يوم عرفت بغداد الكهرباء وأعمدتها

يوم عرفت بغداد الكهرباء وأعمدتها

محمد العمر

ليست هناك مدينة في الكون مثل بغداد صنعت تاريخها بعذاباتها.
مجدها شعراؤها حتى وصفوها بجنة الخلد، ورثوها بمراثيهم حتى وصفوها بارض الخراب وينبوع الدم.
ماتت ثم قامت للحياة عشرات المرات انها بعشر ارواح.

تستنسخ علماءها وافذاذها وكرامها وشعراءها مثلما تستنسخ انذالها ولصوصها وطغاتها.

انها اعجوبة الامل واعجوبة الالم، ورغم كل شيء تبقى بغداد هي بغداد كما وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان: 'ام الدنيا وسيدة البلاد'.

بين سنة1917 وسنة 1929 اثنتا عشرة سنة. وفي هذه السنوات الاثنتي عشرة حصلت في بغداد احداث مهمة، لعل من ابرزها انتقال العراق من التبعية العثمانية الى التبعية البريطانية. فلقد انقضى عصر اخذ من عمر العراق اربعة قرون، وبدأ عصر جديد اصبحت فيه بغداد تدار من قبل الجيش البريطاني، وكان على هذا الجيش ان يؤلف حكومة لبغداد وان يدير المدينة بما ينبغي ان يجعل اهلها يحبون العيش فيها لا ان يهجروها. لكن الحدث الاهم هو دخول 'الكهرباء' الى بغداد عام 1917.

وتخيل حين تدخل الكهرباء الى بلد كان يعيش الحياة اليدوية، اي كل شيء كان يدار باليد وكانت ايدي الناس تتلمس الطريق بصعوبة وسط ظلام الحياة.. ظلام يخيم على العقول والنفوس حتى حين كانت الشمس تشرق على هذه المدينة التي تضع اقدامها في وحل الفيضان والاوبئة كل ثمانية اشهر من كل عام.

ففي تشرين الاول من عام 1917 انتهت عمليات غرس اعمدة الكهرباء الضخمة في وسط بغداد. وربطت الاسلاك الناقلة للتيار الكهربائي عليها. وفي اول ليلة من شهر تشرين الثاني عام 1917 تألقت الانوار في الجادة الجديدة (شارع الرشيد).وخرج اهل بغداد عن بكرة ابيهم الى الشارع وراحوا يتحلقون حول اعمدة النور، ونظراتهم تتطلع الى اعلى حيث تلك المصابيح التي تشتعل بدون كاز او نفط او شخاط. كأنها عيون الجن. وراح بعضهم يصرخ بين المتجمعين بان هذه الاضوية تشتعل بسحر الشيطان. وان الانكليز الكفرة جاءوا بالشيطان معهم بعد ان اخرجوا العراق من رحمة الخلافة الإسلامية.

وكان الملا (صقر) الذي يتخذ من محلة الدهانة لغاية محلة الخلاني الى الشورجة مجالا لنشاطه اكثر الناس كراهية للكهرباء حتى انه اطلق على ذلك اليوم وصف يوم 'الاثنين الاسود'، رغم ان الناس كانوا يلبسون السواد ويعيشون في الظلام منذ قرون.

التقته خديجة الحافوفة وهي تصحب ابناءها الاربعة عند مدخل الزقاق. قائلة له بفرح:

- خديجة: الله يساعدك ملا صقر.. شعجب اليوم مارايح وي الناس للحيدرخانة؟ الناس كلها راحت ياملا .. اليوم راح يشعلون الكهرباء؟

رد عليها الملا بغضب وتهكم:

- ملا صقر: يشعلون جهنم.. مااريد ادخل جهنم مثلج ياخدوجة!

تجفل خديجة الحافوفة صائحة باستغراب:

- خديجة: ابه دادة! ليش ياملا، ليش؟ ليش دخلتني جهنم ليش؟ وانا امس كنت بالكاظم ودعيتلك وانطيت مية فلس نذر للحضرة. ليش ملا على بختك دخلتني جهنم؟ شمسويه؟!

يرد عليها ملا صقر وهو يلف طرف عباءته وكأنه لايريد المكوث طويلا مع هذه الجاهلة:

- ملا صقر: كلمن يروح يشوف الشيطان يروح وياه لجهنم.

- خديجة: و منو قال لك آني رايحة اشوف الشيطان ياملا ؟ على بختك انا رايحة حالي حال الناس اشوف الكهرباء اللي خلوها الانكليز.

- ملا صقر: انتي تعرفين هذه الكهرباء شبيها ما بيها ؟

- خديجة: لا والله ملا ؟

- ملا صقر: تعرفين شنو اللي وراها وشنو اللي كدامها ومنواللي سواها ومنو اللي جابها؟

- خديجة: لا والله ملا. انا حالي حال الناس. اسمعهم يقولون بعد ماراح نستعمل الفوانيس واللمبات ولا المهفات. وراح تصير عدنا معامل وراح نشرب ماي مبرد؟ وراح شوارع بغداد تصير مضوية ونخلص من الحرامية وكلشي يصير زين.

- ملا صقر: الناس جهلة، موكلشي اتقوله الناس احنا انصدقه. هذي الكهرباء قطعة من نار جهنم. وذوله الانكليز الملاعين هم حراس جهنم اللي الله سبحانه ذكرهم بالقرآن.

خديجة تجفل صائحة وهي تجمع اولادها بأيديها وتعود ادراجها من حيث اتت:

- خديجة: ابه دادة! صخام الصخمني!! انا رايحة لجهنم وما ادري (تخاطب اولادها) يالله يمه يالله خل نرجع نكعد في بيتنا احسن مما نصير ابجهنم على قولة الملا .. ينطيك العافية ملا. (تلتفت نحوه) ملا! انا اليوم طابخة بامية تريد اوديلك طاسة بامية؟؟

- ملا صقر (يلتفت نحوها) وياريت وياها صحن تمن حتى ادعيلج اليوم بصلاتي.