كربلاء في القرن التاسع عشر..كما شاهدها الانكليزي جون أشر

كربلاء في القرن التاسع عشر..كما شاهدها الانكليزي جون أشر

محمد طاهر الصفار

رغم تباين مواقف الكتاب الشرقيين حول مدوّنات المستشرقين والذي شغل حيزاً واسعاً في دائرة الدفاع والهجوم عنهم وعليهم إلا أن الرؤية المحددة التي لا يمكن أن تحجب والبعيدة عن الإطراء والتجني هي أنهم حفظوا لنا كثيراً من التراث الذي لم يلتفت إليه من هاجمهم, ودوّنوا المدنيات الشرقية ودققوا في أصغر تفاصيلها في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والفكرية والأدبية وجمعوا المخطوطات العربية وحفظوها من الضياع والتضييع.

وليس معنى هذا أن نتلقى ما دوّنوه تلقي المسلمات التي لا تخضع للنقاش أو نقف منهم موقف من لا يرى في أعمالهم أية زلة, بل إن حالهم حال المؤرخين العرب يصيبون ويخطئون غير أن النظرة إلى الخطأ يجب أن تأخذ منحىً علمياً لا تهجمياً وهو إن أخطاءهم كانت نتاج عدم إحاطتهم بالتمام بفهم العربية ودقائقها أو الفهم الشامل لمفاهيم الإسلام وهو خطأ واضح أنه عن غير قصد, وليس كما ينظر البعض إلى الاستشراق على أنه (استعمار) رغم أن الاستشراق سبق الاستعمار بفترة طويلة.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ: (إننا ندين للمستشرقين بجمع التراث وصونه من الضياع... وتسألون: وماذا لو تركوا تراثنا لنا, أما كنا أهلا لجمعه وصونه فأجيبكم بملء يقيني: كلا... كنا في غفلة عنه لا نكاد نحس وجوده أو نعرف قيمته أو نقدر حاجتنا إليه....).

ولعل الدكتورة هنا وضعت اليد على الجرح الذي لم يندمل إلى الآن, بل ازداد نزيفه ونحن نقرأ عن المكتبات الضخمة التي حُرقت في كثير من أدوار تاريخنا الإسلامي بسقوط دول وقيام أخرى لأغراض طائفية وسياسية, ووجود آلاف من المخطوطات الشرقية النفيسة والنادرة في متاحف العواصم والمدن الغربية ومكتباتها وهي محفوظة ومصونة.

جون أشر

دوّن أشر مشاهداته في رحلته إلى الشرق بأمانة وتطرّق إلى تاريخ المدن والمشاهد التي زارها بموضوعية متبعاً طرق البحث المنهجي المنظم وأحاط بها ــ ما استطاع ــ الإحاطة, ونستشفّ من خلال ما كتبه في مدوّناته عن كربلاء خلال زيارته لها عام (1281هــ/1864م) الاهتمام البالغ بحيثيات الحياة اليومية للمدينة والتطرّق إلى تاريخها حيث: (أورد لمحة عن تاريخ مأساة الإمام الحسين مع يزيد بن معاوية وحكاية قدومه إلى كربلاء في طريقه إلى الكوفة, وقتله ظلماً وغدراً من قبل عبيد الله بن زياد وأتباعه, ثم يذكر تفصيلات تاريخية نقلاً عن بعض المراجع الغربية وبعد ذلك أشار إلى أن المسلمين يقيمون في كل سنة مراسم العزاء تخليداً لبطولة الحسين واستشهاده..)

وصل أشر إلى كربلاء عن طريق المسيب بعد أن عبر جسرها المصنوع من القوارب ومرّ بالبساتين الممتدة على جانبي طريق الحسينية فدوّن إعجابه بمدخل كربلاء وكثرة البساتين الجميلة حولها, وعند وصوله إلى مشارف كربلاء أرسل شخصاً من أفراد قافلته يحمل كتاب توصية إلى قائمقام كربلاء (العثماني) ففتح له باب السور لدى وصوله إليها بعد مغيب الشمس فمرّت قافلته بين أزقة البلدة الضيقة التي كانت تضيء ظلمتها الفوانيس المعتمة التي بعثها القائمقام لتحمل أمامه إلى داره حيث استضافهم فيها.

أعجب أشر بكربلاء كثيراً عندما طاف في أسواقها في اليوم الثاني لقدومه إليها كما يقول الاستاذ جعفر الخياط: (فقد ألفى البلدة عندما تجوّل فيها خلال اليوم الثاني بلدة ذات حركة غير يسيرة ونشاط ملموس برغم عدم اتساعها, لأن أسواقها كانت تزدحم بالزوار الذين أتوا لزيارة ضريح الإمام الحسين (عليه السلام). ويسترسل الخياط في سرد ما دوّنه أشر عن قصة الإمام الحسين (عليه السلام) مع يزيد ثم يصف مشاهداته فيشير إلى (أنه لم يجد فيها علامات الركود والانحطاط التي شاهدها في البلاد التي مر بها خلال رحلته، وقد كان كل شبر متيّسر فيها من الأرض مشغولاً بالبيوت المتراصّة, أو التي كانت في مرحلة التشييد، وقد وجد فيها عدداً من مسلمي الهند مقيماً في بيوت قريبة من الضريح المقدس، كما لاحظ بين الزوار كثيراً من الإيرانيين والأفغان الذين تحملوا مشاق السفر البعيد من أجل التبرك بزيارة الإمام الحسين الشهيد.

