذا العمر، على الرغم من شكوكي وماضيّ، إلا أنني كنت دائماً مندهشاً، أعتقد أن هذا يرجع إلى نوع من الثقة أو الإيمان ببعض أشكال الطاقة الموجودة في أعماق كل واحد منا. لستُ طبيباً نفسياً أو فيلسوفاً، على العكس من ذلك، لكنها شيء ربما كنت استمد قوتي منه بالفعل عندما كنت طفلاً". لكل هذه الأسباب، أطلق هوبكنز للتو مجموعة أنتوني هوبكنز من الشموع المعطرة والمبخرات وماء العطور، مستوحياً المشروع من روائح الريف التي كبر بينها حين كان طفلاً في ضاحية مارغام جنوب ويلز، داعماً من خلالها لحملة "لا طفل جائع" No Kid Hungry التي تقوم بها منظمة "شارك قوتنا" Share Our Strength الخيرية الأميركية. يقول: "لقد عملنا على ذلك لمدة عام ثم أدى الإغلاق بسبب فيروس كورونا إلى تغيير كل شيء. أدركنا أن العائلات في جميع أنحاء العالم يجب أن تتحمل محناً شديدة، وخاصة الأطفال الذين لم يتمكنوا من العودة إلى المدرسة. حدثت أشياء كارثية هذا العام، وكل ما يمكنني فعله هو محاولة استخدام إيجابيتي لمساعدة الناس على التغلب على هذا الفيروس اللعين"

عن القدس العربي