إميل سيوران..  حياكة الجليد

إميل سيوران.. حياكة الجليد

مقداد مسعود

أرى سيوران وريثا شعريا لفلسفة نيتشة .. يغرس ريشته في محبرة نيتشة، ليرسم قلبه هو لاقلب نيتشة فهو يفكر بتوقيت نبضات قلبه هو..أعني ثمة مختلف بين نيتشة وسيوران ،مختلف بكثافة فاصلة..وإذا كان نيتشة يهزأ بسقراط ..

فأن سيوران يرى سذاجة نيتشة كلها في مقولته( مابعد الخير والشر) والسذاجة النيتشوية ،لم تر ان (الإنسان لم يتهيأ بعد لمرحلة مابعد المانوية لما تتطلبه من وعي وإدراك يكادان يخرجان الإنسان من التاريخ ذاته/ص10/ تاريخ ويوتوبيا)..ولايخلو سيوران من كونفوشيسية ،في قوله..(هذا العالم لايستحق أن نعرفه/ص55) يقول كونفوشيوس(حمدا لله انني لستُ خالق هذا العالم..ان منظر هذا العالم وحده يقززني)..واذا كان نيشة يصرخ في أول سطر(هكذا تكلم زرادشت) ..(كتاب للجميع ولغير أحد ) فأن سيوران يعلن ان الكتب التي تستحق التأليف،تشترط مؤلفين لايفكرون بقرّاء..وسبب هذا الأشتراط..هو تحرير المؤلف من أحلام القراء..حتى لايخسر نفسه وحريته في الحلم والكتابة خارج انظمة السلوك الجمعي..

(*)

كتابة سيوران هي محاولة في اللاكتابة..وهنا يقفز الى ذهني النفري في قوله..(ألاّ تكتب وأنت تكتب)..وكلاهما يطالب بكتابة جامحة ضد النسق المؤيد من قبل الجمهور..

(*)

من يقرأ سيوران …لاينال كرسيا هزازا ولاوسادة ناعمة تجلب النوم المحلوم بأقواس قزح..كل مايحصل القارىء عليه حزمة تساؤلات سيحاول التواصل معها اما بأجابات مبتورة او أجوبة متساءلة بدورها تقودنا للبحث عن الهوية أو للتحاور مع الغرب كحضارةلا كأستعمار..(لماذا ننسحب ونغادر اللعبة، مادام في وسعنا أن نخيب ظن المزيد من الكائنات) .

(*)

سيوران يشعرن سروده الفلسفية ويموسقها وهكذا دون قصد من سوداويته..يضخ فيها الكثير الكثير من اشراقات البهجة..سيوران يلتقط الجوهر ويصوغه شذرات ويغرس الشذرات مصوغات ذهبية، هل رأى في أجناسية الشذرات حريته اللسانية؟ أم حريته في الاختيار الحريص على الاقتصاد الاسلوبي..وهو في كتاباته يبشر بالفراغ ويمهد الطريق للعدم..(ثمة راهب وجزار يتحاربان داخل كل رغبة/140)لايرتعش من الموت ..لكنه يمقت الانتحار..سيوران…هل ميّز بين (الأنتحار المراهق من الأنتحار الحقيقي ) فالمنتحر الاول يستنجد في حين أنتحارالثاني تقرير حسب ريجيس دوبرية..

(*)

سيوران …الذي يرفض الجمهور..صار له جمهورا في كل مكان.. من خلال خمسة عشر كتابا نشرها..وإذا كان يمقت الظهور كفتاة الاعلان ..أو كمشاهير السينما فأنه كان معرفيا دؤوبا في حضوره الانتاجي للفلسفة..

(*)

هكذا كان سيوران كما أراد هو في البدء سعيدا جدا لأنه مقروء من قلة القلة وبطبعات محدودة لمؤلفاته..وإذا كان سارتر قد رفض نوبل لأسباب سياسية ،وصنع ابراهيم رفض جائزة الدولة التقديرية في مصر..ورفضها في كلمة القاها..فأن سيوران أصيب بأحباط نفسي كبير في 1988 حين أعلن انه سينال جائزة بول موران، فأعلن هو بدوره عن رفضه لهذه الجائزة.. لأن اي جائزة تحط من منزلة الكاتب وتعمل على تدجينه وتطويقه بالمعجبين والمعجبات، وهذه افضل طريقة لتدمير المشروع المعرفي للكاتب اي كاتب..