ورغم ضيق الأسواق إلا أنها مزدحمة بالزوار كما يقول فهي محتشدة بالناس إلى أقصى الحدود ووجد السلع المعروضة للبيع فيها لا تتجاوز حاجات الأعراب المحيطين بالبلدة ولوازمهم مثل الكفافي والأعقلة والعبي وما شابه إلى جانب الأطعمة والمؤن كما وجد فيها الأحجية والتعاويذ التي يصنعها الصاغة وقد اشترى بعضاً منها.

كما تسنّى لأشر أن يتجول في البساتين التي تقع خارج سور كربلاء والتي وجد فيها سواقي المياه وهي تخترق التربة الخصبة بكثرة ويصفها بالمنتجعات المؤنسة لأهالي كربلاء في أيام الصيف فهم يخرجون إليها ليجلسوا في تحت ظلالها ويشربوا الشربت والقهوة.

دفن الموتى

يصف أشر ساحة الصحن المحيطة بالضريح المقدس والمحاطة هي أيضاً بالبيوت بأنها لم تكن مبلطة وإن جنائز المتنفذين والموسرين من الشيعة الذين كان بوسعهم دفع الرسوم والمصاريف المطلوبة كانت تدفن فيه, ويشير أشر أيضاً إلى ثمن هذا الامتياز الباهض الثمن والذي يتطلب مبلغاً كبيراً من المال, ويتضاعف هذا المبلغ إذا كان الدفن قريباً من الضريح المقدس, أما غالبية الناس ممن ليس لهم استطاعة على دفع هذه الأموال فإن المألوف هو أن تزوّر الجنازة التي يؤتى بها إلى كربلاء ويطاف بها حول الضريح المقدس ثم تؤخذ إلى المقابر المعروفة في البلدة.

ولكن حتى هذه الجنائز لا تسلم من الضريبة التي تفرضها الحكومة العثمانية التي لا يسلم حتى الموتى من ضرائبها حيث لا تسمح الجهات المسؤولة في باب المدينة بإدخال الجنازة دون إداء الجباية. كما لا تسمح بإدخال عدد كبير من الجنائز إلى البلدة دفعة واحدة لأنها تصل بأعداد كبيرة في بعض المواسم بحيث يؤدي دخولها كلها إلى انتشار الأمراض وازدحام الطرق والأزقة داخل البلدة ويرافق كل جنازة شخص أو أكثر من أقارب المتوفى.

ويعقب الأستاذ جعفر الخياط على قول أشر حول نقل الجنائز هذه المسافات الشاسعة التي تستغرق مدة طويلة مما يؤدي إلى الضرر بها وهتك حرمة الميت فيقول: (لقد أجمع العلماء الروحانيون على تحريم نقل الجنائز من الأماكن البعيدة لدفنها في العتبات المقدسة إذا كان هنالك ما يمس حرمة الميت مما كان يقع في السنين السالفة, ولكن السواد لم يكن يعبأ بهذه الفتاوى فكانت الجنائز تنقل بصور تخالف تحديد الشرع وتسبب انتهاك حرمة الميت فتصدّى السيد هبة الدين الشهرستاني الحسيني على أثر حادثة من هذه الحوادث الخارجة على حدود الشرع في نقل الجنائز وجمع كل الفتاوى التي تنص على تحريم هذا النقل بتلك الصورة وأخرج به كتاباً قبل منتصف القرن الرابع عشر وساق في كتابه هذا أمثلة كثيرة على ما كان يقع في مثل تلك الأيام من نقل الجنائز المحرم فأحدث كتابه ضجة كبيرة, ولقيت صرخته كما تلقى عادة كل صرخات المصلحين في بادئ الأمر على الرغم مما كان قد تسلح به هذا الزعيم المصلح من الفتاوى التي قالت بحرمة النقل على تلك الوجوه ومع كل ذلك فقد بدأت الصرخة تحدث بعض التأثير يوما بعد يوم حتى لم يعد اليوم شيء من تلك الصور التي أثبتها (جون أشر) و(لوفتس) في كتابيهما وأصبح نقل الجنائز يجري بالطرق المألوفة في العالم فليس هناك من انتهاك حرمة ولا أي شيء مما يرفضه الشرع)

كما يصف أشر القوافل القادمة إلى كربلاء وهو في طريق عودته إلى بغداد حيث شاهد واحدة منها لا يقل عدد المسافرين فيها عن مائة شخص وكان قسم منهم يمتطي الخيول وقسم آخر يمتطي الإبل, وكانت النساء يُحملن في (التخت روان) الذي يحمل على البغال على أن قسماً كبيراً منهم كان يخوض هذه السفرة الطويلة المتعبة راجلاً !!

ودّع أشر كربلاء بعد أن قضى فيها عدة أشهر وهو يحمل معه التعاويذ التي اشتراها منها مع هذه الذكريات..

عن موقع ( العتبة الحسينية المقدسة )