هذا كان رأي سيوران دائما..أي زهد لدى سيوران؟ وأي حرص على الكتابة؟ كم يخاف سيوران على سيوران من سيوران؟ أي درس في المعرفة يمنحنا هذا المجنون الناصع الصاهل في ظلمات برية القرن الحادي والعشرين؟..

*سيوران من خلال شذراته

*أن تكون إنسانا حديثا هو أن تبحث عن عقّار لمِا أفسده الدهر

*الشاعر ماكر يستطيع أن يتلوى من البرد إلى حد المتعة.

*لامفر لكل مفكر في بداية حياته المهنية،من الاختيار بين الجدل والنواح.

*الحزن شهية لاتشبعها أيّ مصيبة

*هل وصلت حياتك الى نتيجة؟ إذن لن تعرف أبدا الكبرياء

*لاشيء يثير زهونا مثل عقدة الموت: العقدة وليس الموت

*لايستطيع أحد أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا

(*)

تابع لترجمات كتب سيوران..ان هذا المفكرفاشل في الاتكيت ولا يملك تقنيات الخجل المصنّع برجوازيا..هل قلت انه لايستحي؟! في زمن اصبح ورقة التين ذكرى مخجلة للأغلبية،وأصبحت هذه الاغلبية تتبارى في تقنيات العري وتمأسس له فقها افتراضيا؟! في هذا الجو المفرغ من الهواء يكون (الغبي وحده مجهّز للتنفس) بشهادة سيوران..وبشهادته الناصعة يعلن…(أنكب الشرق على الزهور والزهد وهانحن نعارضه بالالات والجهد وبتلك الكآبة المهرولة – آخر انتفاضات الغرب) .

ولايكتفي سيوران بذلك (نحن نعرف الآن أن الحضارة قابلة للموت وأننا نهرول نحو الاختناق، نحو معجزات الأسوء،نحو العهد الذهبي للرعب)..دائما أغبط سيوران على هذه الشذرة الفاتكة،هذه الشذرة العذراء(وحده الأرغن يبيّن لنا كيف تستطيع الابدية أن تتطور)..لاأقول كم نسبة الشعر هنا..بل اتساءل اي شاعر كبير في هذا الفيلسوف المجنون؟ فهو يرى ان الموسيقى والفلسفة توأمان..ثم يضيف(لولا أمبرياليتها كمفهوم لقامت الموسيقى مقام الفلسفة/ص146)..وهو يطوف على دراجته الهوائية في أخضرار الندى الفرنسي تمنى ان يكون موسيقيا لأسباب لغوية..(من الأفضل ان يكون المرء مؤلف أوبريت على ان يكون صاحب ستة كتب في لغة لايفهما احد/ص14) .

وهل هناك عطر يتفوق على باريس الحضارة والحب؟..ألم يتفرنس الروسي نابا كوف وكذلك يونسكو والآن معلوف الروائي اللبناني الذي كل رواياته مكتوبة بالفرنسية..وقبله تفرنس أميل سيوران..وحسب سيوران..(بمعاشرة الفرنسيين نتعلم كيف نكون تعساء،بلطف/85) .

(*)

بمعاشرة اللغة الفرنسية والسكن في نبض حريرها الاهيف اصبحت نصوص سيوران( حدثا داخل الحدث)..علينا ان لانسأل لماذا سيوران يكتب بالفأس او الساطور..!! علينا ان نتعقب آثار ذلك الذي حوّل سيوران الى شظية لن تبرد ابدا لا..لم اعن ان سيوران قاتل من خلال الكلمات وان اداة الجريمة عنده أما الفأس..أو الساطور..أردت القول ان سيوران يكتب بجسده كله..لكنها ليست كتابة جنسية..أن يحاول تعويض الروح بأغتصاب كوني لامثيل له..

(*)

دخل الى الفلسفة من رحاب الادب فأكتشف شكسبير من خلال ماكبث..وأصبح ما كبث مراياه كلها..ثم اكتشف ان ماكبث مسروق من سيوران !! لكن رغم هذه السرقة فهو كان يجالس شكسبير حتى في المقاهي!! *إذن حتى نفهم سيوران ونكون في تماس مع انشدادته وانسدادته يشترط التماس علينا ان تكون نسبة دمنا تحتوي على مس من الجنون ممزوجا بالهيموغلوبين،فهو يعرفنا من انهمامنا المعرفي..(لايهتم بي إلاّ من كان به بعض من مس..) ..وهناك من يتساءل في هذا الصدد :هل كل كتابات سيوران فعالية دائمة في انتاجية الخطأ يصحبها الاعتذار عن الخطأ ذاته ؟ !!